في البدء كانت الكلمة، وللكلمة فعلها وسحرها ووقعها على الإنسان، أي انسان كيفما كان إلا إذا كان مجبولا من حقد وضغائن وكراهية لا تعرف معنى للانسانية، ومن هذا المنطلق كانت الأهمية الكبرى 

للاحتفال باليوم الوطني للصحافة الجزائرية. والاحتفال بالإعلام الجزائري، هي مناسبة ضرورية لطرح مجموعة من الأسئلة التي ترقى لمستوى الإشكاليات، من بينها وعلى سبيل المثل لا الحصر.

هل الإعلام الجزائري في خير؟! وهل نجح في تقديم رسالته الوطنية والعربية... وفي مواكبة هذا الحراك السياسي الذي تشهده الجزائر، وفي تسليط الضوء على مواقع الخطأ والصواب؟ وما مدى نجاحه في تأهيل كفاءات إعلامية قادرة على العطاء وحمل المسؤولية، وتحقيق الفاعلية التي نراها في الإعلامي الجزائري الذي غادر عشه للعمل خارج الجزائر... أم أن المناخ العام في الإعلام لا يوفر مناخات النجاح؟! 

في الجانب الآخر: هل يؤمن المسؤول بدور الإعلام وأن الإعلام سلطة رابعة لها دورها وأهميتها، أم أن المسؤول يرى في الإعلام مراقباً ثقيل الظل إن لم نقل غير ذلك ؟! 

لابد من الاعتراف أنّ الإعلام الجزائري وعلى مدى سنوات متواصلة ظل يرتدي نفس دائرة الروتين والرتابة في المنهجية التي يقدم بها برامجه ومنتجاته مع بعض التغييرات الشكلية التي تمس الشكل العام فقط ولا تعزز المضمون الذي هو الجوهر المستقطب لأنظار المتابع في داخل الجزائر وخارجها. 

فالأغلبية الساحقة من المشتغلين في الإعلام بالجزائر، كانت تنادي بضرورة قصوى لتحرر الإعلام من سلطة ''حارس البوابة'' التقليدي الذي لا زال هو الآخر ينهج نفس النهج في تعامله مع المعطيات الإعلامية... أن على القائمين على الإعلام إدراك أن وسائل المعرفة تعددت وتحورت وما يجب أن يطرح في الوسائط الإعلامية هي الحقيقة غير الزائفة الشفافة البعيدة كل البعد عن حكر الأصول التي قامت عليها في بيئتها والمعطيات التي حتمت وجودها مع التركيز العميق على القضايا التي تمس المجتمع الجزائري والظواهر الشائكة فيه...

لماذا لا نظهر الحقائق؟ لماذا لا نعالج الأمور؟ لماذا لا نشرع في إيجاد شراكة وثيقة بين فكر الجمهور المتلقي وفكر الإعلاميين والتوجهات الحكومية بحيث تسعى هذه الشراكة إلى إيجاد المعضلات الحقيقة التي تواجه المجتمع وتعطل حركة النماء والتطور فيه؟ 

ما أقوله هو أنه وجب على المؤسسات والرقابة الإعلامية التحلل من رداء بساطة وعدم تعمق الحقائق وإنزواء حقائق أخرى من الطرح في قضايا المشهد العام، ومن هنا سنصنع من كل مواطن نبض إعلامي يتحمل مسؤولية تجاه وطنه لأنه وجد الثقة من زاوية مجتمعه ووجد التبني لأفكاره الاجتماعية...

ولأن الأهداف السياسية للنشاط الإعلامي هي أمر طبيعي، ومشروع أيضاً، فإنه من المحتم أن تبرز المصلحة الوطنية للدولة، لأن المصالح الوطنية للدولة على المستويات المختلفة هي بمثابة الإطار أو الوعاء الذي تتحدد في نطاقه الأهداف المراد تحقيقها في الظروف والأوقات المختلفة، وذلك بالتفاعل مع التطورات والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها المجتمع في فترة أو لحظة، أو ظروف معينة. 

ومن هنا تحديداً تتبلور وتتفاعل الكثير من العوامل والمؤثرات ذات الصلة بمفهوم وتحديد المصالح والأولويات الوطنية، ويتكفل القانون بتحديد الجوانب والضوابط المختلفة المرتبطة، أو المؤثرة على تلك المصالح والأولويات، وبالتالي النطاق الذي يمكن أن يتسع أو يضيق أمام الممارسة الإعلامية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو أمر يشارك فيه بالضرورة من يقومون أو يساهمون في النشاط الإعلامي ومدى إدراكهم أو فهمهم للإطار الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي يعملون فيه.

وفي ظل الأهمية البالغة لإدراك واستيعاب الإطار الاجتماعي والسياسي للمجتمع كشرط ضروري للتعامل الإعلامي الفعال والصحيح أيضاً، فإن المشكلة تكمن أحياناً في بعض من يقومون بممارسة العمل الإعلامي، سواء من خلال ما هو معروف بالرقابة الذاتية التي يمكن أن تحد كثيراً من القدرة على التعامل الصحيح مع مختلف التطورات، وانطلاقاً من تصورات ذاتية قاصرة وغير صحيحة في كثير من الأحيان، أو من خلال تصور غير صحيح أيضاً لمعنى الحرية، حرية التعبير، وسبل وكيفية ممارستها، والحدود التي تفرض نفسها عليها أحياناً، والمسؤولية التي تقتضيها هذه الممارسة في الظروف والأوضاع المختلفة التي يمر بها المجتمع، وكذلك العلاقة بين الفرد والمجتمع، ودور القانون الذي ينظم حياة المجتمع ويحافظ على استقراره ومصالحه. 

والمؤسف أن هناك الكثير من المغالطات في هذا المجال، بقصد أو بدون قصد، ويصل الأمر بالبعض إلى تصور أن البطولة هي في التطاول أو استخدام ألفاظ أو كلمات جارحة أو غير لائقة، يحاسب عليها القانون، في مناقشة أمور قد تكون غير صحيحة أو غير دقيقة أو مجرد شائعة، أو كلام مرسل لا سند له من الحقيقة، وأنه من الأجدى أن تتم مناقشة ذلك بأسلوب عاقل ومهذب لكي نصل إلى الحقيقة طالما أنها هي ما ننشده، وليس مجرد تسجيل مواقف أو إساءات يشعر بعدها من يمارسها في الغرف المغلقة وكأنه قد قام بواجبه ومسؤوليته الوطنية حيال حاضره ومستقبله، في حين أنه لم يقم سوى بالإساءة إلى ذاته ووضعها تحت طائلة القانون الذي يمثل مصلحة المجتمع في النهاية.

اليوم وفي خضم الحراك السياسي، ينتقل الإعلام الجزائري إلى مرحلة جديدة يمارس فيها دوره كإعلام مجتمعي قادر على التعبير عن كل ما يدور في المجتمع، بتفاعلاته وطموحاته وتطلعاته، وبمشكلاته أيضاً، ولكن بشفافية وصراحة ووضوح، ودون تضخيم للمشكلات أو المثالب التي لا يخلو منها مجتمع من مجتمعات الدنيا. وهنا تحديداً فإنه من المهم والضروري الإشارة إلى أن الإعلام في تركيزه المفرط على السلبيات واصطياد الأخطاء والحرص على استدرار عطف المشاهدين، كان ولا يزال جزءا من المشكلة التي تعيشها بعض وسائل الإعلام، في حين أنه كان يمكنه أن يكون جزءا من الحل إذا اعتمد الموضوعية، وحرص على مراعاة المصالح الوطنية، بعيداً عن نرجسية حب الظهور أو تصور البطولات التي يحرص البعض على بنائها أمام أجهزة الحاسوب في الغرف المغلقة وبأسماء مستعارة وهو أمر لا يستقيم مع متطلبات الحرية التي يرفع الكثيرون شعارها دون وعي بمتطلباتها ومعناها في كثير من الأحيان.

إن محاولة التلحف ببعض العناوين والقضايا التي تشكل لدى الجمهور قضايا وجودية لها درجة القداسة وادعاء الانتصار إليها والسعي لتحقيقها والانحياز إلى حامليها وتظهيرهم إعلامياً سواء أكانوا ساسة أم مثقفين وصناع رأي عام ثم استثمار أولئك ذاتهم عبر اعتماد خطاب محبط ويائس ومهزوم يؤدي بالنتيجة إلى هزيمة افتراضية، هو أخطر ما يواجهه الجمهور الجزائري ولا سيما أن بعض المحطات الفضائية ترتبط بشكل أكيد وواضح بأجندات خارجية لا تخدم حتماً قضايا أبناء الجزائر وشعبها ووطنها. 

للأسف فقد تحولت بعض وسائل الإعلام إلى بؤر تضليلية خطيرة تقوم باستقدام واستضافة وتلميع أسماء معينة وبالتالي محاولة تسويق ما تحمله من أفكار لا تنسجم بالضرورة مع المصلحة الوطنية والسلم الاجتماعي القائم على عقد توافقي تاريخي متناغم وذلك باستخدام خطاب ولغة أقل ما يقال عنها إنها غرائزية مستدعاة من لحظة صراعية وعابرة في تاريخ الأمة يراد لها اليوم أن تكون بمثابة الفتيل أو مشعل الحريق الذي يحدث من مستصغر الشرر، ولعل أخطر ما يمثله ذلك النوع من الخطاب هو التعامل مع التاريخ وأحداثه وحقائقه على أنها قطع أحجار من ركام يعاد بناؤها بكيفية معينة تخدم أجندة خبيثة تشتمُّ منها رائحة شعوبية مقيتة. فالمسؤولية الاجتماعية للإعلام تلتزم بالحفاظ على الأمن والسلم الاجتماعيين للمجتمع، وتوخي الحذر من الخوض في المواضيع التي قد تعرض المجتمع لعدم الاستقرار. ولا بد من الالتزام بمقومات الأمن الاجتماعي.

فالإعلام الجزائري، الذي ينطلق اليوم بطاقات وفضائيات جديدة، وبعزم وإدراك عميقين لحقيقة أن حريتي تعني في الوقت ذاته حرية الآخر وأنه ليس هناك من يحتكر الحقيقة وحده، يتحمل بمسؤوليات وطنية تمتد إلى المجتمع والحكومة، وأنه بات بما يتوفر له من إمكانيات بشرية وطنية وتقنيات متطورة قادرة على النهوض بمسؤولياته كإعلام وطني جزائري يعبّر عن المجتمع الجزائري بتقاليده وسماته وسجاياه المعروفة والراسخة دون انحدار لإسفاف، أو تجاوز وتطاول لا يرضاه المواطن الجزائري في تعامله مع إخوانه أو أبنائه، وبحق يمكن للجميع أن يناقش أية قضايا طالما يلتزم بالموضوعية والصدق واللياقة والوضوح، وطالما يدرك أن حريته مرتبطة بحرية الآخر وأن الحوار الموضوعي هو أفضل السبل لحل أية مشكلة. 

أما البطولات الزائفة والتلاعب بالألفاظ والكلمات فإنها لا تمت للإعلام بصلة، والمؤسف أن ذلك يحدث أحياناً بحسن نية أو بعدم تقدير أو بجهل بالقانون، وهذه كلها لا تعفي من المسؤولية. فالمواطن الجزائري يريد إعلاماً جزائرياً وطنياً معبّراً عن تطلعات وآمال الجزائريين الطيبين والمحبين لبلدهم وتراب وطنهم كما كانوا دوماً.

وإذ تعيش الجزائر اليوم حراكها السياسي، فإنها تحتاج إلى كفاءات متقدمة لها خبرتها في الإعلام والثقافة والسياسة والفن والأدب والفكر والنقد وعلم النفس والتكنولوجيا، سواء أكانوا من العاملين في وزارة الإعلام أو من خارجها لوضع الخطوط الصحيحة لرسم مسارات عمل إعلامي ناجح.

الجزائر ولاّدة وفي الإعلام والسياسة والثقافة والفكر والأدب، كانت وما زالت الخزان الكبير في عدة مجالات، ولدى الجزائر من الكفاءات الإعلامية القادرة على النجاح في الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، كما لديها كثير من الكتّاب والمثقفين والمحللين السياسيين، وأستطيع أن أعدد أسماء كثيرين في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وأستطيع أن أعدد أسماء كثيرة من المتطفلين على الإعلام الجزائري كما تتطفل نباتات اللبلاب، فتبدو من الخارج أشجار الغابة وكأنها أشجار من اللبلاب المتسلق. 


إن بناء مسيرة ناجحة في الإعلام يحتاج إلى جهود كبيرة وإمكانيات كبيرة وإلى كفاءات متقدمة ومتطورة، ولها خبرة علمية وفنية وثقافية عميقة في الزمن والعطاء... وإلى قيادات من الإعلام نفسه لها الخبرة والموهبة والتجربة والتاريخ المهني، وتحتاج أيضاً إلى دعم كل الجهات الحكومية والسياسية، وأهم ما في هذا الدعم احترام دور الإعلام والإعلامي وتوفير الإمكانيات المادية والتقنية، فالإعلامي الفقير عرضة لاهتزازات كثيرة، والإعلامي غير المدرب وغير المثقف وغير المعد للقتال في خنادق هذا السلاح سيفشل ويجلب الفشل إلى سلاحه.


قبل أن أعرج إلى خاتمة المقال أود أن أشير أيضاً إلى أن الجهود الإعلامية في هدفها النهائي لا بد أن توجد لدى المواطن الثقة في وسائل الإعلام المحلية وتبعده عن الكثير من السلبية في انتقاء مصادر المعلومة والزيف خلف الشائعات والأخبار المغلوطة والتي باتت تتنامى في الفترة الأخيرة بسبب اللاشفافية في الرسائل الإعلامية وكذلك بسبب قصور دور وسائل الإعلام في التوعية والتثقيف في هذا المجال وإن كان الموضوع قد تم تداوله ولكنه لم يغط بتلك الصورة المرجوة... 

لا أدري ربما أن الحديث عن ما يراد من الإعلام الجزائري يحتاج لبحوث مطولة ولا يمكن اختزاله في مقال محدود، ولكننا في ختام الأمر نؤكد على أهمية صنع حراك إعلامي تطويري يخرج فيه إعلامنا الجزائري من لباس الرتابة ويغرد نحو آفاق التطوير والتحديث مستفيداً من المتغيرات المتعاقبة على كافة الأصعدة، ومن المواهب الإعلامية التي يعج بها المجتمع وجاعلا الهدف الأسمى له مجابهة كل المعوقات التي تواجه المجتمع الجزائري والرقي بثقافة أفراد وصناعة أجيال قادرة على التعاطي مع التغيرات الثقافية والاجتماعية تعاطياً عقلانياً مستنيراً.