إلى حدود أواخر القرن الماضي، ظلت بعض القبائل في مالي تعيش خارج الأطر الحداثية والحضارية التي يمرّ بها العالم، وهذه القبائل، كانت قد عرفت باسم الدوغون، حيث إلى حد الآن لم تلمس الوجه الآخر الذي حدّده العالم ضمن تخوم الصيرورة الإنسانية، التي انتقلت من حالة البدائية إلى التحضر، بل ظلت متمسكة بروح الإنسان الأول، وهو ما يوصف حديثا بحالة البدء الأولى، أو مرحلة الهمجية والجهل. وربما طريقة عيشهم الراهنة هي التي جعلتهم يواجهون مشاكلهم الحياتية،كسوء التغذية والجفاف والأمراض، عبر طقوس خرافية كممارسة الشعوذة والسحر.

إن هؤلاء، الذين لا نعرفهم، والذين يعيشون وكأنهم خارج معادلة التمعين البشري للعالم، ظلوا على نفس النمط من الحياة طيلة دهور، وهم أيضا لا علم لهم بتفاصيل حدود الأمكنة التي يستقرون فيها، حيث تحدهم غينيا جنوبا وبوركينا فاسو شمالا، كما أنهم لم يبالوا إطلاقا بأصولهم ولا كيف جاؤوا لهذه الأرض.تنظم قبائل الدوغون حياتها عبر التجمهر في قرى، إذ لكل قرية زعيمها الخاص، الذي يتمتع بسلطة مطلقة. وتبنى بيوتهم عبر استعمال القشّ والطين لتكون صغيرة الحجم ولا تتخللها إلا فتحات صغيرة للتهوئة، وتنتشر هذه البيوت بالتوازي، وفي أشكال دائرية، لتحيط بساحات القرى، أين تقام الطقوس الاحتفالية والدينية. هذا بالإضافة إلى أن إقامتهم، عادة، ما تكون قرب ضفاف الأنهار كي يتمكنوا من ممارسة الزراعة، إذ عرفوا بغراسة الأرز والذرة والبصل والعنب.

إن طبيعة هؤلاء، الذين فضلوا العيش خارج مناخات الحضارة الإنسانية، عبر رفض مواكبة أنساقها وتحولاتها الحضارية، قد لا تثير الغرابة، لأن هناك شعوبا أخرى مماثلة، وهي ليست بالحالة الشاذة، ولكن الغريب في الأمر، الذي ميزهم، هو بعض عاداتهم، حيث أن أطفالهم يولدون عادة خارج القرى التي يعيشون فيها، إذ لا يحق للمرأة أن تضع مولودها إلا في بيت أبيها، حيث تخرج بعد لحظة الولادة لتعلن عن جنس المولود، فإذا كان ذكرا حملت بيديها سهما، أمّا إذا كان أنثى فإنها تحمل سكينا.

وهذا المولود، عادة ما يحمل ثلاثة أسماء، الأوّل تطلقه عليه عائلة أبيه، والثاني تطلقه عائلة أمه، أما الثالث فيطلقه عليه كاهن القرية ويبقى سرّيا. ولأن الأوبئة والأمراض والآفات منتشرة لدى هذه القبائل، وأمام عدم تمكنهم من إيجاد أدوية، فإنهم يذهبون إلى ابتكار وسائل موغلة في السذاجة والبدائية، ولكنها ناجعة في الحفاظ على صغارهم ووقايتهم، إذ يلقى المولود الجديد عناية كبيرة، وذلك عبر منع أمه من وضعه على الأرض طيلة الأشهر الأولى من عمره، حتى لا تمسّه عدوى الأمراض والجراثيم نتيجة رطوبة الأرض وحملها لبكتيريا العدوى.ومن الطرائف الأخرى، أنه لا يختن الأطفال، إلا إذا اكتمل العدد إلى عشرة أولاد، كي تكون عملية الختان جماعية، وتصحبها في ذلك أجواء عائلية واحتفالات كبيرة.

وفي نفس الوقت تختن الفتيات أيضا على يد امرأة مسنة وطاعنة في العمر. وبعد هذه الطقوس، يفرض على الفتى الانتقال للعيش في منزل الشباب مع أولاد مجموعته، التي تعتبر بالنسبة لشعب الدوغون مؤشرا للدلالة على أعمارهم التي اكتملت.أمّا تقاليد الزواج، فإنه على الشاب أن يختطف حبيبته من قرية أخرى على مراحل ثلاثة، بمساعدة أبناء العمومة في المرتين الأوليين، وفي المرة الثالثة بمساعدة أولاد مجموعته، وللحصول عليها بشكل نهائي، فإنه يتعين عليه تقديم بعض الهدايا لعائلتها. ويحدث أيضا، أن تختار المرأة زوجها بنفسها، كما يسمح لها بمغادرة زوجها للعيش مع من تحب من رجال القرية.

من طرائف هؤلاء أيضا، أن لهم عيدا يحتفلون به مرّة في كل ستين عاما، وهذا العيد يدعى باسم "سيجي" ويرمز إلى الموت الإنساني والتجدد والانبعاث والتحول، حيث يشمل الشباب والعجائز كإعلان عن تغيير في صلب الأجيال، من خلاله تجدد القوانين وأنظمة المجتمع وعاداتهم وتقاليدهم، عبر حلقات من النقاش الواسعة. أما الاشتغال الفرجوي لهذا العيد، في شكله الفني والاحتفالي، فإنه يتطلب وضع مجموعة من الشبان في مغارة كي يتلقوا ألغاز المعرفة وأسرار المجتمعات الإنسانية وقصة خلق العالم، بعدها يتمّ التحضير لقناع كبير يعرض في ساحة القرية، ثم تشتغل المظاهر الاحتفالية عبر شرب الخمر والغناء والرقص والأكل. وفي نهاية الاحتفال، يحمل القناع إلى المغارة ليلا كي يوضع هناك، كرمز لقصة الموت والحياة، وانه لمن الواضح أن هذه العادة، تحمل في جروبها بعض المظاهر الدينية، التي كان الإسلام نطفتها الأولى، لكنهم أطعموه بأساطير مختلفة وغريبة، مما أنشأ لهم عالمهم الخاصّ، حيث أن المعرفة لديهم تبقى حكرا على الآباء والأجداد والعارفون والسحرة، وهم بدورهم سينقلوها إلى الأحفاد حين تقام الطقوس الاحتفالية بهذا العيد.