في منتصف القرن السادس عشر، وتحت ضغط الفظائع والأهوال التي كان يقترفها فرسان القديس يوحنا في حق طرابلس وسكانها، اتجه على عجل وفد من أعيان بعض المناطق الليبية إلى الأستانة طلباً لدعم الدولة العثمانية ـ القوة الإسلامية الكبرى حينها ـ لتحرير طرابلس من القوات الغازية. ولأن ذلك الطلب كان بمثابة الهدية من السماء، ليس لأنه يتوافق فحسب مع إستراتيجية التوسع والتمدد العثماني في شمال أفريقيا، بل لأنه يمنحها شرعية دينية وقوة أخلاقية ومعنوية ويظهرها حامية لحمى المسلمين وديار الإسلام. وعلى الفور، استجاب السلطان للطلب الليبي ووجه بحريته للقيام بالمهمة. وبالنتيجة احتل العثمانيون ليبيا بعد هزيمة المالطيين، وجعلوها ولاية من ولاياتهم، وظلت كذلك لثلاثمائة وستين عاماً قادمة. تعاقب خلالها على سدة حكم الولاية أكثر من سبعين والياً تركياً. أما الليبيون فقد عانوا طيلة هذه المدة ما لا يخطر على بال بشر من المظالم والآلام. فلم يكن للأتراك هم في هذه البلاد إلا جباية الضرائب التي أثقلت كاهل الشعب المسكين وقصمت ظهره. ولهذا لم يكن أمام الليبيين من خيار إلا إشعال نار الثورة والتمرد والعصيان في عموم الأرض الليبية. لكن بطش الأتراك كان يفوق كل تصور، فلم تراع في الليبيين إلاً ولا ذمة، فشردب القبائل الثائرة والرافضة للظلم والمهانة في أصقاع الأرض، حتى وصلت القبائل الليبية إلى تشاد والنيجر ومصر وتونس وغيرها. وارتكبت المجازر والمذابح في حق القبائل الأخرى، مثل إبادة قبيلة الجوازي التي وثقها الطبيب الإيطالي باولو دي لاشيلا، ومذبحة وتهجير أولاد علي، وأولاد إمحمد، والمحاميد وغيرهم. والأخطر والأدهر هو تفريط السلطان عبدالحميد الثاني في الكيان الليبي عندما عرض على اليهودي ثيودور هرتزل إقامة وطن قومي لليهود في منطقة خليج سرت الليبية، وفقاً لما قال به اليهودي ناحوم سلاوش. ثم أكمل المهمة تفريط "رجب باشا"، الوالي العثماني في ليبيا قبيل الاحتلال الإيطالي، عندما أراد توطين اليهود في إقليم برقة، أو في منطقة مسلاته بالقرب من طرابلس. لكن تضافرت جملة من الظروف الدولية التي لم تساعد على تحقيق هذه المخططات.

          في عام 1911، كانت الهجمة الإيطالية امتحاناً للعلاقة التركية الليبية. فعندما هاجمت الجيوش الإيطالية السواحل الليبية، انسحبت تركيا من ليبيا وسلمتها لإيطاليا مقابل جزيرة في بحر إيجه، بموجب اتفاقية أوشي لوزان، تاركة الليبيين لمصيرهم، يواجهون جحافل روما بأنفسهم. وهكذا أكل الأتراك ليبيا لحماً ورموها عظماً. وفضحت مدافع الإيطاليين ومصالح الأتراك دعاوى الإخوة الإسلامية التي طالما وظفت لشرعنة الاحتلال التركي المقيت لليبيا. وقاتل الليبيون منفردين وبإمكانيات متواضعة جحافل دولة من أكبر دول العالم في ذلك الزمن. ثم مرت السنون وجاءت فترة ومرحلة تاريخية أخرى، انتصر فيها الليبيون، وتولوا زمام أمورهم بأنفسهم، فنسوا فيها ما اقترفه الأتراك في حقهم، وقلبوا صفحة الماضي، على الرغم من أنهم لم ينسوا لإيطاليا ما اقترفته في حقهم إبان غزو ليبيا. وفتح الليبيون بلادهم للشركات والاستثمارات التركية طيلة عقود، وفي السنوات القليلة التي سبقت فبراير 2011، واحتفاء بموقف تركيا من حصار غزة ودعم قضية الشعب الفلسطيني، تم تكريم رجب أردوغان ومنح أرفع الأوسمة. ليس هذا فحسب، بل رفعت كل القيود في وجه التعاون بين البلدين، بما فيها إلغاء تأشيرات الدخول، وبلغت قيمة العقود التي تحصلت عليها الشركات التركية في مشروع التنمية الضخم حوالي عشرة الآف مليون دينار. ولكن صدق الشاعر العربي حين قال: " إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ــ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا". فما أن بدأت المؤامرة واشتعلت نار الفتنة في ليبيا في 2011، حتى ظهر الوجه الحقيقي للسلطان العثماني الجديد أردوغان الذي نفخ في نار الفتنة وقطع اليد الذي امتدت إليه بالخير والأخوة والمحبة. ومنذ ذلك التاريخ وتركيا تلعب دوراً هداماً مدمراً في هذا البلد المسلم الذي لم يقدم لتركيا إلا كل خير. لقد شكلت تركيا محور انقرة-طرابلس-الدوحة، الذي همه الوحيد تنفيذ المشروع لبعلبمي لحركات الإسلام السياسي على حساب الوجود العربي. والهدف الأسمى لهذا المشروع إعادة أمجاد الدولة العثمانية وتحقيق المصالح التركية الأنانية على حساب الشعوب العربية في ليبيا وسوريا والعراق وغيرها. لقد استمرت تركيا في التحالف مع طرف ليبي إرهابي ـ لا يمثل إلا أقلية ـ أذاق الليبيين وبال أمرهم، وشتتهم في المنافي والمهاجر. وقد شجعته على الاستئساد والتنمر على بقية الشعب الليبي. فدمر هذا الطرف البلاد ومؤسساتها، ومزق نسيجها الاجتماعي، وسرق أموالها وأرصدتها وهربها إلى تركيا. وقام الأتراك بتسليح المليشيات وتزويدها بكل وسائل الدمار، وتحريضها على شق الصف الوطني وتدمير البلد. 

          لم يتوقف التآمر التركي على ليبيا عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى مديات وآفاق لا يمكن بأي حال من الأحوال قبولها. فعلى الرغم من أن الأتراك يعون عزلة حكومة السراج، وعدم تمكنها من الحصول على شرعية مجلس النواب، وعدم تقبل الليبيين بكل أطيافهم لها، إلا إنهم ألقوا بكل ثقلهم ورائها، لاعتقادهم بإمكانية تحقيق مصالح تركية من ورائها، خاصة وانها في أمس الحاجة للدعم التركي للاستمرار في تمسكها بالسلطة، ومقاومة بسط الجيش الليبي لإرادة الشعب الليبي على عاصمة بلاده. فبواسطة المجلس الرئاسي وحكومته غير الشرعية يمكن لتركيا توريط ليبيا في شراكات قانونية قد يكون بعضها ملزماً للدولة في المستقبل. فبعد تحويل المليارات من أموال الليبيين لدعم الليرة التركية المنهارة، وبعد إعطاء تركيا الأولوية في العمليات التجارة والاستيراد والتصدير والاستثمار، اتجه الأتراك إلى الدفع بعمليات الابتزاز إلى أقصى مدى. فأعلن عن توقيع مذكرة تفاهم أمني واقتصادي وعسكري بين السراج وأردوغان، على الرغم من أن اتفاق الصخيرات الذي تستمد منه حكومة السراج شرعيتها المنقوصة يمنع المجلس الرئاسي من توقيع أي اتفاقات ترتب التزامات من أي نوع على الدولة الليبية. ومع هذا دفع الأتراك، السراج وحكومته إلى هذا المدى من التفريط في الحقوق الوطنية، الذي يرقى إلى مرتبة الخيانة العظمى. واقدام حكومة السراج على هذه الخطوة بمثابة زرع للألغام في الظريق لأنه لم يعد لها ما تخسره بعد وصول طلائع الجيش إلى مشارف أحياء طرابلس المأهولة. فهي في الرمق الأخير وأصبحت تعد ما تبقى لها من أيام. ولذلك فهي على اسبعداد لتقديم أي تنازل يعطيها ولو بصيص أملفي الحفاظ على الوضع القائم. والأتراك يودون الاستفادة من وضعية السراج وحكومته في تسجيل نقاط سياسية واقتصادية وأمنية لصالحها. وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقات لم تنشر ليطلع عليها الرأي العام ويصدر أحكاماً بشأنها، إلا إن ما تسرب من معلومات لا ينبئ بخير. إن المعلومات المتوفرة تفيد بأن الاتفاق يفتح أمام الأتراك المياه الإقليمية والأجواء والمناطق الاقتصادية الليبية. ويمكن الأتراك من التواجد والعمل في إقليم ليبيا كما لو كانت تمارس نشاطها في إقليمها البحري ومجالها الجوي. إن هذا العمل أقل ما يقال عنه إنه تفريط سافر في سيادة الدولة الليبية وإهدار وتفريظ في مصالحها وإمكانياتها ومجالها الحيوي. كما أنه يعكر صفو العلاقات بين ليبيا وجيرانها العرب والمتوسطيين. لأنالأتراك ربما أرادوا بواسطة هذا العمل تصفية حساباتهم مع بعض الدول مثل اليونان ومصر، وجعل ليبيا شوكة في ظهر مصر. كما أن التصرف الليبي التركي هذا يهدد الاستقرار في حوض البحر المتوسط بأكمله، لأنه يغير الأوضاع الراهنة في الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية، الأمر الذي ينذر بنتائج غير محمودة. ولكن على الرغم من كل ما قيل، فإنه لا يمكن بلورة رأي نهائي ما لم ينشر نص الاتفاق كاملاً. وفي كل الأحوال، فإن الشعب الليبي المجاهد الذي ظل يقدم قوافل الشهداء دفاعاً عن وجوده عبر التاريخ، فإن إرادته الوطنية الحرة كفيلة بتمزيق هذا الاتفاق، مثلما ستمزق غيره من اتفاقات الذل التي جاء بها الخونة والعملاء. ولن يلدغ الليبيون مرة أخرى من الجحر نفسه مرتين. 

وإن يك ظهر هذا اليوم ولى ـــ  فإن غداً لناظره قريب.