أكثر من أي وقت مضى تعيش ليبيا، حالةً من التحلل على كل المستويات. الدولة التي شيدها الأجداد والاباء، نراها تنهار على أيدي حفنة من الأحفاد العصاة تساعدهم قوى دولية وإقليمية تجد مصلحة في "حالة اللادولة" التي نعيش. وأكثر من أي وقت مضى يشعر الليبيون في مختلف المناطق ومن مختلف الخلفيات السياسية والاجتماعية بحنين جارف إلى الماضي القريب.
هذا الحنين هو رأس المال الرمزي الذي مازالت تراهن عليه القوى المعارضة جذرية للوضع القائم في ليبيا ومشروعها الذي يريد "إعادة ليبيا إلى ما كانت عليه قبل 17 فبراير 2011 أمنة، سيدة على أرضها، متحكمة في ثرواتها"، لكن مع فارق تفرضه الوقائع وحركة التاريخ وهو منح مزيد من حريات ثقافية واجتماعية وسياسية.
إن الحركات السياسية والاجتماعية التي كسبت أغلب الاستحقاقات الانتخابية في العالم خلال السنوات الأخيرة، هي حركان شيدت سرديتها على فكرة بسيطة وهي "الحنين إلى الماضي" واستغلت هذا الحنين لبناء برنامج انتخابي أو فكرة لحشد الملايين من الأنصار والناخبين، مع أن أوضاع دولها ليست كارثية كما هو الحال اليوم في ليبيا، ومع ذلك وصلت بسهولة إلى السلطة.
في أمريكا كانت الفكرة التي سوقها ترامب وهزم بها هيلاري وحزبها هي "إعادة مجد الصناعات والاقتصاد المحلي الأمريكي" ليجذب إليه ملايين الأصوات من الطبقة الوسطى البيضاء التي تضررت من برنامج تصدير الوظائف الذي طبقه أوباما ووجدت نفسها خارج دائرة الإنتاج. لذلك وعدها ترامب بإعادة الأمور كما كانت في الماضي. في ألمانيا والمجر وبولونيا أيضاً صعد اليمين المتطرف لأنه وعد ناخبيه بإعادة أمجاد هذه الدول بعد أن ذابت في مستنقع الاتحاد الأوروبي وانهارت اقتصاداتها المحلية.
وفي روسيا تقف الملايين إلى جانب بوتين لأنهم يرون فيه ببساطة الرجل الذي أعادة هيبة روسيا وعزتها بعد سنوات التسعينات ويلتسين المذلة وهو الرجل الذي أعاد روسيا إلى حلبة الصراع العالمي من الباب الكبير بعد أن كان المواطن الروسي يقف لساعات طويلة في طوابير الخبز الطويلة في شتاء موسكو القاسي، خلال عهد يلتسين الذي نصبه الأمريكيون.
اليوم يقف الليبيون في طوابير طويلة أمام المصارف والمخابز والمستشفيات. بل وصل الأمر إلى تدخل برنامج الغذاء العالمي لمنح مواطنين لبيين وجبات باردة في دولة استشهد فيها الألاف من أجل الاستقلال وفي دولة تصدر ملايين البراميل من النفط يومياً وتملك صندوق سيادي ضخم ورصيد هائل من الذهب.
هؤلاء الليبيون (حتى الذين وقفوا مع فبراير) يتحسرون اليوم على الماضي من خلال مقارنة بسيطة لواقعهم. فقدان المال والأمان والصحة وخاصة فقدان الأمل.
يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى، الوقت مناسب لصعود قوى جديدة من خارج الاستقطاب الثنائي، المبني على الخيار بين الماضي والحاضر، كي تأخذ مكانها في الساحة وتقود البلاد. لكن ذلك لن يكون يسيراً ولا سهلاً، فالقوى التي ترى مصالحها في السلطة والثروة في غياب الدولة ستكون معرقل لإجراء الانتخابات وستحاول التأثير في مسارها كي تخرج أناساً متحالفين معهم. هذه القوى هي الميليشيات الإسلامية المسلحة، التي ستفقدها أي انتخابات تعقبها بناء مؤسسات الدولة مصالحها الاقتصادية التي تجنيها اليوم في غياب الدولة وستفقدها نفوذها على الأرض.
في المقابل يشكل المهجرون في الخارج وخاصة في تونس ومصر خزان انتخابي كبير يضاهي الجمهور الانتخابي في الداخل. ويملك حرية الاختيار الواعي بعيدا عن تهديد السلاح في الداخل وبعيد عن أجهزة الدعاية في المنطقة الغربية أو الشرقية والأهم من ذلك أن هذا القطاع الانتخابي هو الأكثر تضرراً من ''نظام فبراير" وبالتالي سيكون خياره في اتجاه مناقض لفبراير موضوعياً وذاتياً. في النهاية الناس تصوت بعواطفها وليس بعقولها.
كما أثبتت المحطتان الانتخابيتان في 2012 و2014 نفور الناخب الليبي من القوى الإسلامية. على الرغم من أن هذه القوى لم تكن في ذلك الوقت قد خسرت كل سمعتها في الشارع. أما اليوم بوضعها أكثر صعوبة، لجهة فشلها في إدارة البلاد طيلة المدة الماضية وثانياً بسبب ما ارتكبته من جرائم قتل وخطف وسرقة المال العام والاعتداء على الأملاك الخاصة.
واليوم أكثر من أي وقت مضى، يبحث رأس المال الليبي التقليدي (التجار، أصحاب المؤسسات الإنتاجية، التجارية، الخدمية...) في عموم البلاد، عن الاستقرار ويريد عودة مؤسسات الدولة، لأنه يعاني تحت سطوة الميليشيات من فرض إتاوات وضرائب في مقابل الحماية. لذلك أعتقد أن هذه الطبقة من "البرجوازي التقليدية" خاصة في العاصمة سيكون لها تأثير كبير مستقبلاً، وسيكون مزاجها العام مع أي فصيل سياسي ينهي المهزلة القائمة، كما أنها ترى في مشروع "ليبيا الغد" التي أفشلته فبراير وعوامل أخرى، مثال جيد لإدارة الدولة والمجتمع لما يمثله من صورة معدلة لليبرالية السياسية والاقتصادية، وتحتفظ بصورة حسنة عنه. وخاصة أن هؤلاء التجار الكبار يشعرون اليوم بنوع من الغبن لأن أغلب مناقصات ومشاريع الدولة تذهب إلى قطاع تجاري مرتبط بالسلطة على أساس جهوي كما يشعرون أيضاً بنقص الحماية من مؤسسات النظام القائم في مواجهة المنافسة التجارية من الشركات التركية التي استباحة ليبيا بعد 2011.
في المقابل فإن رأس المال الجديد (شبكات التهريب، تجار العملة، تجار الحرب) ليس من مصلحته فوز أي قوة سياسية مناهضة لفبراير، لأنه سيخسر مصالحه، ويمكن في حالة عودة عمل مؤسسات الدولة القضائية والأمنية بشكل طبيعي يتعرض للملاحقة القانونية بسبب عمليات النهب المنظم التي شارك فيها وراكم من خلالها ثروات هائلة هرب منها الكثير إلى الخارج. وهذا القطاع من التجار في تحالف عضوي مع جماعات الإسلام السياسي. وسيعمل إما على عرقلة العملية الانتخابية أو تأثير فيها من أجل تصعيد طرف سايسي يحافظ على مصالحه.