يعود ملف سد النهضة الإثيوبي إلى واجهة الأحداث بالقارة الأفريقية وعلى صعيد المشهد السياسي العربي والدولي، فالموضوع لا يتعلق بحقوق إثيوبيا التاريخية في مياه النيل مثلها مثل غيرها من دول الحوض، فتلك أمور لا خلاف بشأنها وقد نظمتها اتفاقات دولية عديدة، ومصر كدولة مصب لا تعارض على الإطلاق تلك الحقوق، ولا تقف عقبة في طريق تنمية الدول الأفريقية المشاطئة لنهر النيل، بل على العكس تعمل على تعميق علاقاتها بتلك الدول وتنويع استثماراتها فيها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالرغبة في التنمية حتى ولو كان ذلك علي حساب مستقبل حياة الدول والشعوب الأخرى، فهنا تبدو الأمور مختلفة ولا يمكن لنظام أو دولة أن تقبل أن تعرض حياة شعوبها لمثل هذا الخطر المميت، ومن هنا تأتي أزمة سد النهضة.

فإثيوبيا التي أنفقت الكثير على سد النهضة، تعمل على الانتهاء منه في أسرع وقت من أجل جني ثمار ما دفعته في بناء السد، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقوق التاريخية للدول الأخرى، إذ من شأن بدء ملء السد في مدى زمني قصير من ثلاث إلى خمس سنوات أن يحجز كمية كبيرة من المياه الواصلة إلى السودان ومصر، وهو ما سيتسبب في تقليل كبير في حصة مصر المقدرة بـ55 مليار متر مكعب، خلال تلك الفترة وبشكل سوف يؤثر كثيرا على الزراعة في مصر، وهي التي تعتمد في حياتها على مياه النيل. وينظر خبراء المياه في مصر إلى أن سد النهضة سيؤثر على حصتي مصر والسودان من مياه النيل بشكل يعرض الأمن المائي للدولتين للخطر الداهم، وخصوصا في سنوات الجفاف التي تحدث في دورة النيل.

لقد سعت الدول الثلاث من خلال مشاورات ومفاوضات واجتماعات سابقه إلى إيجاد حلول مناسبة ترضي مختلف الأطراف في تحديد قواعد ملء السد والتشغيل مع الأخذ بالاعتبار حالة الجفاف في دورة مياه النيل، وتعتبر مسألة الملء والتشغيل هي أبرز النقاط الخلافية في هذه الأزمة، فمصر تنظر بشكل إيجابي إلى سد النهضة بما يخدم مصالح الشعب الإثيوبي، رغم أن إنشاءه لم يأخذ بالاعتبار موافقتها والسودان. 

وبعد ماراثون طويل وشاق في مفاوضات سد النهضة منذ إعلان المبادئ في الخرطوم بتاريخ الـ23 من مارس 2015 وحتى اليوم لم تظهر أية آفاق إيجابية لحل هذه الأزمة، ولم تتوصل مفاوضات العام الماضي إلى اتفاق لحل نقاط الاختلاف بين الدول الثلاث. ويتمحور الخلاف الأساسي بين مصر وأثيوبيا حول رغبة مصر في ألا تقل حصتها من مياه النيل خلال فترة ملء السد عن 40 مليار متر مكعب من المياه من أصل 51 مليار متر مكعب تحصل عليها حاليا ولا تغطي احتياجاتها، وتصر القاهرة على التنسيق والتشاور أثناء تشغيل السد في فترات الإغلاق والفتح. والنتيجة أن إصرار إثيوبيا على موقفها سيعرض مصر إلى نقص كبير في مياه النيل، وسيؤثر بالطبع على إنتاج الكهرباء بالسد العالي وتعرض الأراضي المصرية للجفاف، مما يؤثر على إمداداتها من النيل، الذي يوفر 90 في المائة من المياه التي تحتاج إليها للشرب والري، لتدخل مصر في مرحلة الفقر المائي. 

والآن المشكلة أصبحت أمرا واقعا، ولتأكيد المؤكد، فقد أعلنت إثيوبيا، عزمها بدء ملء خزان سد النهضة خلال شهر يوليو/ تموز الجاري، دون الاتفاق المسبق مع مصر والسودان، وهو ما رفضته مصر وتقدمت بمذكرة لمجلس الأمن في هذا الصدد. ومع ذلك، قال سيليشي بيكيلي، وزير المياه والري والطاقة في إثيوبيا، إن بلاده لن تعترف بالحقوق التاريخية لمصر في مياه نهر النيل. 

ولقطع الشك باليقين، فقد صرح مؤخرا، رئيس وزراء إثيوبيا، ''آبي أحمد'' في جلسة بالبرلمان الإثيوبي، ''أنّ قرار تعبئة وملء سد النهضة لا رجعة فيه، وفكرة تخلينا عن قراراتنا السابقة بشأن السد خاطئة تماما، فأعمال بناء السد قائمة بصورة جيدة". وتابع ''آبي أحمد'' قائلا: "لا نسعى لإلحاق الأذى بالآخرين جراء سد النهضة، وتطوير سد النهضة هو من أجل نمو إثيوبيا بالمقام الأول". واستدرك بقوله "يشعر الإثيوبيون الذين يعملون بالتزامن مع المفاوضات بالامتنان لأن بناء السد على قدم وساق، وسيمكنه دعم البلاد بنحو 4.9 مليار متر مكعب من المياه في هذا الشتاء". 

لقد ظل ملف سد النهضة الإثيوبي إحدى أهم القضايا العالقة على الخريطة الإفريقية منذ عقود، ودخل هذا الملف منعطفات كثيرة لسنا في وارد التعرض لتفاصيلها التاريخية. فالذي يهمنا أكثر هو الحديث عن الحاضر. فقد بدأ العمل في بناء سد النهضة أثناء أحداث ثورة يناير 2011 في توقيت استثنائي دون الرجوع إلى مصر حسبما تقتضيه اتفاقيات (1929 ـ 1958) وجاء تفهم مصر لأهمية السد بالنسبة لإثيوبيا، ما يعني تعامل مصر مع الملف بطريقة إيجابية جدا أملا في إتمام الاتفاق حول قواعد ملء السد، بشرط عدم الإضرار بأمنها المائي الحيوي، وقدمت تنازلات لقبول تخفيض حصتها من المياه في سنوات ملء السد وفقا لاتفاق دولي ينظم العملية وهيدروليكية التشغيل، وقد وصلت الاجتماعات إلى مستويات متقدمة، لتفاجأ أخيرا بعدم توقيع إثيوبيا على الاتفاق النهائي، ما أوجد حالة من عدم الثقة واستشعار نيات غير مطمئنة من قبل الجانب الإثيوبي حيال هذا الموضوع، وهو الأمر الذي رفع درجة الخطر السياسي ودفع الملف مجددا إلى واجهة الأحداث الدولية.

وكانت أثيوبيا قد لجأت إلى طرق خبيثة، خططت لها مسبقاً، لإلغاء حقوق الدول المستفيدة من مجرى نهر النيل، والمنظمة بموجب اتفاقيات سابقة، وتبنت الاتفاقية الإطارية لدول المنابع، وقادت الصراع لإنجازها عام 1995، ورفضت الربط بين هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة، مؤكدة أحقية وأولوية الأمن المائي لدول المنبع ''النيل والأنهار الأخرى''، من دون دول المصب ومنها مصر. وانتهت بتوقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية في أول شهر آذار من العام 2011، الأمر الذي وفر المجال والظروف لاستمرار أثيوبيا في تحقيق أهدافها، من تفريغ اتفاقيات دول المصب وبخاصة مصر من مضمونها، وعدم الالتزام بأي اتفاقية سابقة تضمن حصة وحقوق دول المصب، ما وفر الحرية اللازمة لإنشاء سد ''النهضة''. وبذلك تحقق الهدف الرئيسي لأثيوبيا من تجريد مصر بالدرجة الأولى من حقوقها التاريخية والقانونية في ملف نهر النيل، ''اتفاقيات دول حوض النيل منذ عام 1894 ـ 1902 ـ 1929 وآخرها عام 1959.

إضافة إلى ذلك فقد استغلت أثيوبيا ضعف مستوى التفاوض مع مصر وغياب الردع القسري بعد ''ثورة 25 كانون الثاني 2011''، غير عابئة بالاعتراضات المصرية، انطلاقاً من انعدام التوافق والتشرذم السياسي في ذلك الوقت، الذي أدى إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي... ومن ثم استغلت جميع الظروف وكسبت الوقت لإنجاز بناء السد من دون أي تعديل، لفرض الأمر الواقع، لأن بناء السد ينطلق ويستند إلى صراع سياسي واقتصادي غير معلن مع مصر، وبتخطيط أمريكي ـ إسرائيلي، ولم تعبأ بالاعتراضات المصرية...

وبناء ''سد النهضة''، الذي لا ريب في إضراره بالأمن المائي لمصر، وبأمنها القومي والاستراتيجي، لا يمكن إدراجه إلاَّ في سياق سعي استراتيجي لإضعاف مصر، ولإعلاء بنيان ''إسرائيل العظمى''، فيد إسرائيل، التي ستحْكِم قبضتها على كهرباء السَّد، إنتاجاً وتوزيعاً، في بناء هذا السَّد مرئية لكل من له عينان تُبصران. ولتأكيد المؤكد، فعدة مصادر تتحدث عن وجود قواعد للصواريخ الإسرائيلية بسد النهضة لحمايته من أي اعتداء في إطار العلاقات والمصالح بين إثيوبيا وإسرائيل والتي أخذت أبعادا أسرع وأقوى منذ تولى ''أبي أحمد'' منصب رئيس الوزراء (الحائز على جائزة نوبل والتي قد يكون لإسرائيل الفضل في الفوز بها)، صاحبها حلم إسرائيلي قديم بتوصيل مياه النيل إلى تل أبيب.

إن قضية مياه النيل تمثل قضية مصيرية للشعب المصري، والأمن المائي في مصر يعد أمنا قوميا لا يمكن التهاون فيه على الإطلاق، وعلى هذا فإن هذه القضية تمس مستقبل مصر وأمنها المائي. وفي رأينا المتواضع، فملف سد النهضة المتأزم بحاجة لتدخل منظمة الاتحاد الإفريقي وبعض القيادات الأفريقية التي تحتفظ بعلاقات متوازنة مع الطرفين المصري والإثيوبي، وذلك حفاظا على الأمن والاستقرار في المنطقة وذلك في ظرف زمني بالغ الأهمية، وعدم قدرة القارة على تحمل توترات إضافية جديدة. 

خلاصة الكلام: إنّ العلاقات العربية ـ الإثيوبية منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم مرت بفترات من حسن الجوار في أغلب تاريخها، وينبغي مراعاة هذه العلاقات مع العرب. أما استغلال مفصل تاريخي معين لفرض الأمر الواقع فهذه سياسة مرفوضة لن تجلب الخير للأمن الإقليمي في القارة الإفريقية عموما، فمصر تبقى مصر وإن مرت عليها سنوات كبيسة، والعرب يرون في مصر خطا أحمر لا يمكن المساس به، فهي عمق الأمة وقاعدة انتصاراتها طوال التاريخ، والتاريخ علمنا من هي مصر وما يمثله نهر النيل العظيم لها.