الدخول إلى عالم ميلان كونديرا، والتجول في مساراته الفكرية التي يبثها في خطاباته الروائية، يكشف للقارئ أن لهذا الروائي رسائل متعددة، يحاول في كل خطاب منها أن يفتح أمام عيني المتلقي رسالة يؤثِرُها، منها رسائل تستدعيك إلى التحاور معها والخروج بحصيلة تغني الفكر الإنساني الكوني، وهي التي يجتهد الكاتب في جعلها أدبية تخفي وراءها منهجا فلسفيا.

إن فلسفة كونديرا في أعماله تمهد لدعوة إنسانية خالصة، تتضمن منح الحرية الذاتية، ومناهضة كل ما هو معيق لحرية الإنسان، مُدينا من خلالها ممارسات تُعدّ من قبيل التصرف الوحشي وإفرازات لأمراض سايكولوجية توالدت لدى الإنسان مُذ أبصر إنسانا آخر يشاركه العيش، وما لبثت هذه الأمراض أن تنامت وكبرت في الذات حتى غدت سلوكا، ثم انتقلت في مراحل لاحقة لتشمل أنظمة الحكم وسرايا الحاكمين.

معاناة بلا نهاية

في رواية “الجهل” شغلت ميلان كونديرا موضوعات الهجرة وحياة المهاجرين وما بينهما من نوستالجيا ومشاعر وحالات حياة، فالمهاجرون أناس وجدوا أنفسهم مجبرين على ترك دفء أعشاشهم، وحميمية حياتهم الاجتماعية جراء فكر يحملونه وآراء يجاهرون بها في أنظمة قهرية تسلطية، تناهض أفكارهم المعارضة من جهة وتعتبر الهجرة خيانة، بل من أبغض الخيانات، من جهة أخرى. ولكن يوم يهاجر المواطن مجبرا، يبقى الحنين صفة ملازمة له وإن نأى بعيدا بعيدا، وحتى إن دنا وكان على بعد فراسخ لا أكثر.

المهاجرون بجيناتهم البشرية يعيشون مشدودين إلى الوطن، ولديهم أحلام واحدة، يشتركون فيها تفصيليا. ويمكن ملاحظة تشديد كونديرا على عبارة، جميعهم دون استثناء، حتى بمن يتظاهر خارجيا أنه منسلخ عن وطنه، وأنه يرى الوطن طابعا ألصق على ظرف رسالة وانتهى بعد ختمه، أي بعد الرحيل عنه.

يتوخى كونديرا استخدام الأسطورة -ملحمة الأوديسة لهوميروس- بشخوص يعتريهم الحنين لأوطانهم كما هو عوليس -الذي صرف عشرين عاما بعيدا عن مسقط رأسه “إيثاكا” ثمّ حنّ للعودة- كمعادل موضوعي لحنين إرِنا -بطلة الرواية- ومعها حنين جوزيف لبراغ، ومن ورائها حنين كونديرا نفسه كمغترب لتشيكيا. وهو تأكيد متجذر لتشبث الإنسان، مهما تفاوتت أزمنة وجوده، وتباعدت في المكان الذي تشكلت آجرّات نموه العاطفي، وتراصفت حتى غدت هيكلا ذاكراتيا لا يمكن أن يُمحى. فالمكان والذاكرة صنوان لا يمكن فصلهما، قد تضعف الذاكرة أو تنشغل، لكن حضور المكان سرعان ما يعيدها إلى التوهج والتأجج، فيعود العناق حميميا بينهما. يعمّق كونديرا هذا المفهوم بمقطع مؤثر يحدث لعوليس مع مكان نشأته، وهو نفس الشعور الذي راود إرنا بعودتها إلى براغ من باريس، وما حصل لجوزيف بعودته إلى براغ من الدنمارك.

يهيمن الزمن النفسي في هذه الرواية هيمنة يكاد لا ينفك عنها متلقيها، فالشخوص يعيشون الوقت بتأثيره السيكولوجي عبر معاناة لا يجدون لها نهاية، إنهم في وسط أرجوحة طرفاها مبعث قلق؛ طرف ارتباطهم الصميمي بالوطن، والطرف الآخر حياتهم اليومية المعيشة في بلد الاغتراب رغم مبررات هدوئها وتواجد بواعث استقرارها. وترى الزمن النفسي متغلغلا في الذات، فإرِنا مثلا تخشى على جمالها من التبدّد، وهي تعيش الغربة وانصراف الأيام.

يشدّد كونديرا في تقديمه لحالات شعورية متضاربة تعتري إرِنا بين وقت وآخر ضمن حدود يومها، فعين الكاميرا الداخلية أو ما يطلق عليها في أكثر من مكان في خطابه هذا “سينمائي اللاوعي” تعرض عليها نوعين من المواقف؛ نوع يقترن بالضوء والنور والأشياء الواضحة على حقيقتها، ويجعله النهار باعث الأمل لديها من خلال استعادة بعض من صور مسقط الرأس، فتتجسد في الحال سعادة واسترخاء نفسي، بينما يأتي النوع الثاني قرينا للظلمة والعتمة، ومبعثا للهواجس فيشير إليه بالليل، والليل لدى المرهفين وذوي الإحساس الفائق منبت خوف وقلق، وفي ذات الوقت عند كونديرا تباري ظهور مجسات العودة القسرية إلى الوطن.

خيبة العولمة

يعالج كونديرا الزمن النفسي بحقبة عشرين عاما من الغربة، صرفتها إرِنا باللوعة والخوف وضيق العيش والمعاناة، لكن هذه الفترة لم يولها أحد اهتماما حين عادت إلى تشيكيا، ولم تقيَّم على أنها فترة نضال قضتها وهي تصرف أعوام العمر قابضة على جمر الفراق والحنين. والمرأة التي دخلت معها حديث المودة وهما يحتسيان الجِعَة بنشوة توضّح لها بصراحة من يزيح الستار عن وهم، أنْ لا أحد يولي اهتماما لما أنفقته من أعوام الضيم والألم. فالاهتمام اليوم يتوجه إلى من نجح أكثر ممن شقي وعانى، فالناس يتباهون اليوم بالنجاح وليس بالمعاناة، شعور ثقيل على قلب إرِنا وهي تستمع إلى كلام المرأة الصريح، تشعر أنّ ما سفحته من سنين العمر بعيدا عن الوطن ليس مبعث تساؤل وبحث للاطلاع على تجربة حياة ومعرفة معاناة، وهي بهذا الاكتشاف تدخل دائرة الألم، دائرة الإجحاف وسلب حق الحديث.

إنّ الوقائع الإنسانية الرصينة تتطلب طرح الأسئلة للوصول إلى مسار كانت فيه الأعوام تجري، وما الإهمال في الطرح إلا تجنّ. لذلك يغدو الإهمال نوعا من القتل أو بمثابة بتر لعضو من أعضاء الجسد. إنّ كونديرا ومن خلال إرِنا وشعورها بمجافاة الآخرين لمعاناتها وإهمالهم لما مرّت به وعانت منه، إنما يعبّر عن مجافاة الوسط الحياتي والثقافي في تشيكيا، له ولغيره من المغتربين الذين ناضلوا من أجل الوطن على وجه الخصوص، لذلك حين يعود هذه الأيام لزيارة تشيكيا ينأى بنفسه عن طبقته المثقفة، وينزوي بعيدا عن أعين الصحافة.

يبدو أن العولمة التي ظهر بعض تأثيرها على أنقاض الأنظمة الاشتراكية خلقت واقعا جديدا يمس علاقة المواطن بوطنه؛ يطرح كونديرا هذا بجرأة كبيرة عبر شخصية “ن” التي يحاورها جوزيف بعد عودته إلى الوطن، فهذه الشخصية التي عاصرت النظام الاشتراكي الشيوعي في براغ، وشهدت سقوطه، تجلّت أمامها بما يشبه الحقيقة الواقعة والتي لا مناص من الاعتراف بها، تلك التي ترى أن تغيّر العالم وتسارع وتيرة عجلة الحياة المهولة في الربع الأخير من القرن العشرين، قادت إلى تفكيك علاقة المواطن بوطنه، وتبدّد حماسة الإنسان في انشداده إلى أرض الأجداد، فقد أظهر العالم الجديد (العولمة) جيلا جديدا تتراجع عنده المواطنة إلى الوراء.

*نقلا عن العرب اللندنية