المتابع للمسلسلات الدرامية على الفضائيات المغربية يجد نفسه في فلك خارج الزمان والمكان... حكايات مسلسلاتنا الدرامية انتظرناها عاماً إثر آخر... دون أن نتوقع يوماً أننا سنصبح نحن الحكاية...‏ ومع ذلك كأن لا شيء تبدل...! الإنتاج الدرامي في كل موسم رمضاني ينبئ بأن لا مشكلة مالية ولا فنية، لكنه بكل أسف يكرس الجهود على مسلسلات تحمل في مضامينها جوانب وشخصيات وأفكاراً منفصلة عن واقع وأخلاقيات وتربية وبيئة وموروث تاريخي وفكري مغربي أصيل، وأصبحت تركز على ما يمكن تركه من أثر سلبي في تكوين وبناء الشخصيات المتابعة لتلك الدراما من الكبار والصغار.. دراما عبارة عن اجترار لأفكار سبق وقدمت، بعض كتابنا لا يزال غارقاً في أفكاره الذاتية رغم تعددية الشخصيات التي يقدمها إلا أننا كثيراً ما نراه وكأنه يقدم منولوجاً يناجي ذاته، بعيداً عن مصائر أو كوارث خبرها أو خُبر عنها...! 

فالمشهد الدرامي الرمضاني للموسم الحالي أثار انتقادات واسعة، سواء تلك المبنية على رأي نقدي، أو تلك العفوية التي صدرت عن الجمهور نفسه ـ وهذه الأصدق طبعا ـ لتكتظ مواقع التواصل الاجتماعي بموجة استياء وسخرية غير مسبوقة من حال الدراما المحلية، فما ظهر هذا الموسم من أعمال درامية، أقل ما توصف به هو انسلاخها التام عن الواقع المغربي، بل وذهابها نحو خيارات فرجوية لا تعتمد على المضمون وجودته الفنية، بل إنها تنسف هذا الأمر من أساسه، ليجيء كل الاعتماد على الشكل، البهرجة اللونية، الأزياء، الإكسسوار، الأثاث الفخم، السيارات الفارهة... وخلا عمل أو اثنين لا يمكن البت نقديا بتفاصيلهما على اعتبار أن الأحداث فيهما لم تتكشف إلا بشكل جزئي... وأتساءل وغيري كثر: هل للموضوعات التي تهم الإنسان المغربي في تفاصيل حياته وفي خطوطها العريضة من حيز للحوار في هذه المسلسلات، التي تشغل كل ساعات البث للقنوات المغربية؟ 

ما أظن إلا أن الأطروحات مازالت على حالها منذ عقود في تناول الموضوعات وبالأخص تلك الاجتماعية منها، والأخرى وهي تتحدث عن العلاقات العاطفية التي تربط البشر بعضهم ببعض، وكأن تطور العصر وما طرأ عليه لم يدخل إلى حياة هؤلاء البشر الذين يتحركون على الشاشات داخل حياة هي من نسج الخيال... وكأن واقع هؤلاء ليس كواقع باقي البشر في علاقاتهم الحياتية في كل مجتمعات العالم.‏ أستغرب ألا تتطور موضوعاتنا على شاشاتنا المغربية بما يواكب تطور العصر ومستجداته... أستغرب وقوفنا على مفاهيم ثابتة لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمن بينما القيم ثابتة وبشكل أكيد... أستغرب كيف نهتم بالصورة على حساب الفكرة ليكون المظهر قبل الجوهر... 

أستغرب هذا الموسم الذي يحل ضيفاً على موسم الزهد والتعبد لينتزع العابد الزاهد من عالم التأمل والروح ويعيده إلى عالم المادة بدل أن يدعه في سلامه وحبل الطاعة موصول بين الأرض والسماء.‏ وإذ تعلن الصحافة عن اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن تلك المسلسلات، يظن المرء أنها الأمور التي تهم كل مغربي، وتبحث في أزماته التي لا تنتهي بدءاً من مشكلة غلاء الأسعار وليس انتهاءً بما يستجد من مشكلات، أو أنها الإضافة الواعية لما يستحق أن يكون تحت ضوء الإعلام.‏ ليس هذا كل شيء إنما ما يدعو إلى التعجب والاستنكار هو هذه الميزانيات الضخمة التي ترصد كل موسم للأعمال التلفزيونية الرمضانية. فسوق الإعلام على الشاشات المغربية... الخطو فيه محسوب في الربح قبل الخسارة... سوق يفتح أبوابه كل عام ليستقطب الأنظار من كل اتجاه فيسرق الأوقات ولو على حساب الطاعات... فالإغراء وأقصد إغراء المشاهدة والمتابعة كبير وهو يستولي على الكبير قبل الصغير... والتسلية باذخة في تنوعها وسحرها... فإذا بنا نتسمر جميعاً مع أطفالنا أمام تلك الشاشات لنخرج بعد كل ذلك بحصيلة ليست بأكثر مما نخرج به لو قمنا ببعض الزيارات للأهل أو الأصدقاء.‏

في مواجهة ''خردة'' مسلسلاتنا المغربية التي تعرض طيلة الشهر الفضيل، لدينا روح تواصلية نعيشها عبر الانترنت تغير مزاج المشاهدة، تطلعنا على فكر متجدد كالنهر السريع الجريان... لم يعد يقبل بتلك السذاجة التي تبثها الشاشة المغربية الصغيرة...‏ وأقول صادقاً: إنه بين أن نبني دراما مغربية ونعلي شأنها وبين أن نستأجر فكر الآخر لنكبل قيمنا، ونعتم على مشكلاتنا ونرفه بالتالي عن المواطن المغربي فروق كثيرة، أولها وأهمها أننا في المغرب لسنا صناع دراما خاصة بنا عليها بصمتنا... وربما آن الأوان للمشرفين على الدراما المغربية لإعادة النظر بالتوليفة الدرامية ككل، لا يزالون حتى الآن يقبضون على بعض أنماط المشاهدة بحكم الاعتياد ليس إلا... ولكن ونحن نعيش على وقع مزاج متغير... لاشك أن نجمهم سينحسر تدريجياً..‏. سواء عزفت الدراما لحن التغيير، أم انصرفت عنه... قفزاته مستمرة، معركة هادئة بين وسائل اتصالات التي لا تكاد تفارق أيدينا...، وبين الفنون والآداب ككل وليس الدراما وحدها، الزمن وحده سيرينا أين سيكون اتجاه بوصلة الناس الحقيقي! 

ومن باب تأكيد المؤكد، أنّ المشاهد والمتلقي ولسان حال شريحة كبيرة من المغاربة يهمها أن ترتقي الدراما المغربية إلى مستوى يليق بها، فالمشاهد المغربي الذي تطور مع تطور الدراما بات قادرا على تمييز المادة الجيدة من السيئة، وناقدا لها، وقادرا على تقييمها وكأنه صحفي أو ناقد بارع، وهو يواجه رسالة لكتاب الدراما وصناعها بالمغرب مفادها، أنّ الفن حالة رقي وسمو، فلتكونوا بمستوى هذا الرقي ولترأفوا بحال الناس ومعاناتهم، وتقدموا عبر هذا الفن النبيل حوارات حول مستقبل المغرب وغده، حوارات راقية تمثل الشرائح كلها، ولتتوقفوا عن إنتاج القبح بحجج غير مقبولة ولا منطقية، فالمشاهد المغربي يستحق إبداعات درامية ترقى لمستوى ثقافته وتاريخه.