بعد التوافق الدولي على ضرورة الحل السياسي في ليبيا، واستبعاد الحل العسكري، أعلنت الأمم المتحدة استئناف المحادثات الشاملة بين الأطراف الليبية المتحاربة، من خلال عقد أول اجتماع لملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس. وبدأ طرفا النزاع في ليبيا حواراً سياسياً عبر الفيديو بإشراف منظمة الأمم المتحدة وذلك بعد أيام قليلة من إعلان وقف دائم لإطلاق النار. وكانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أعلنت يوم الجمعة الماضي عن توقيع اتفاق وقف إطلاق نار دائم بين وفدي الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق المشاركين في محادثات اللجنة العسكرية المشتركة "خمسة زائد خمسة". وتمكن الفرقاء الليبيون من إحراز تقدّم في مباحثاتهم سواء في المغرب أو في مصر وسط آمال بالوصول إلى تفاهمات واسعة حول الدستور ونظام الحكم وتقسيم الثروات تنهي الأزمة قريباً. وتم تناول المسار الدستوري في تلك النقاشات سواء في مصر أو في المغرب بخاصة ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية والبدء في ترتيبات المرحلة الدائمة كما تم عرض مُناقشات قانونية حول إمكانية الاستفتاء على مشروع الدستور الحالي من عدمه. 

وقال، بيان بعثة الأمم المتحدة، إنه من المتوقع أن يناقش وفدي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، الخيارات القانونية والدستورية، لأجل المضي قدماً في الترتيبات الدستورية. وتسعى الأمم المتحدة وبعثتها في ليبيا، لمناقشة الخلافات حول القاعدة الدستورية، والتباحث حول آليات حلّ الأزمة الليبية وأطر الدستور الليبي الجديد، للذهاب لانتخابات رئاسية وبرلمانية.

ومع انطلاق اجتماعات لجنة مشروع الدستور، لا بدّ من القول إنّ أهمية الانعقاد والاجتماع أمر مهم بحدّ ذاته، وعاجلاً أم آجلاً سنرى ماكينة ورحى الاجتماعات للجنة الدستورية، ستدور مع ارتفاع منسوب الاقتناع لدى الأطراف، وأنّه لا جدوى من المماطلة من جهة، وعندما تقتنع الأطراف بأنّ هذه الضغوط والتأثيرات التي تتعرّض لها العملية لن تأثر، ولن تحدث أي خرق في جدار القرار السيادي الوطني من جهة أخرى، والليبيون لا يخفون خَشيتهم ليس فقط من أن تتمكن مُحاولات التدخل من تَعطيل هذه الاجتماعات ومنعها عن الانتهاء لمُخرجات تُسهم بكتابة آخر فصول الحرب والعدوان، بل من جَعلها منصة جديدة لإحياء تُرهات الماضي وطروحاته، تَجديداً للاستهداف، تَصويباً على الدولة الليبية وعودة للمُربعات الأولى.

السؤال الآن: هل ستخلو اجتماعات لجنة مناقشة وصياغة الدستور الجديد من التعقيدات؟ وهل ستكون هناك انفراجات قريبة؟ يمكن أن نبني عليها فيما بعد، ويقطف ثمارها الشعب الليبي، في كل ما من شأنه أن يصب في بوتقة خدمة الليبيين جميعاً دون استثناء لأي منهم، أم أن هناك من يراهن على إجهاض أو تقزيم إنجاز أي عملية سياسية حقيقية تعبر عن تطلعات الليبيين، فشتان بين من حزم حقائبه الدبلوماسية ووضع نصب عينيه مصلحة ليبيا سيادة وأرضاً وشعباً وجيشاً، وفرد أوراقه التفاوضية والقانونية على هذا الأساس، وبين من وضع في مخيلته المريضة أهدافاً استعصائية غير مبررة، ولا منطقية، وإنما هي فقط لسان حال مموله الشهري. فالدستور لم يكن يوماً هو المشكلة... 

أوليس الثروات النفطية هي هاجس المحتل التركي... وغايته المنشودة وتصريحات أردوغان تشهد؟ وإن سقط آلاف الليبيين الأبرياء بسلاح عصاباته ومرتزقته، وكذلك نهب الأراضي الليبية، وتحويلها إلى ولايات تركية بعد الإفراغ من عمليات نهبها، أو ليست ما يدغدغ أحلام السلطان أردوغان؟ ومن المعروف أن أنقرة لها اليد العليا في النزاع الليبي اليوم وهي التي تحاول وضع العراقيل أمام توافق الليبيين على حل سياسي ينهي أزمتهم، حيث تعمل بشتى الطرق والإمكانيات الملتوية من أجل دعم حكومة السراج الإخوانية على حساب مصالح الشعب الليبي العليا، وقد شهدت السنوات الخمس الماضية عدة اتفاقيات ومبادرات بين أطراف النزاع الليبي، لكنها سرعان ما أفقدتها التدخلات التركية صوابيتها والدفع بها نحو نيران الاختلافات لتتخذ الأمور مساراً أكثر عنفاً.

يفهم الليبيون الدستور، أنه هو الجامع للمكونات الاجتماعية، ومطلق التفاعل الحي بينها، وضامن للوحدة الوطنية، وحافظ للوطن كبيئة إبداع حضاري، و ارتقاء مستدام، ومحصن للسيادة الوطنية أرضاً وشعباً ومؤسسات، ومدافعاً عن استقلال الوطن و كرامة المواطن. كما يؤمن الليبيون أن الدستور هو ما ينظم ويضبط آليات العمل السياسي و الاقتصادي والاجتماعي. لذلك ومنذ بدء تنظيم المجتمع الليبي في بداية التاريخ، و الليبيون يبدعون دستورهم ويدافعون عنه، لأنه الضامن للوطن والشعب وللتفاعل الحي مع السيادة و الاستقلال والإنتاج والإبداع... اليوم، و بعد فشل مخطط التقسيم، وسقوط مساعي استهداف الروح الليبية كشعب ووطن وحضارة، فإن الليبيين يعتقدون أكثر وأكثر بأهمية الدستور في تنظيم حياتهم و الدفاع عن وطنهم، وهذه القناعة الوطنية الحضارية لليبيين حول أهمية الدستور لا تعميهم عن الملاحظات حول بعض مواده، ولا تشغلهم عن ضرورة الارتقاء به تماشياً مع الارتقاء الوطني الحضاري الشامل لهذا الشعب وهذا الوطن...

إن مهمة لجنة مناقشة وصياغة الدستور الجديد، هي مهمة تقنية قانونية وعندما يدرك جميع المشاركين ذلك، عندها لن تطول تلك الاجتماعات حتى يتم التوصل إلى تعديلات في دستور 1951 أو تعديل المسودة الحالية، أو صياغة دستور جديد، إن اقتضت الضرورة بما يحفظ حقوق الجميع ويبتعد عن المحاصصة القبلية والسياسية... إنّ ليبيا تتسع لجميع أبنائها ومسؤولية لجنة مناقشة وصياغة الدستور الجديد، أن تؤطر الأمور قانونياً كي يحصل كل ما يتعلق بالدستور على موافقة الشعب الليبي، في استفتاء يعكس الرغبة الحقيقية له، ومن المفترض ألا يتوهم وفد "الأطراف الأخرى مثلاً" بأنه "سيكتشف البارود" أو أنه "سيبني دولة" وفق أهواء منظومة الأعداء... ولابد أن نقر، أنّ اللجنة الدستورية هي صراع ليبي في النهاية، ومهما بدت الحالة القائمة متعثرة لكنها ترسم الموقع الليبي، فالاستحقاق الذي يواجهه الشعب الليبي، ليس في وضع الدستور ومواده، بل في انسجامه مع قدرة الليبيين على بناء واقعهم الجديد.

ومن حقنا أن نتساءل الآن: عن أي دستور نتحدث، وأي دستور يريد الشعب الليبي وما النتائج المتوقعة؟

 من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة، لكن النماذج الفاشلة تشتعل في محيطنا، ففي لبنان يتابع الجميع تعقيدات الوضع السياسي الناجم عن بنية دستور طائفي، ومحاصصات في كل شيء، وأما في العراق فإننا نرى نتائج دستور "بريمر" الذي أنتج دستوراً مفخخاً، وعملية سياسية مترنحة يمكن تفجيرها في أي وقت مع تعالي الأصوات التي تنادي بدستور جديد يحقق التقدم، والتنمية في العراق أو في لبنان، ولأن الدستور الليبي الموعود، ستكون محط أنظار الجميع في المنطقة، فإن المسؤوليات الملقاة على عاتق أعضاء لجنة مناقشة وصياغة الدستور الجديد، هي مسؤوليات تاريخية يجب أن تأخذ بالاعتبار أن الشعارات البراقة التي تطلق من هنا وهناك، ليست ذات أهمية، فقد تبين أن الشفافية والديمقراطية والحرية و... و... ليست إلا دفتر شروط تركية غربية أمريكية يوضع لتطويع الدول والأنظمة في العالم لمصالحهم، والمطلوب تطويع هذه الشعارات لتكون في خدمة الشعوب ومستقبلها، وتحصين منجزاتها الاقتصادية والاجتماعية، وهويتها الوطنية والقومية، وأما غير ذلك فلن يكون إلا وصفة إخفاق وانتحار، وبخاصة أن الدستور الليبي الموعود يجب أن يكون بحجم تضحيات الجيش الليبي، والشعب العظيم.


ومما تقدم نؤكد، أنه عندما توجد الأرضية السليمة والاقتناع بالمدخلات الرئيسية لنجاح مسار التسوية السياسية في ليبيا، تصبح مدخلاتها واضحة ولا تحتاج لتفسير، وأعتقد أنها في حدودها الدنيا، وأيّ طروحات غيرها تكون غير منطقية، وبعيدة عن الواقعية والشروط اللازمة لنجاح الحوار الليبي ـ  الليبي.


 
1 ـ الاقتناع بوحدة وسلامة الرؤية والهدف بأنّ هذه العملية هي الأساس كمخرج وحيد في الوصول لحلول سياسية ناجعة.

2 ـ التأكيد على جدية المشاركة الفعالة بين الأطراف والإيمان بوحدة وسلامة الأراضي الليبية، ورفض أيّ شكل من أشكال الدعوات التقسيمية والعمل على إقصاء أي فكر وتفكير انفصالي للخارطة السياسية الوطنية، والحفاظ على سيادة ليبيا ووحدة أراضيها، ومواصلة الحرب على الإرهاب فيها والاستفادة مما يلي:

ـ العمل ضمن سياق واحد وأوحد، أنّ الليبيين هم من يحددون مستقبل بلدهم بأنفسهم دون أي تدخل خارجيّ وأن التنظيمات الإرهابيّة خارج أي عملية سياسية.

ـ رفض الإملاءات والتدخل الخارجي من قبل أطراف دولية أو غيرها، على طرف من الأطراف وبخاصة الوفد المدعوم من الجانب التركي ومن خلفه الأميركيّ، وهذا الأمر يتطلّب فعلاً الإعلان بشكل واضح وصريح من هذا الطرف موقفاً واضحاً في مسألتين:


الأولى: الرفض الواضح والصريح للتنظيمات الإرهابية على الأرض الليبية في حدّه الأدنى، ودعم دور الجيش العربي الليبي في القضاء على الإرهاب في حدّه الأعلى.

الثانية: رفض الوجود غير الشرعي للقوات التركية... والمطالبة قانونياً وإعلامياً وبكل الوسائل المتاحة بخروجها ومرتزقتها وإدانة ممارساتهم العدوانية. ولا بدّ من القول في حال تم العمل بهذه الطريقة، وكانت الجدية كاملة من بعض الأطراف التابعة للأجندات الخارجية، وإن كانت تحتاج إلى جولات كثيرة لنصل لنقطة جامعة للانطلاق في مسار اللجنة الدستورية، وكذلك استشراف مؤشرات بدء المسار في الحل السياسي، إذا تمّ فعلاً في الجولات اللاحقة العمل على تحديد موعد الاجتماع الذي يليه، وضمن إطار جدول أعمال محدد بإطار زمنيّ محدّد للجنة الدستورية، أما فيما يتعلّق بالعناصر اللازمة أيضاً لمسار العملية (المعالجة ـ والمخرجات ـ والتغذية الراجعة) سابق لأوانه الحديث عنها ريثما يأتي وقتها.

خلاصة الكلام: إن أدوات وطرق ومقاربات قيادة ليبيا في المرحلة القادمة، ستكون مختلفة ومتطورة ومرنة ما يساعد على قوة الدولة وليس ضعفها، وعلى قوة مشاركة المجتمع وليس شرذمته، وعلى وحدة الليبيين تجاه أهدافهم الوطنية والقومية، وبرامجهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس على تشرذمهم وانقسامهم لمصلحة قوى خارجية... هذه هي العناوين الرئيسة والخطوط العريضة التي يجب على أعضاء اللجنة الدستورية وضعها نصب أعينهم، وأما الشعارات المستوردة فلا تهمنا كثيراً، إذا لم تتحول إلى برامج عمل حقيقية تدفع التنمية والازدهار والاقتصاد للأمام، وبخاصة أن ثورجيي ليبيا أتخمونا بشعاراتهم ليتبين لاحقاً أنهم مجموعة من العملاء والكذابين والمرتزقة! الليبيون يكتبون دستورهم منذ إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، بدمائهم قبل مداد أقلامهم، ولم يجف حبر الدم... فليراجع الواهمون التاريخ وليقرؤوه جيداً.

كاتب صحفي من المغرب.