فرضَ الله سبحانه وتعالى على عباده المسلمين فريضة الحج إلى بيته الكعبة المشرّفة، وذلك من استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فالحج شعيرة إسلاميّة عظيمة في مكانتها ووقتها ومدلولاتها المعنوية والروحية؛ فبعد الحج يعود المسلم خالياً من الذنوب والآثام كيوم و لدته أمه بفضلٍ من الله ورحمة. 

يمتاز الحج عن باقي الفرائض والعبادات بأنّ له مجموعةً من المناسك والأعمال التي فيها يستذكر المسلم ما جرى مع نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله بذبحِ ابنه إسماعيل؛ حيثُ ترتبط تلك المناسك بتلك البقعة من الأرض، وقد كان لفعل إبراهيم حينها أشد الوقع في النفوس؛ إذ آثر إرضاء الله على أحبِّ ما للعبد في الدنيا وهو الأبناء، فعمد إلى تنفيذ أمر الله مع شدته على النفس، حتى نجّا الله إسماعيل وفداه بكبشٍ من عنده، وخلَّد تلك الحادثة وجعل تفاصيلها أداء مناسك عبادةٍ يقوم بها المسلمون مرةً في العام، وهي فريضة الحج. كيفية رمي الجمرات يبدأ نسك رمي الجمرات من يوم النحر الذي هو أول أيام عيد الأضحى؛ حيث يرمي الحجاج في ذلك اليوم جمرة العقبة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت أنّه لمّا حجَّ رمى الجمرات يوم العيد في ذلك الموضع بسبعِ حصيات، 

وقد رمى جمرة في أوّل يومٍ من أيام العيد الذي هو يوم النحر جمرة العقبة فقط، وتلك الجمرة تقع بعد مكّة مباشرةً؛ حيث يتمُّ رمي تلك الجمرة بسبع حصيّات، يكبِّر الرامي مع كل حصاةٍ يرميها قائلاً: (الله أكبر)، ثم بعد ذلك يرمي الحاج في كل يومٍ من أيام التشريق الثلاثة التي هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة سبع حصياتٍ أخرى في مواضع الرمي المُخصّصة لذلك؛ حيث يبدأ الرمي بعد الزوال إلى غروب شمس كلّ يومٍ من تلك الأيام، وإن لحق الحاج عجزٌ، أو مرضٌ، أو كانت به علّةٌ، أو حبسه شيءٌ عن الرمي في وقت الرمي الذي هو بين الزوال والغروب جاز له الرمي في الليل حتى بعد منتصف الليل.

 يُشار إلى أنّ الحكمة من رمي الجمرات في تلك المواضع إهانة الشيطان، وإذلاله، وتحقيره بشكلٍ رمزي لا على الحقيقة، ولكي يُظهر الحاج أنّه عصى الشيطان كما عصاه إبراهيم، وأنّه أطاع الله بأداء مناسك الحج وفعل ما أمره الله به تأسياً بإبراهيم عليه السلام، كما أنّه أطاع أمر رسول الله الذي أخذ عنه مناسك الحج بعد أن أدّى حجّة الوداع.

 قصة مشروعية رمي الجمرات وردت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدة نصوص تُشير إلى القصة التي جاءت منها مشروعية رمي الجمرات الثلاث؛ حيث أُشير كما ذُكر إلى أنّ مَناسك الحج إنّما هي تكرار لما حدث مع سيّدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته وابنه في تلك البقعة المباركة، أمّا قصة رمي الجمرات فقد ورد فيها: (إنَّ جبريلَ ذهب بإبراهيمَ إلى جمرةِ العقبةِ فعرض لهُ الشيطانُ فرماهُ بسبعِ حصياتٍ فساخ ثم أتى الجمرةَ الوسطى فعرض لهُ الشيطانُ فرماهُ بسبعِ حصياتٍ فساخ ثم أتى الجمرةَ القصوى فعرض لهُ الشيطانُ فرماهُ بسبعِ حصياتٍ فساخ فلمَّا أراد إبراهيمُ أن يذبحَ ابنَهُ إسماعيل قال لأبيهِ : يا أبتِ أوثقني لا أضطربُ فينتضحُ عليك من دمي إذا ذبحتني فشُدَّهُ فلمَّا أخذ الشفرةَ فأراد أن يذبحَهُ نُودِيَ من خلفِهِ: (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).

 إنّ قصة رمي الجمرات ومنشأها هي اقتداءٌ بإبراهيم عليه السلام، لما عَرَض له الشيطان، وكان يريد ثنيه عن ذبح ابنه إسماعيل لكي لا يجعله طائعاً لله بحجة أنّ هذا ابنك ولا يجب عليك قتله، وقال الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان بخصوص ذلك (فكان الرمي رمزاً وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله تعالى بها في قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً).

يقول الإمام إبن باز رحمه الله :

أما بعد: فإن الله جل وعلا -وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة- شرع للمسلمين رمي الجمار في الحج تأسيًا بنبيهم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لما حج حجة الوداع رمى الجمار يوم العيد بسبع حصيات رمى جمرة العقبة فقط وهي الجمرة التي تلي مكة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

ثم رمى الجمار في الأيام الأخيرة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر رماها بعد الزوال، كل واحدة رماها بسبع حصيات، يكبر.. مع كل حصاة، ويقول عليه الصلاة والسلام عند أداء الأنساك: خذوا عني مناسككم يعني: يأمر الأمة أن يتعلموا منه، وأن يعملوا بما يشاهدون من عمله عليه الصلاة والسلام وما يسمعون من قوله، فهذا هو الدليل على رمي الجمار.

وهي تشتمل على سبعين حصاة لمن استكمل الرمي في الأيام الأربعة فرمي يوم العيد سبع حصيات بعد ارتفاع الشمس إلى غروب الشمس كله محل رمي، يكبر مع كل حصاة للجمرة الكبرى التي تلي مكة، وهي جمرة العقبة، وإن رماها في الليل بعد نصف الليل أجزأ ذلك، ولا سيما للضعفاء والعجزة، أما الأقوياء فالسنة لهم أن يكون رميهم مثل ما رماها النبي ﷺ بعد ارتفاع الشمس ضحى، وإن رماها بعد الظهر أو بعد العصر فلا حرج.

ويجوز على الصحيح أن يرميها بعد الغروب أيضًا تلك الليلة لمن لم يرم في النهار إلى آخر الليل.

وأما الأيام الأخرى الثلاثة وهي أيام التشريق فإنها ترمى بعد الزوال كما رماها النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز رميها قبل الزوال؛ لأن ذلك خلاف الشرع المطهر، ويرميها المسلمون بعد الزوال إلى غروب الشمس، ومن لم يتيسر له ذلك من عجز عن ذلك أو شغل عن ذلك جاز رميه لها بعد الغروب تلك الليلة لليوم الذي غربت شمسه في أصح قولي العلماء؛ لأنها حالة حاجة وضرورة، ولا سيما عند كثرة الحجيج، فإن الوقت لا يسع لهم ما بين الزوال إلى غروب الشمس؛ فلهذا جاز على الصحيح أن ترمى بعد غروب الشمس لمن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال في ذلك اليوم، يعني: اليوم الذي غابت شمسه، يرميه بعد الغروب.

وقد ذكر جمع من أهل العلم أن الحكمة في ذلك إهانة الشيطان وإذلاله وإرغامه وإظهار مخالفته؛ لأنه عرض لـإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أراه الله ذبح ابنه إسماعيل، ولكن من المقرر عند أئمة العلم أن الحكمة لابد أن تثبت بدليل واضح من كتاب أو سنة، فإن ثبتت فذلك نور على نور وخير إلى خير، وإلا فالمؤمن يتقبل شرع الله ويعمل به وإن لم يدر الحكمة والعلة في ذلك، مع إيمانه بأن الله سبحانه حكيم عليم، كما قال : إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24].

فهو عليم بما يشرعه لعباده، عليم بما يقدره لهم، عليم بكل حادثة في المستقبل كما أنه عليم لكل بكل ما وقع في الماضي.

وله الحكمة البالغة في كل شيء سبحانه وتعالى، فإنه له كمال العلم وكمال الحكمة والقدرة، فلا يفعل شيئًا عبثًا أبدًا، فلا يشرع شيئًا عبثًا، ولا يفعل شيئًا عبثًا ، بل كل ذلك لحكمة بالغة وعلة عظيمة وغاية محمودة وإن لم يعلمها البشر، هذا هو الواجب على كل مؤمن أن يعتقد ذلك، فإن الله سبحانه هو الحكيم العليم فيما يقضيه ويقدره، وفيما يشرعه لعباده ، ومن ذلك: مسألة الرمي رمي الجمار. نعم.