تعيش ليبيا منذ تسع سنوات على وقع اضطراب سياسي وأمني خطير، تمددت رقعته مع توسع العمليات العسكرية وفشل كل التسويات السياسية لحل الأزمة.
إذ أصبحت ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، بلدا مفتتا تنتشر فيه عدة قوى متنافسة مدعومة من مجموعات أو فصائل تخوض صراعا محتدما للسيطرة على البلاد.
فمنذ 2011 فشلت ليبيا في تشكيل حكومة قادرة على توحيد الشعب، ولكن بدلاً من ذلك أصبحت مسرحاً للصراعات السياسية على السلطة، وبؤرة للمنظمات الإرهابية المتعددة، وتجار الرقيق والعصابات المحلية والأجنبية وكل هؤلاء تصارعوا للسيطرة على الموارد الطبيعية الغنية للبلاد.
وتسبّب التدخّل الغربي في ليبيا في إنتشار السلاح و الميليشيات المسلّحة و إنعدام الأمن، إضافة إلى تفجير حرب أهلية تدور رُحاها منذ 2013.
حيث أصبحت ليبيا منذ العام 2011 تعاني من الإنتشار المستمر للأسلحة وتوسع نفوذ المليشيات الإسلامية التي حولت المدن الليبية الى ساحة حرب كبيرة راح ضحيتها المدنيون، وصولاً إلى تمدد تنظيم "داعش"الإرهابي في الأراضي الليبية مستفيداً من انعدام الاستقرار في دول الجوار، فيما انقسمت البلاد سياسياً وعسكرياً على وقع حكومتين في طبرق وطرابلس.
وانتهز تنظيم "داعش" فرصة الفوضى ليتسلل إلى البلاد حيث احتل سرت، مسقط رأس القذافي، لأشهر قبل أن يطرد منها في ديسمبر 2016، ولكن حتى بعد إضعافهم ما زال المتشددون ينتشرون في الصحراء ويشكلون تهديدا قائما.
من ذلك،يرى مراقبون أن ضربات الناتو في ليبيا هي التي مكنت المجموعات الإسلامية من التمدد في ليبيا وما جاورها، فاستولت على مخازن السلاح الهائلة ووزعتها على مختلف الجبهات، من مقاتلي تنظيم القاعدة، وخاصة الجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بـ«القاعدة»، وهذا ما ثبت فيما بعد.
وبدأ هذا التهديد يتّضح بشكل جلي في سبتمبر 2012 عندما هاجم جهاديون، بعضهم ينتمي لتنظيم أنصار الشريعة، المجمع الدبلوماسي الأمريكي في بنغازي، وقتلوا كريستفور ستيفينز، السفير الأمريكي في ليبيا، وثلاثة من زملاءه كما أعلنت الأمم المتحدة بشكل رسمي تنظيم "أنصار الشريعة"منظمة إرهابية بسبب صلتها بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي.
كما أصبحت ليبيا معبرا للهجرة السرية، وتتهم باستمرار بإساءة معاملة واستغلال مئات الآلاف من المهاجرين القادمين خصوصا من أفريقيا جنوب الصحراء بهدف محاولة عبور البحر المتوسط إلى أوروبا.
في ذات الصدد،يقول مدير مكتب صحيفة "واشنطن بوست"في القاهرة سودارسان راغافان، في أحد تقاريره، إن ليبيا لم تتعاف بعد من الأعراض، التي تركها اعتداء الناتو في مارس/آذار 2011، وما انبثق عنه من تبعات تمثلت في قتل الزعيم الليبي معمر القذافي.
ووفقا لسودارسان، فإن ليبيا أصبحت "مركزا مزدهرا لتجارة البشر"حيث يأتي إليها من كل حدب وصوب في أفريقيا، المهاجرون غير القادرين على دفع تكاليف السفر للشركات غير القانونية، ليتحولوا إلى عمال عبيد مقابل صحن حساء، هذا إضافة إلى تعرضهم للتعذيب. أما النساء فيجبرن على ممارسة الدعارة..
ويلاحظ سودارسان أيضا أن عدد المهاجرين، الذين يغادرون ليبيا قد ازداد، وارتفع عددهم بنسبة 28% خلال عام واحد؛ مشيرا إلى فشل الجهود الدبلوماسية والعسكرية، التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتحقيق الاستقرار في البلاد، بحيث أن الليبيين فقدوا أي أمل في الانفراج. كما يعتقد معظمهم أن "الأسوأ لم يأت بعد".
على الصعيد السياسي، تتنازع سلطتان الحكم ولم تنجح اي منهما في احلال النظام بالكامل في الاراضي التي تؤكد انها تسيطر عليها.
الأزمة الليبية لم تتخذ طابعًا أمنيا فقط إذ كانت لها إمتدادات سياسية عزّزت حالة الفوضى المستشرية،إذ أدار المجلس الوطني الانتقالي،المرحلة الإنتقالية بداية من 27فبراير 2011، برئاسة الوزير السابق في نظام القذافي، مصطفى عبدالجليل، حتى تسليمه السلطة للمؤتمر الوطني العام، المنتخب في أغسطس 2012 قبل أن يقوم المجلس بحلّ نفسه.
وكان لصعود الإسلاميين للحكم أثره السلبي في استقرار البلاد، فقد قاموا بتشجيع الجماعات المتطرفة المسلحة بالتواجد في الأراضي الليبية، ليكونوا أذرعهم العسكرية، لفرض إرادتهم على الشعب، أو لتحميهم من أيّة تقلبات سياسية، استمر الإخوان في الحكم إلى أن تمت انتخابات مجلس النواب، وهي أعلى سلطة تشريعية في البلاد، والتي كان من المفترض أن تعيّن حكومة جديدة.
خسرت جماعة الإخوان هذه الانتخابات، ممثلة في حزب "العدالة والبناء"، المسيطر على المؤتمر الوطني العام، فأعلنوا رفضهم لنتائج الانتخابات، وتمسّكوا بالحكم، واستخدم الإخوان المسلمون جماعات متطرفة، مثل: غرفة عمليات ثوار ليبيا، ودرع ليبيا، المسلحتَين، للسيطرة على العاصمة طرابلس، وذلك في أواخر أغسطس، إذ أعلنت هذه المليشيات المتحالفة مع الإخوان؛ أنّ المؤتمر الوطني العام هو البرلمان الوطني، وأرادت فرض كلمتها بقوة السلاح.
من ذلك أعلن مجلس النواب المنتخب تكوين حكومة جديدة، برئاسة عبد الله الثني، واتخذ مقراً مؤقتاً له في طبرق وهنا أعلن المشير خليفة حفتر انحيازه لمجلس النواب المنتخب حماية للمسار الديمقراطي ورفض وصاية الجماعات المتطرفة المسلحة.
أصبح بالتالي في ليبيا حكومتان؛ الأولى في طرابلس يؤيدها الإخوان والجماعات المتشددة المسلحة، والحكومة الثانية في طبرق، ويؤيدها الجيش الوطني الليبي.
استمرّ الصراع بين الحكومتين، من 2014 حتى عام 2015، عندما تمّ التوقيع على اتفاقية الصخيرات بالمغرب، بتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2015، وتحت إشراف المبعوث الأممي، مارتن كوبلر، بحسب ما أعلنته الأمم المتحدة بموقعها، وقّع على هذا الاتفاق 22 برلمانياً ليبياً، ووقّع عن طرف المؤتمر الوطني العام الجديد، صالح محمد المخزوم، وعن طرف مجلس النواب الليبي، محمد علي شعيب، ونصّ الاتفاق على تكوين حكومة وفاق وطني تدير المرحلة الانتقالية لمدة ثمانية عشر شهراً، ومنح صلاحيات رئيس الحكومة لمجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني، ومن أهمها قيادة الجيش والقوات المسلحة، مع الاعتراف بمجلس النواب، وفي حال عدم انتهاء الحكومة من مهامها، يتم تمديد الفترة ستة أشهر إضافية، ونصّ الاتفاق أيضاً على تشكيل المجلس الأعلى للدولة من أعضاء المؤتمر الوطني العام الجديد، وتمّ تسليم المهام لحكومة الوفاق، في 1 أبريل 2016.
حيث كان من المفترض أن تنتهي الفترة الانتقالية لحكومة الوفاق في أكتوبر 2017، ومع التمديد ستة أشهر، يكون انتهاء المرحلة الانتقالية، في أبريل 2018، وكان على حكومة الوفاق أن تقوم بسنّ قوانين تقلّص وجود الجماعات المتطرفة إلّا أن تمسك حكومة الوفاق بمنصبها بالتالي الدخول في حالة اللّاشرعية التي أقرها إتفاق الصخيرات جعل من الوضع الميداني يتغيّر ليتحرّك الجيش الليبي في إتجاه تصحيح المسار أمام تعنّت الوفاق التي يزداد غرقها في أوحال صراعات المواقع الداخلية.
عدم الإستقرار السياسي و حالة الضعف و الترهّل التي تعيشها الدولة منذ 2011 بنسق متصاعد قوبلت بحالة غضب و إحتقان شعبية إذ يعتبر تردي الأوضاع المعيشية والأمنية وانتشار الفساد من الأسباب الرئيسية لاندلاع الاحتجاجات في غرب ليبيا حيث خرج المتظاهرون للتعبير عن غضبهم وللدعوة لتغيير الأوضاع المزرية.
وتظاهر خلال الأيام القليلة الماضية مئات الليبيين في عدد من مدن غرب ليبيا منها صبراتة والزاوية وصرمان والعاصمة الليبية طرابلس، للتعبير عن غضبهم من تدهور الظروف المعيشية والفساد في بلاد تشهد نزاعات مسلحة منذ سنوات وللمطالبة باسقاط حكومة الوفاق التي حولت المنطقة الى قاعدة عسكرية تركية تنتشر فيها آلاف المرتزقة والارهابيين المولين لأنقرة عداك عن المليشيات المسلحة.
وجاءت هذه المظاهرات في أعقاب تصاعد حالة الاحتقان لدى المواطنين على تردي الوضع المعيشي وغلاء الأسعار وانعدام السيولة النقدية ونقص فرص العمل، إضافة إلى رفض إجراءات وزارة مالية حكومة الوفاق التي تقضي بخصم ربع رواتب العاملين في الدولة كإجراء تقشفي لمواجهة الأزمة المالية التي تسبب فيها وقف تصدير النفط احتجاجا على استخدام عائداته في تمويل الحرب وتسديد أجور المرتزقة السوريين.
إلى ذلك،يرى مراقبون أن التوجّه الإحتجاجي هو مسار حتمي نظرًا لحالة العبث بمقدّرات الشعب الذي طالت و تعمّقت معاناته أمام صراع سياسي عبثي لم يعرف النهاية أو التسوية مما يجعل الحل الأوحد هو التمرّد على سلطة تعيش في ظل حماية جماعات مسلحة لا تعترف بالدولة و تسيّر من خارج حدود البلد.