لا أحد يذكر مدينة القيروان، و هي عاصمة تاريخية من عواصم الإسلامية الكبرى، دون أن يتحدّث عن شيئين فيها: الجامع الكبير جامع عقبة إبن نافع، و مقام "سيدي الصّحبي" بلهجة أهل تونس أي مقام الصحابي أبو زمعة البلوي .

مقام "سيدي الصّحبي" يقصده كلّ من يزور المدينة و الأغراض مختلفة فنسبة كبيرة تأتي من أجل التبرّك و الدّعاء و نسبة أخرى تأتي من أجل السياحة و إستكشاف المعمار و المكان، و أهالي المدينة و سكانها لا يفوتون مناسبة دينيّة أو اجتماعية دون زيارة المقام. و ما يلاحظه الزائر إلى مقام "السيّد" كما يسّميّه كذلك أهل القيروان هو كثرة حضور العنصر النسائي خاصة و لكن أيضا حضور الرجال و الشيوخ و الكهول و الأطفال و من مختلف الطبقات الاجتماعية  والمستويات الثقافية الزيارة و التبرّك و الدّعاء و حضور المناسبات التي تقام في هذا المكان .


** من هو الصّحابي أبو زمعة البلوي ؟

هو الصّحابي الجليل أبو زمعة عبيد بن أرقم البلوي، شهد بيعة الرّضوان مع الرسول الأكرم صلى الله عليه سلّم في الحديبية و من الذين  نزلت فيهم الآية الكريمة من سورة الفتح :" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً"، شهد أبو زمعة البلوي فتح مصر مع عمرو إبن العاص، و دخل إفريقية (تونس) فاتحًا في جيش معاوية إبن حديج في عهد خلافة عثمان إبن عفان و إستشهد في جلولة التي تبعد قرابة الــ30كيلومترا على مدينة القيروان في معركة ضد البيزنطيين سنة 34 للهجرة، و يقال أنّه كانت من أبي زمعة البلوي شعرات من شعر الرسول صلى الله عليه و سلّم و قد دفنت معه في هذه المقام الذي بنا حوله حودة باشا المرادي سنة 1085 قبّة أندلسيّة جميلة المعمار و أكمل بعده محمّد بن مراد بناء الضّريح  و الزاوية و المدرسة القرآنية سنة 1094 هجري .

عندما تدخل إلى مقام "سيدي الصّحبي" تلاحظ أوّلا نظافة المكان و معماره الباهر بصحنه الأندلسي و قبّته المستديرة الجميلة، كما تلاحظ جودة البناء و فخامة المكونات المعمارية  من أعمدة رخامية و بلاطات ملونّة و أشكال هندسية و ألوان زاهية متناسقة .

الأجواء روحيّة بامتياز، رائحة البخور و السّكينة و الحضور القلبي للزوّار و الأدعية و الصلاة في المسجد و صوت القرآن المرتّل المنبعث من مسحد المقام و الخشوع و أحيانا حتى الدّموع تراها في بعض العيون .

يأتي الزوّار هنا في معظمهم للدّعاء و التبرّك و إحياء المناسبات الدّينية و الاجتماعية، تحدّثت لــ"بوابة إفريقيا الإخبارية"  السّيدة عويشة التي وجدناها جالسة عند الضّريح، عن أسباب الزيارة الى هذا المكان بالقول :"نحن نأتي هنا للتبرّك بـ"سيدي الصّحبي" و برائحة "سيدنا النّبي"، و نطلب الله بالدّعاء في هذا المكان، و الناس كلهم في القيروان يأتون هنا في كلّ مناسباتهم فمن يريد أن يكتب صداق الزّواج يأتي الى سيدي الصّحبي و يكتبه هنا من أجل البركة، و معظم عمليات "الطّهور" (ختان الأطفال) تقام هنا عند "سيدي الصّحبي"، كذلك من يريد الذّهاب الى الحج أو العمرة فإنّه يأتي هنا و يستدعي السّلاميّة (فرقة إنشاد ديني) و يقيمون حفلا و عشاء و من مقام "سيدي الصّحبي" يخرج مباشرة الى البقاع المقدّسة".

عندما تدخل الي حيث الضريح تجد غرفة صغيرة يتوسّطها القبر مسيّج بسياج من الحديد و مطليّ بالأخضر و على جنباته يقف الزّائرون من أجل الدّعاء و يجلس البعض هناك مدّة طويلة كالشيوخ و العجائز و النّسوة و حتّى العشّاق و المخطوبين يقضون وقتا طويلا عند الضّريح كعادة توارثتها الأجيال في القيروان .

عندما تنهي الزيارة و تعبر الباب للخروج تجد إبن "حفيظ المقام" يرشّ يديك بالزّهر و لك أن تدفع قيمة رمزية من المال يقول القائمون على المقام بأنّها تصرف في أعمال الصيانة و التنظيف. هناك من يدفع مبالغ زهيدة رمزية بين الــ100 مليم و الدّينار وهناك من يدفع مبالغ كبيرة و ضخمة، و كلّ حسب نيّته و تصوّره و مقدرته كذلك .

تحدّث السيّد زهير الحدّاد لــ"بوابة إفريقيا الإخبارية" و هو "حفيظ المقام" ( المسؤول عنه و القائم عليه) عن تاريخ هذا المقام و سيرة الصحابي الجليل المدفون في المكان وعن سبب الزّيارة التي يقوم بها النّاس إلى هذا المكان، يقول الحدّاد :"كل مجموعة من الصّحابة في عهد الرّسول عليه الصّلاة و السّلام أخذ ناحية لينشر فيها الإسلام كي لا يبقى حكرا على جزيرة العرب، بما فيهم هذا الصحابي الجليل الذي أخذ طريق شمال إفريقيا فجاء و استشهد و دفن هنا في القيروان، و هؤلاء الناس يأتون للتبرّك بصحابي الرّسول و حبّ النبيّ، فرسول الله صلى الله عليه و سلّ يقول :'أصحابي كالنجوم من واساهم واساني و من آذاهم آذاني' و يقول أيضًا 'أيما رجل من أصحابي مات ببلدة فهو قائدهم و نورهم يوم القيامة'، و هذا كله تبرّك و الإعتقاد كله في الله، فأمر كلّه في إطار التبرّك و شمّ رائحة الرّسول لا أكثر و لا أقل" على حدّ قوله .


** زوار من كل الشرائح والأعمار:

و عن الزوّار الذين يأتون إلى هذا المكان قال حفيظ المقام :" نساء و رجال و من كل الطّبقات الإجتماعية و المستويات الثقافية و أعمار مختلفة و من القيروان و خارجها و من كل البلدان الإسلامية، و حتى السواح يأتون هنا لمشاهدة المكان و إكتشاف المعمار".

وجوابا عن سؤالنا حول الموجة التي شهدتها البلاد في فترة سابقة من إستهداف للأضرحة و الزوايا، هل تعرّض المقام لأي عمليات من هذا النّوع أو أي تهديدات قال زهير الحدّاد :" في تلك الفترة كان كل مقام معرّضًا لعمليات الإعتداء، و الحمد لله أنها كانت فترة عرضية عابرة لم تدم طويلا، و لقد اتخدنا وقتها إحتياطات أمنية و حراسة مشدّدة و الحمد لله لأي يتعرّض المقام لأي إعتداء" .

في هذا المقام ترى أيضًا أناسًا بمستويات تعليمية عالية و موظّفون كبار، حيث ترى تنوّعا في طبيعة الزوّار و أجناسهم و مستوياتهم الاجتماعية، لكن الملاحظ بدقّة هو الحضور الكثيف للعنصر النّسائي بكل الأعمار، و نحن وسط المقام دخلت ثلاث فتيات مظهرهن مختلف على باقي الزّائرات و قبل الدّخول الى المقام كانت هناك أقمشة و أغطية للرأس التحفن بها و دخلنا الى غرفة الضّريح، بعد خروجهن تحدّثنا إلى إحداهن و إسمها سارة (22 سنة) و سألناها عن سبب الزيارة فقالت :"نحن نأتي دائما هنا يوم الجمعة و يوم الخميس من أجل زيارة "سيدي الصّحبي"، الفتيات في الحقيقة يأتين هنا من أجل الدّعاء و طلب الزّوج، ، وهذه حقيقة" لتضيف رفيقتها عبير (25 سنة) :"تكذب عليك من تقول غير هذا، كلهن يأتين من أجل هذا السبب" تقول ضاحكة و هي تغادر المكان .

"سي فرج" رجل شدّنا مظهره الذي يوحي بمستوى اجتماعي محترم، فأردنا أن نعرف ما السبب الذي دفعه لزيارة هذا المقام، فقال متحدّثًا لــ"بوابة إفريقيا الإخباريّة" :"نحن لدينا أهلنا هنا في القيروان و لقد جئنا من سوسة (مدينة ساحلية بالوسط التونسي)، و كلّ مرة نأتي فيها للقيروان لابد أن نزور هذا المقام من أجل التبرّك و الدّعاء لا أكثر و لا أقل"، و عندما سألناها أن البعض يستنكر ربّما مثل هذه الأشياء قال سي فرج :"المقصود هو الله و نحن هنا فقط للتبرك و الدّعاء بالخير والمعبود في النّهاية هو الله و لا أحد يمكن أن يكون في مقام الله و لكن نحن نأتي فقط للتبرّك و الزيارة و الدّعاء الصالح عند مقام هذه الصحابي الجليل" .

لا تلاحظ و أنت تزور مقام "سيدي الصّحبي" في القيروان غير الدّعاء و الصّلاة في مسجد الزّاوية، ربّما البخور و الرش بماء الزّهر هي أشياء تميّز المقام و لكن لا تلاحظ أبدا غير محبّة و اعتقاد في بركة هذا الصّحابي الجليل و كلّ من تحدّثنا اليهم من الزوّار يقولون أنّ المقصود بهذه الزيارة هي الله في النهاية و الدّعاء و الطّلب كله موجّه اليه، و هم يلتمسون هنا فقط بركة المكان و بركة هذا الصحابي الذي يحمل شعرات من شعر الرّسول الأكرم صلّى الله عليه و سلّم"

أمام المقام على الشّارع الكبير ينتصب الباعة، باعة الحلوى و العطور و الحلويات و ألعاب الأطفال بحثا عن الزّبائن الذين يعج بهم المكان، كما أنّه لا تلاحظ أي حواجز للاختلاط بين الجنسين داخل المقام ذاته فـ"الطقوس" كلها مختلطة و المقام نفسه مفتوح للجميع و للجنسين و لكل الأعمار.