اهتزت ليبيا، في بحر الأسابيع الماضية، على وقع أحداث دفعت البلاد إلى حافة حرب أهلية شاملة. بدأ كل شيء عندما نجح إقليم برقة، شرق ليبيا، بقيادة الفيدراليين الذي نصبوا حكومتهم، في بيع النفط دون الرجوع إلى الحكومة المركزية. أضف إلى ذلك، فرار رئيس الوزراء الليبي، علي زيدان، خارج البلاد بعد تمرير المؤتمر الوطني العام تصويتا "بحجب الثقة" عنه واستبعاده من دائرة القرار. كما شهد الأسبوع الماضي اندلاع اشتباكات بين ميليشيات مصراتة، الموالية للمؤتمر الوطني العام، وقوات دعم الحكومة الفيدرالية في برقة. أما يوم الاثنين، فقد شهد انفجار سيارة ملغومة داخل قاعدة عسكرية في بنغازي خلال حفل تخرج مجندين جدد، انفجار خلف أكثر من خمسة قتلى و14 جريحا على الأقل.
الجمعة 7 مارس، أمر المؤتمر الوطني العام القوات المسلحة بالاستيلاء على ناقلة نفط ترفع علم كوريا الشمالية تجاهلت تهديدات الحكومة و رست في ميناء السدرة الذي يسيطر عليه المتمردون. وفي العاشر من مارس، ذهب رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين أبعد من ذلك حين أمر الجيش بإرسال قوة عسكرية في مهمة استعادة السيطرة على محطات النفط التي تستولي عليها الجماعات المسلحة وتفرض عليها الحصار منذ صيف 2013. ولم تكن هذه القوات تنتمي إلى الجيش الوطني، ولكن كُونت أساسا من ميليشيات تنحدر من مدينة مصراتة.
لقد كان قرارا متسرعا ولم يأخذ بالاعتبار العواقب المحتملة عن مثل هذا الهجوم المباشر. التقت الميليشيتان المتصارعتان بالقرب من مدينة سرت الساحلية، والحصيلة قتلى وجرحى كما تداولتها التقارير الواردة من هناك. ولحسن الحظ، هنا محاولات جارية لتخفيف التصعيد تتحدث عن حل سلمي للقضية في القريب. ومع ذلك، لن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تلجأ فيها الجماعات المسلحة إلى المواجهة المباشرة، ببساطة لأن ليبيا تفتقر الى توافق سياسي شامل بين الفصائل المتنازعة. فكل طرف يطمح إلى إدارة البلاد - أو على الأقل الشؤون الخاصة به – بالطريقة التي يراها مناسبة.
وكانت حكومة برقة قد هددت مرارا ببيع النفط من تلقاء نفسها اذا ما استمرت الحكومة المركزية في تجاهل مطالبها التي تشمل إنشاء هيئات للتحقيق والرقابة حول الصناعة النفطية وإحياء آلية قديمة لتوزيع عائداتها. يصر الفيدراليون على أنهم يبيعون النفط بشكل مستقل من أجل تأمين الموارد والأموال لدعم الجيش والشرطة الوطنيين في شرق ليبيا، من أجل معالجة الوضع الأمني المتدهور. وذلك بعد عجز الحكومة المركزية في تحقيق ذلك. ويشدد الفيدراليون أيضا أن فصائل الإسلاميين والمتطرفين ترى في الجيش والشرطة الوطنية تهديدا سياسيا لمصالحها. وقد استخدموا نفوذهم وعلاقتهم مع الميليشيات للدفع بأجندتهم السياسية عن طريق المؤتمر الوطني العام و من ثم الهيمنة على الحكومة المركزية. وهو التأويل الذي أيده رئيس الوزراء زيدان في أول مقابلة له بعد حجب الثقة عنه ومغادرته لمنصبه.
ومع ذلك، لا تزال طرابلس مصرة على عدم الاعتراف بحكومة برقة، و تصنيف الجماعات التي تحاصر محطات النفط في خانة المجرمين ليس إلا. وبدلا من إدارة هذا الصراع الذي يهدد الديمقراطية في ليبيا، قامت سلطات طرابلس بلعب دور المتفرج، لتكبد حكومتها خسارة تقدر بـ 10 بليون دولار كانت ستدرها عليها عائدات النفط. في حين أن هذا الموقف أعطى حكومة برقة ومؤيديها الوقت و المجال الكافيين لتنظيم وتشكيل تحالفات مع لاعبين مؤثرين في شرق البلاد، ومن ثم تعزيز موقفها وتوسيع دائرة مؤيديها.
الآن، الخطوة "العدوانية" التي تقوم بها الحكومة المركزية لم تجلب سوى الدعم لحكومة برقة. في السابق، كانت حكومة برقة تستعين باستخدام مقاتلين من قبيلة واحدة في الشرق، قبيلة المغاربة. لكن منذ تعبئة المؤتمر الوطني العام، انضم الكثير من المؤيدين من مختلف قبائل شرق ليبيا إلى القوات الفيدرالية. بناءً على هذه التعبئة الواسعة، فقد مدد المؤتمر الوطني العام مهلة إنهاء الحصار إلى أسبوعين آخرين، على أمل التوصل إلى حل سلمي لهذه الأزمة.
ومع ذلك، كثيرون في ليبيا، يتساءلون عن مدى شرعية المؤتمر الوطني العام الذي صوت في ديسمبر لصالح تمديد ولايته لسنة أخرى، في تعارض صارخ مع خطة الانتقال الذي وضعها الإعلان الدستوري للبلاد. ودعا متظاهرون في مختلف أنحاء البلاد المؤتمر الوطني العام لإنهاء ولايته في 7 فبراير، وهو موعد نهايتة الأصلي. فمن الغريب أن يهتم المؤتمر الوطني العام بمعالجة الأزمة في برقة في هذا التوقيت، بعد تردد دام لشهور. لاشك، إذن، أن أزمة برقة حولت بنجاح انتباه الرأي العام عن مساءلة شرعية استمرار المؤتمر الوطني العام.
كما أن الأزمة في ليبيا أفرزت مصالح جماعة أخرى بسطت هيمنتها على المؤتمر الوطني العام وتسيطر حاليا على الحكومة: ألا وهي جماعة الإسلاميين. وعلى الرغم من أن هذه الجماعة تفتقر إلى دعم شعبي واسع في ليبيا- كما تأكد خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام لسنة 2012-  فإن جماعات إسلامية مثل حزب العدالة و البناء (ذراع الإخوان المسلمين في ليبيا) حققت نموا ملحوظا وأصبحت مؤثرة أكثر فأكثر. إقالة رئيس الوزراء زيدان خير دليل على هذا النفوذ. كما استغلت هذه القوى الجديدة نفوذها للالتفاف حول خصومها الأقل تنظيما، والدفاع عن تشريعات مثيرة للجدل، مثل قانون العزل السياسي، الذي خلصهم من بعض خصومهم، مثل محمود جبريل. هذا علاوة على استخدام النفوذ للتلاعب بالأصوات داخل المؤتمر الوطني العام.
لميليشيات مصراتة علاقات مع الإسلاميين، ولذلك، من المرجح أن لا تحظى بتأييد المجتمع الليبي الشرقي – وهذا ما سيمكن فيدرالية برقة من توسيع قاعدة مؤيديها. إن إنشاء حكومات إقليمية قوية (مثل حكومة برقة) من شأنه أن يضمن الحماية لبرقة من سيطرة الإسلاميين أو أي مجموعة أخرى.
ليس من المفاجئ في شيء، إذن، أن يتحول الصراع السياسي في ليبيا إلى صراع بين القبائل المحلية والقوى الإسلامية. المشكلة تكمن في بعدين: أولا فجوة الثقة بين الفصائل المتنافسة لا تزداد إلا اتساعا، وجميع الأطراف تنظر إلى المشهد السياسي الليبي بعين التشاؤم؛ ثانيا تخوف الإسلاميين من السير على منوال مصر، فخصومهم يتهمونهم بإعاقة بناء جيش وشرطة وطنيين قويين، وحجتهم في ذلك استخدام الميليشيات للسيطرة على قطاع الأمن والتلاعب في العملية السياسية. وبينما ينشغل هؤلاء للوصول إلى أهدافهم، يفقد المواطن الليبي العادي الثقة في العملية الديمقراطية، ويتسرب الشك إليه عن مدى قدرة هذا المسلسل على إحداث التغييرات التي يحلم بها.