اعتاد التونسيون خاصة في المدن العتيقة ودواخل البلاد طيلة العقود الماضية على بدء صيامهم وإفطارهم خلال شهر رمضان على وقع صوت طلقات المدفع، أو ما يسمى ب "مدفع رمضان".

وبالرغم من "شبه" اندثار هذا التقليد الرمضاني المتوارث المثير للفرح في أغلب المدن التونسية لأسباب عدة أهمها تغير نمط العيش على إثر تزايد طفرة التكنولوجيات الحديثة، إلا أن هذا الموروث الاجتماعي ذائع الصيت عاد خلال السنوات الأخيرة ليسترجع بريقه العابق بالتاريخ في مدن المنستير والكاف وبنزرت وسليانة وباجة والقصرين والقيروان وغيرها.

وطيلة عقود سالفة من الزمن كان "مدفع رمضان" عادة تونسية تقليدية تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل وحدثا ينتظره الصائمون مع حلول كل شهر رمضان، حيث يطلق المدفع طلقتين في اليوم واحدة عند غروب الشمس للإعلان عن موعد الإفطار وأخرى في الفجر للإعلان عن موعد الإمساك والشروع في يوم جديد من الصيام.

في المنستير، وسط شرق تونس، دأب عدد كبير من المواطنين على التجمهر في وسط المدينة "باب الغربي" المكان المخصص لإطلاق المدفع قبل دقائق من الإفطار لمواكبة هذه اللحظات.

وتثير طلقات "مدفع رمضان" فضول وفرح الأطفال الذين يواكبون مع أهاليهم هذا الحدث في أجواء احتفائية من غناء وأهازيج وأناشيد وتصفيق.

ويشرف على مدفع رمضان في ساحة "باب الغربي" بمدينة المنستير التونسية "عم علي" (ضراب المدفع) الذي تولى هذه المهمة منذ 15 سنة بعد أن ورثها عن أحد أقربائه، فطيلة كل هذه السنوات توكل إلى "عم علي" مهمة إطلاق الطلقات المؤذنة بحلول موعد الإفطار بعد يوم كامل من الصوم قد يكون شاقا للبعض.

وفي تصريح لموقع إعلامي محلي، يقول "عم علي" إنه "ورث هذه الصنعة عن خاله "ضراب مدفع رمضان" منذ القدم، إذ كان يرافقه منذ صغره حتى أتقن هذه الصنعة، وما إن توفي خاله حتى وجد نفسه يحل مكانه".

ويؤكد "عم علي" أنه كان "يعمل موظفا قبل أن يتقاعد منذ 4 سنوات، ليتفرغ كليا لهذه المهنة التي يتقاضى أجرا مقابلها من جمعية صيانة مدينة المنستير".

ويتحدث "عم علي" في هذا التصريح الإعلامي عنتجربة إطلاق "مدفع رمضان" في ساحة الزعيم الحبيب بورقيبة بمدينة المنستير، وكيف توقف "المدفع" خلال السنتين الفارطتين بعد تفشي فيروس كورونا في تونس، حيث لم يطلقه سوى مرة على امتداد العشرة الأواخر من شهر رمضان 2021، بعد توفر الذخيرة".

ويتابع "عم علي" قائلا لموقع "بوابة تونس" إنه "وجد صعوبة العام الماضي في تأمين الذخيرة خلال شهر رمضان ولم يطلق المدفع، وذلك بعد فرض قيود غلق الحدود الجوية والبحرية مع كل دول العالم، بسبب تفشي كورونا".

ولفت إلى أن "الذخيرة تأتي من إسبانيا وهي غير متوفرة في تونس".

ويختلف مكان إطلاق "مدفع رمضان" حسب طلبات الصائمين من متساكني المدينة، فالمدفع كل يوم في مكان وكل يوم في "حومة" (حي) وكل يوم في ساحة حتى يتم تلبية طلبات جميع الصائمين وإرضاء رغباتهم.

وبعد أن يطلق "مدفع رمضان"، يشرع الصائمون مصحوبين بأطفالهم بالهتاف والتصفيق معبرين عن فرحتهم بحلول موعد الإفطار ثم يهرعون في الحين إلى منازلهم لتناول وجباتهم، ويلتحق بهم "ضراب المدفع" "عم علي" بعد جمع أدواته ليركب دراجته النارية ويعود إلى بيته.

ويحتل "مدفع رمضان" مكانة هامة جدا في الذاكرة الجماعية للتونسيين لما يكتسيه هذا الموروث من رمزية تاريخية واجتماعية وعائلية ووجدانية تتوارثها أغلب العائلات التونسية أبا عن جد وجيلا بعد جيل، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسأل تونسيا عن "مدفع رمضان" ويجيبك بالنفي، فكل تونسي تقريبا يرتبط ارتباطا وجدانيا وطيدا بهذه العادة كجزء حميمي من ذكريات طفولته محفورا في الذاكرة، خاصة في المدن العتيقة والأرياف، وكيف لا وقد كان التونسيون في عهد الحركة الوطنية والكفاح ضد الاستعمار الفرنسي ولاحقا في عهد بناء دولة الاستقلال لا يعرفون موعد الإفطار في رمضان إلا عبر طلقات مدفعه.

وخلال السنوات الأخيرة، دعت بعض المبادرات، سواء الرسمية أو الشعبية، إلى إحياء هذه العادة الرمضانية الموغلة قدما في وجدان كل التونسيين فاستجابت السلطات لبعض النداءات في حين لم تستجب لأخرى، ربما لديها أسبابها.

ففي مدينة سليانة، شمال غرب البلاد، عاد "مدفع رمضان" من جديد في عام 2019 بعد تعطله طيلة 9 سنوات لتحدث عودته فرحة عارمة لدى الأهالي.

وفي عام 2021، وفي مدينة القصرين وسط غرب البلاد، عاد "مدفع رمضان" ليطلق طلقاته المعتادة بعد غياب دام 17 سنة بعد أن استجابت السلط المحلية لنداءات السكان بإعادته.

أما في مدينة الكاف، شمال غرب تونس، فقد غاب "مدفع رمضان" لمدة 22 سنة ليرجع منذ ثلاثة أعوام مضت لتعود بعودته الفرحة لمتساكني الجهة خاصة كبار السن والكهول ومن عاشوا طفولتهم على وقع دويه الهادر.

وفي بنزرت (شمال) عاد "مدفع رمضان" بعد أكثر من 12 سنة من الغياب لينتصب بالحصن الإسباني في المدينة العتيقة ويبث البهجة في أركان المدينة وفي أفئدة أهلها.

أما في القيروان (وسط غرب) فلقد عاد هذا العام "مدفع رمضان" بعد وصول كمية الذخيرة الخاصة به من العاصمة ليبهج الكبار والصغار.

ويوميا قبل الإفطار ينتصب المدفع بسور "البريجة" بالمدينة العتيقة بالقرب من جامع عقبة بن نافع بالقيروان ليطلق طلقاته معلنا موعد الإفطار.

ولا يعرف إلى حد الآن بشكل مؤكد وحاسم لماذا انقطعت هذه العادة الرمضانية التقليدية العريقة في تونس برغم وجود بعض المحاولات لإحيائها خلال السنوات الأخيرة.

ويرجع البعض أسباب انقطاع "مدفع رمضان" عن إطلاق دويه معلنا موعد الإفطار في تونس إلى أسباب تقنية ولوجستية وأمنية، من ذلك نفاذ الذخيرة، فيما يعلل البعض الاخر هذا الانقطاع بتطور المجتمع وتغير العادات والتقاليد بعد أن غزت التكنولوجيات الحديثة حياة التونسيين ككل مجتمع في نهاية المطاف.

تاريخيا، اعتاد الكثير من المسلمين منذ أكثر من 500 عام على بدء صيامهم وإفطارهم خلال أيام شهر رمضان على وقع صوت طلقات المدفع.

و"مدفع رمضان" هو مدفع يستخدم كأسلوب إعلان عن موعد الإفطار وإخبار العامة عن هذا الموعد، وهو تقليد متبع في العديد من الدول الإسلامية بحيث يقوم جيش البلد بإطلاق قذيفة مدفعية صوتية لحظة مغيب الشمس معلنا فك الصوم خلال شهر رمضان.

ورغـم تعدد الروايات التاريخية حول أصل "مدفع رمضان"، إلا أن جميع المراجع تشير إلى أن أصل الفكرة "كان مصريا، وأن ظهوره جاء عن طريق الصدفة، فلم تكن هناك نية لاستخدامه لغرض إعلام الصائمين بحلول موعد الإفطار"، وفق بعض المصادر التي اطلعنا عليها.

وتقول المصادر التاريخية إن "ظهور المدفع لأول مرة جاء عن طريق الصدفة في القاهرة أول شهر رمضان عام 865 هـ، عندما أراد أحد سلاطين المماليك أن يختبر مدفعا جديدا، وأمر بتجربته، وتصادف وقت إطلاقه مع موعد أذان المغرب، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع بقصد إعلام الصائمين بحلول موعد الإفطار، فاستحسنوا الفكرة وشكروه على هذه البدعة الحسنة، مما شجع السلطان على استمرار تنفيذها بل وقرر إطلاق المدفع عند الإمساك".

فيما تشير مصادر أخرى إلى أن "مدفع رمضان، والذي يسمى أيضا بـ" مدفع الإفطار" "استخدم لأول مرة بالمصادفة في عهد الخديوي إسماعيل، عندما كان بعض الجنود يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوت في سماء القاهرة وتصادف ذلك مع وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدا جديدا للإعلان عن موعد الإفطار، ومنذ ذلك الوقت يستخدم المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية".

ومن مصر انتقل هذا التقليد إلى القدس ثم إلى بلاد الشام فالعراق وبلدان المغرب العربي.