يقف الطالب حَائراً أمَامَ إدْراك مفهوم البحث العلمي عامة، ومفهوم البحث اللساني خاصة، وما يتعلَّق بهما من نظريات ومناهج ، وما يتصور من مجالات وميادين ، تطبيقية أو تجريبية ، أو افتراضية ، في مضمار التعاطي للبحث العلمي وفوائده ، على صعيد التنمية الفكرية والمعرفية والاجتماعية ، وما إلى ذلك...
وفي هذا الصدد ، قدْ لا يستطيع الطالبُ الباحثُ أنْ يتناولَ موضوعاً من اختياره، أو من اختيار غيره، فلا يعرف: أي منهج يسلكه؟ وأي طريقة يختارها؟ ولا يتصور خطوة البداية فيه، ولا مرحلة النهاية له، فيظل تائها بين زملائه وأساتذته، محتاجاً إلى مساعدة عملية، تنير له السبيل، وتُذلِّل له الصِّعَاب، ولن تكون هذه المساعدة العملية سوى المنهجية الموضوعية ، والتصور العام ،لتقنيات البحث النظرية ، وطرائقها المنهجية ، وإجرائياتها العملية ، التي نحن الآن بصدد تقديمها، والدعوة إليها، من خلال ما سيأتي من المحاور، وهذا لا ينفصل عما ندعو إليه دائما، من ملامسة النظرية للتطبيق ، في مجال البحث العلمي الناجح ، واكتساب المعرفة وتوظيفها في الحياة اليومية ، على الدوام.
ومعلوم أن مناهِجَ البحث (في العلوم الإنسانية والاجتماعية ) مناهِجُ نِسْبية كلها، فلا يوجَدُ مَنْهَجٌ قَارٌّ، ولا طَريِقةٌ مُثْلَى ، في ارتياد البحث ، وخوض غماره.
ثم إن طبيعة العُلُوم نفْسها تفْرِضُ علَى الطُّلاَّب مُوَاكَبَة مَفاهِيمِها ومُصْطَلحَاتهَا، ومعرفةَ تطوُّر تناوُلها ، كُلَّمَا عَرفَتْ المادةُ الْعِلْميةُ نفْسُها تطوُّراً أفُقياً أو عَمُودياً ، تاريخياً أو منهجياً.
بل إن المادة العلمية – في حدِّ ذاتها – تُجْبِرُ الطُّلاَّبَ على استقْصَاءِ مناهجِها الفلسفية المنطقية المختلِفَة : تَّحْلِيلية كانتْ أم ترَّكِيبية، وطرائقها المعرفية الابستيمولوجية المتباينة : بنيوية كانتْ أو وظيفية ، أو توليدية ، أو غيرها، إذا تعَلَّقَ الأمْرُ ببحْثٍ يتناوَلُ ظواهرَ لسانية ، أو أدبية، أو اجتماعية ، أو غيرها مثلاً.
كما تختلفُ هذه المناهجُ في حَدِّ ذاتِهَا، في رَصْدِ الظَّواهِر اللُّغويَةِ وغيْرهَا ، وَصْفاً وتفْسِيراً، اسْتِقْراءً واسْتِنْبَاطاً، كما تَتَبَايَنُ في أهْدافِها التَّدَاوُلِية والْمَنْهجية، وما تَنْزَعُ إليْهِ مِنْ مَنَافِع، وما تريدُ ارتيادَهُ مِنْ آفاق، كَمَا تتَلَوَّنُ في أدواتها الإجْرائية والْمَنطِقية ، أو الرياضية، أو الصُّورية، أو الْحَاسوبية...، تمثيلاً واسْتدْلالاً؛ مَضْمُوناً وشَكْلاً، وفي أبعادها المعرفية، الفردية والاجتماعية، وفي إطارها التَّاريخي أو الحضاري، وكذا في أبْعَادها الْنفسية والفلسفية ، إلى غير ذلك من الأبْعَاد والْمَرَامِي.
إنَّ اسْتِعْراضَ كُلِّ الْمَناهِج الْعِلْمِية (اللِّسانية على الخصوص) لأمْرٌ صَعْب، لأنَّها متعددة قديماً وحديثاً، بِتعَدُّد أُسُسِها الإبيسْتيمولوجية، ومُنْطَلَقَاتِهَا المعْرفية والمَجالية، لذلك لا يسَعُنا هنا إلاَّ أنْ نَقْتَرِحَ خُطوطاً عَرِيضةً لمَنْهجٍ مُتكَامِلٍ ، في البحث والتنقيب ، يستفيدُ منه ُ الباحثون ، وهو يزاوج بين عدة معطيات، منها:
-مُعْطياتٌ نابعة من خِبْرتِنا المتواضعة مع خِبْرَة زملائنا الأفاضل، في فضاء المعرفة الجامعية، وبحوثها المنجزة ، منذ ما يزيد على ثلاثة عقود ونيف.
-مُعْطياتٌ تتعلق بما وصل إليه البحثُ العلمي على المستوى العالمي، في آلياته وابتكاراته، تأثيراً وتأثُّراً.
-مُعْطياتٌ مُسْتلهَمَة من ضرورة إصلاح مسار البحث العلمي الجامعي في بلادنا ، كَمّاً وكَيْفاً، لِيلُائِمَ ضرُورةَ العصْرِ والمشاركة الحضارية، ويُؤَدِّيَ الدَّوْر التنموي الفعَّال ، في سائر المجالات ، فضْلاًعن كَوْنِهِ الْمُعبِّر عن السَّيْرُورَةِ والاِسْتِمْرارية والتَّميُّز ، والاِنْبِثَاقِ والْوُجُودِ والتَّحَدِّي ، كلَّمَا أخَذْنا بزمامِهِ، وعَمِلْنا بمُسْتلْزَماتِه ، عَمُودِيّاً وأُفُقِيّاً ، ...إلخ.
وبِغَضِّ النَّظر عن إمكان اقْتباس أحَدِ المناهج المعروفة، والدعْوة إلى البحْث داخلَه، والالتزام بأدواته النظرية والإجرائية، وهذا أمْرٌ سَهْل، فإن الطُّلاَّب بإمكانهم أن ينسجوا على منواله، ويجرِّبُواْ تحليلهم البحثي ضِمْن آلياتِهِ، لكن دون أن تبرز طاقاتهم الاكتشافية، فلا تظهر ملكاتهم البحثية، ولا قدرتهم الكفائية المراسية، فيظلون مقلدين غير مبدعين ،ولا معبرين عن إمكاناتهم التنظيرية ، أو عن شخصيتهم العلمية أو التربوية ، الكائنة أو الممكنة.
ومن هنا جاءت ضرورة مساعدتهم على السير نحو الهدف العلمي الناجح ، وفق استراتيجية تربوية منهجية ، تزاوج بين التعليم والتعلم ، وتتيح للباحثين في هذا الصدد إمكان الارتياد والاعتماد على النفس ، في ضوء مناهج تربوية تعلمية متكاملة ، تأخذ بعين الاعتبار البحث العلمي الواعِي الذاتي ، وإن كان العمل الجمعي يضمه ، حيث تتعاون سائر أفراده ، لا البحث العلمي المُقلَّد ،...
وعلى هذا فإن أهدافنا النظرية والعملية تنصب في هذا العمل العلمي التربوي على بسط طريقة منهجية ، تتلخص فيما يلي:
- سنلم بسائر عوامل البحث والتنقيب، انطلاقاً ممَّا تفرضُه ُمنهجية ُالكتابة ، والتجربة الميدانيةُ ، في حقول البحث العلمي وآلياته.
بنعيسى عسو أزاييط