أدق التفاصيل عن الوضع الليبي، في ظل الحرب المحتدمة هناك،  حرب حولت هذا البلد من مارد اقتصادي عملاق إلى كرة نار ملتهبة أتت على الأخضر و اليابس داخله و امتدت شظاياها لتهدد أمن دول الجوار في ظل فوضى رهيبة من العنف و الإرهاب و انتشار السلاح... هي أهم النقاط التي تطرق إليها حوار خاص أجرته "بوابة إفريقيا الإخبارية" مع محافظ مدينة بنغازي الليبية السابق و أحد قضاتها و نخبتها الحقوقية، المقيم في تونس، جمال بنور.

محافظ مدينة بنغازي الليبية سابقا تحدث لـ "بوابة افريقيا الإخبارية" عن وضع المهجرين الليبين في تونس أو "ليبيي الشتات" النازحين من وطنهم هربا من الموت و الدمار. كما بسط محاورنا رؤيته لآليات و طرق إنهاء الصراع الليبي مؤكدا أن المصالحة الوطنية بين جميع الفرقاء بمن فيهم أنصار معمر القذافي هي الحل الأمثل لوقف اقتتال الأشقاء. و أضاف في الأثناء أن عقبات كثيرة تقف حجر عثرة في طريق إنجاح حوار غدامس و غيرها من الملفات الحارقة التي تخص الشأن الليبي على غرار ملفي سيف الإسلام القذافي و البغدادي المحمودي و مكان تواجد زعيم تنظيم "أنصار الشريعة" التونسي المحظور، المدعو "أبو عياض" و غيرها.

و في ما يلي نص الحوار

- بداية لو تقدم نفسك لقراء "بوابة إفريقيا الإخبارية" ؟

محدثكم جمال سالم محمد أحمد بنور، محام و وكيل نيابة و قاض سابق بالمحكمة الإبتدائية بجنوب مدينة بنغازي الليبية و كذلك رئيسا لمجلسها المحلي ( محافظ) خلال 2011 و 2012.

-كيف تشخص الوضع الحالي في الجارة الليبية؟

ليبيا تعيش حالة إنقسام و تشظ و هناك خلافات حادة حول مسألة الشرعية. التيار الإسلامي المتمثل في الإخوان المسلمين و أنصار الشريعة و غيرهما يحارب الجيش و البرلمان الليبيين اللذين يمثلان الشرعية بتعلة وجود الجنرال خليفة حفتر كوجه من وجوه النظام السابق و بحجة أن هذا الأخير يمثل عودة للنظام السابق، و هذا الأمر هو في الحقيقة تعلة واهية و كلمة حق أريد بها باطل.

في مدينة بنغازي مثلا، نجد أن المشهد اليومي هناك يعكس بوضوح حالات الدمار و الإرهاب و قطع الرؤوس ضد كل من يقف مع الشرعية. كما تم شل جميع مرافق الدولة في محاولة يائسة للسيطرة على الأوضاع لأن الحرب القائمة حاليا في هذه المدينة هي بين مؤسسة الجيش و شباب الأحياء الليبية و بين  تنظيم "أنصار الشريعة" و الموالين له من الدروع ( جماعات مسلحة).  أما  في الغرب الليبي، فنجد أن هناك مجموعات مسلحة ذات بعد إسلامي و أخرى ذات بعد جهوي و قبلي و هؤلاء توحدوا مع بعضهم البعض ضد البرلمان و الحكومة الليبيين و كذلك ضد الجيش الوطني الليبي. كما قامت هذه الجماعات بالإبقاء على المؤتمر الوطني الليبي الذي مقره طرابلس كممثل لشرعيتها و أيضا قامت بتشكيل حكومة عمر الحاسي.

- أنباء عن سقوط عدد من المدن أو المناطق الليبية تحت سيطرة تنظيم "داعش"، فهل تقدم لنا صورة واضحة عما يحدث هناك؟ و كيف هي تفاصيل الواقع اليومي للمواطن الليبي في ظل حكم هذه الجماعات؟

مدينة درنة أصبحت تحت سيطرة هذه الجماعات و تم إعلانها إمارة إسلامية من طرف تنظيم "أنصار الشريعة" و هم يديرون دواوين لحكمها، كما اختاروا لها أميرا. و توجد فيها أيضا مجموعة ما يسمى بـ "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" إضافة إلى قيام هذا التنظيم بمبايعة أبي بكر البغدادي.

في درنة لا نجد شرطة و لا جيشا و المواطن الليبي يعيش هناك بدون قوانين و بدون مدارس. كما أن الوضع الصحي سيء جدا و كذلك التواصل مع المدن الأخرى صعب جدا إضافة إلى الحروب المتقطعة بين هذه المليشيات المسلحة و الجيش الليبي و ذلك على الحدود الفاصلة بين درنة و بقية المدن الليبية ، دون أن ننسى عمليات القتل التي تستهدف الليبيين، و مؤخرا تمت تصفية 11 جنديا في عمليات غادرة من طرف هذه الميليشيات.

- و لكن هل يمكن القول ان المواطن الليبي قد تأقلم ، و إن مجبرا، مع هذا الوضع؟

المواطن الليبي مغلوب على أمره و ليس لديه خيار، فكما هو الحال في بنغازي نتيحة الحرب الدائرة هناك، توجد عديد الحالات من النزوح و اللجوء إلى المدن الأخرى و خاصة إلى المناطق النائية. أيضا نجد أن الوضع  بالمدن الليبية صعب جدا، إذ يعاني المواطن من انقطاع الكهرباء و المياه و الهاتف و كذلك الشأن بالنسبة لفقدان السلع و المواد الغذائية، ببساطة إنها الحرب، حيث لم  يبق للمواطن الليبي سوى المرتب الذي تصرفه له الدولة لأن الدولة الليبية مازالت إلى الآن تقوم بدفع المرتبات و هو ما يمثل المنقذ أو طوق النجاة الأخير بالنسبة إلى المواطن الليبي.

- هل يمكنك تقديم معطيات أو أرقام تقريبية، إن وجدت، حول أعداد الإرهابيين التونسيين المتواجدين في بلدك؟ و كذلك حول مكان تواجد "أبو عياض"؟

بالنسبة إلى "أبي عياض" فهو متواجد لدى الجماعات المتطرفة بجهة الطريق الصحراوي، بين مدينتي أجدابيا و طبرق، إذ تمثل الصحراء الليبية مرتعا للجماعات الإرهابية.  أما بالنسبة إلى أعداد الإرهابيين التونسيين المتواجدين بليبيا، فإن السلطات التونسية هي فقط من باستطاعتها تحديد عددهم.

- و ماذا عن الوضع بالحدود التونسية الليبية؟

الحكومة الموالية لعملية "فجر ليبيا" هي من تسيطر على مسألة بسط الأمن في الإطار الحدودي مع تونس. و هذه المنطقة تصبح في كثير من الأحيان ساحة مواجهات بين ما يسمىى ب"الثوار" التابعين ل "فجر ليبيا" و بين أفراد الجيش الوطني الليبي و ذلك بمدينة الزنتان المتاخمة للذهيبة التونسية.

- يرى متابعون أن الاحتجاجات التي هزت الجنوب التونسي مؤخرا تحركها أياد خفية قد تكون متحالفة مع "فجر ليبيا" لضرب الأمن القومي التونسي، حسب تعبيرهم، فإلى أي مدى تصح هذه الرؤية؟

أعتقد أن ما حدث بالجنوب التونسي ليست له أبعاد متعلقة بالشأن الليبي و إنما هي أبعاد تونسية صرفة.

- هل تعتقدون أن الوضع المتوتر على الحدود بين البلدين يجعل من عملية تسرب بعض العناصر الإرهابية إلى تونس أمرا واردا ؟

لا أستغرب أن يكون هناك تواصلا بين المجموعات الإرهابية.  في ليبيا و تحديدا في الجزء المجاور لتونس، لا يمكن الحديث عن وجود دولة  لديها شرعية و يمكنها تحمل مثل هذه المسؤولية أو تقوم بتأمين المنافذ و الحدود على النحو المطلوب.

-هل من جديد بخصوص محاكمة سيف الإسلام القذافي؟ و ما مدى واقعية ما روج من  تسريبات حول تهريبه إلى بلد مجاور؟

في إطار هذا الإنقسام السياسي الموجود في ليبيا لا يمكننا الحديث عن محاكمة عادلة يمكن تحقيقها في هذه المرحلة خاصة و أن سيف الإسلام محتجز لدى إحدى قبائل الزنتان و هي قبيلة موالية لشرعية البرلمان، و من  ثمة هناك فهي ترفض رفضا قاطعا تسليمه  لقوات "فجر ليبيا".

- أما عن إحتمال أنه تم تهريبه، فلا أعتقد ذلك لأنه ليس من السهل اللعب بورقة سيف الإسلام القذافي.

أيضا نجد، أن البرلمان و الحكومة الليبيين يريدان المحافظة على الأوضاع القانونية على حالتها تلك حتى يتم تحقيق الإستقرار المطلوب و تفعيل مؤسسات الأمن  و القضاء.

- هل ترون أن هناك إمكانية لعودة عائلة القذافي المنفية( أو بالأحرى ما تبقى منها) إلى ليبيا تحت راية مصالحة وطنية واسعة للم الشمل الليبي و طي صفحة الماضي؟

الشعب الليبي ينساب تلقائيا بطبعه نحو التسامح. و إذا عدنا إلى تاريخ تأسيس الدولة الليبية نجد أنها تأسست  على قيم التصالح و التوافق القبليين و هناك مواثيق في هذا الشأن يمكن الرجوع إليها. كذلك و حتى بعد تاريخ 17 فبراير 2011 كان هناك تواصلا بين هذه القبائل و المدن الليبية. و لكن التيار الإسلامي كان حجر العثرة لأن هذا التيار لم يكن صادقا في نواياه في ولوج باب الديمقراطية و لهذا كان الكثير من أنصاره يضعون العصا في العجلة و هو ما منع قيام المؤسسات التي يمكن أن ترعى المصالحة الوطنية. و لذلك أعتقد أنه في هذه المرحلة نحن بحاجة إلى أن يتوافق التيار الإسلامي مع نفسه و يضع خطط ثابتة للتوافق و بناء الدولة المدنية الحديثة في ليبيا.

- هل أن عودة القذاذفة الى حكم ليبيا تبقى واردة في رأيك؟

أعتقد أننا تجاوزنا هذه المرحلة. من يزال يقف تحت هذه الراية هو كذلك فقط لأنه لا يرى تفعيل النهوض بمشروع وطني حقيقي للم الشمل الليبي. النظام السياسي للقذافي انتهى بموته و لم يعد أمام الليبيين الآن سوى التوحد و التوافق ضمن الشرعية الجديدة و ضمن أسس ثابتة تعكس قيم العدالة و الكرامة و الديمقراطية و تضمن بناء ليبيا المدنية و الحديثة.

- و ماذا بخصوص محاكمة البغدادي المحمودي؟

هو الآن تحت مسؤولية "فجر ليبيا" القابعة خارج الشرعية حاليا. و بالتالي لا يمكن الحديث عن أية شروط للمحاكمة العادلة له في ظل هذه الظروف و حتى إن حدثت لن يعترف بها أي كان.

-و كيف تقيمون قرار تسليمه من قبل السلطات التونسية في عهد الترويكا؟

أنا لا أحمل تونس خطأ تسليم البغدادي المحمودي، لأنها قامت بذلك وفقا للإتفاقية القضائية الثنائية بين البلدين و وفق وجود طلب قضائي لتسليمه، إضافة إلى ذلك، فإن هذا التسليم تم تحت مظلة الاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الشأن. كذلك الإنتكاسة حدثت في ليبيا بسبب عدم التوافق السياسي بعد فترة من إجراء الإنتخابات و إطلاق المشروع الديمقراطي، و لهذا ليس من العدل تحميل الحكومة التونسية المسؤولية في هذا الجانب.

- ماهي شروط نجاح حوار "غدامس" وهل يمكن أن يجد هذا الحوار حلولا عملية  للأزمة الليبية؟

حوار غدامس هو تكملة لحوار جنيف. و أعتقد أن هذا الحوار قد ضم شرائح المؤتمر الوطني و البرلمان الليبيين كواجهات سياسية و ايضا هو اتسع للمجالس البلدية . كما أظن انه خطى خطوات في الاتجاه الصحيح بهدف تحقيق الإستقرار في ليبيا. و لكن هذا الأمر ليس بكاف على اعتبار و أن الحلقة المهمة لم يتم تناولها بعد و هي حلقة الميليشيات المسلحة و أيضا لم يتم تناول مشائخ القبائل و الأعيان ضمن هذه المباحثات حتى الآن،  و حسب اعتقادي أن هذا المخطط سيقع لاحقا.   أيضا هناك عقبات تواجه حوار غدامس و هي باختصار تتمثل في الإسلاميين الذين يجب أن يتوافق مشروعهم مع المشروع الوطني. و كذلك توجد عقبة أنصار النظام السابق الذين لم يتم احتوائهم حتى الآن في جلسات هذا الحوار و هو نفس الشأن بالنسبة إلى مؤسسة الجيش الليبي لأنها تعاني من مشاكل و هو ما يجب مراعاته عند التأسيس خاصة و أن قيادات "فجر ليبيا" ترفض قيادة خليفة حفتر لمؤسسة الجيش.

- هل خذل المجتمع الدولي ليبيا؟

نعم، فبعد سقوط النظام لم يقدم المجتمع الدولي دعمه اللازم لليبيا بما يكفل تأمين بناء المؤسسات و وضع الثورة في المسار الصحيح.

- كمقيم في تونس، كيف تقيم وضع المهجرين الليبيين هنا؟

أولا، لا بد من توجيه رسالة شكر لتونس، حكومة و شعبا، لاحتضانها المهجرين الليبيين الذين هم من كافة الأطياف سواء كانوا مع الثورة أم ضدها و هذا الأمر يسجل لتونس. ثانيا يمكن القول ان الجالية الليبية الكبيرة المقيمة في تونس ليس لديها أي جسم  يوحدها ضمن مؤسسة مدنية تساهم في معالجة الكثير من المشاكل التي يمكن أن تنجم عن تواجد الجالية و حركتها اليومية. و أنا أتمنى أن تلتفت الحكومة التونسية إلى هذا الجانب و تدفع في اتجاه إنشاء هذه المؤسسة التي سيكون لها من وجهة نظري إسهاما إيجابيا في حلحلة الكثير من الإشكاليات و استقرار الأوضاع.

- ألا توجد مضايقات ما ضد المهجرين الليبيين؟

حتى إن وجدت فهي حالات شاذة.

- في المقابل، هل يمكن أن يمثل بعض الليبيين المقيمين في تونس خطرا على أمنها، بنظركم؟

أعتقد أن النسيج الإجتماعي للبلدين واحد. كما أن هناك اواصر ترابط عديدة تجمع بين الشعبين و هذه الأواصر ماتزال قائمة. و لكن إن تحدثنا عن الحركات الهدامة التي تتبنى التطرف و الإرهاب فهي موجودة في تونس كما في ليبيا. في بنغازي مثلا هناك عديد العمليات الإنتحارية التي قام بها تونسيون و نحن في ليبيا نعرف جذور هذه الحركات و لا يمكن أن ننسبها إلى الشعب التونسي و نفس الأمر ينطبق على وضع الليبيين في تونس. تبقى مسألة تهريب السلاح من ليبيا في  ظل الفوضى الحالية هي الخطر البارز على الأمن القومي التونسي، لأن هذا الأمر يمكن استغلاله من طرف الخارجين عن القانون.

- نختم بسؤال قد يلخص الجرح الليبي ربما، هو : ليبيا إلى أين؟

ليبيا في امتحان عسير و صعب، لكنها حتما ستجتاز هذا الإمتحان بتفوق. النسيج الإجتماعي الليبي مازال متماسكا و مترابطا و ما يوحد الليبيين أكثر مما يفرقهم.