مع سجينين هو ثالثهما ، يقيم نبيل القروي بالسجن المدني بالمرناقية ، غربي العاصمة تونس ، ومن هناك كان يتابع حملته الإنتخابية ، ويستقبل يوميا وجبات الطعام التي تصله من خارج الأسوار ، كما يجتمع بزائريه من أقاربه وفريق الدفاع عنه ، ليبتسم في وجوههم ، ويعيد في كل مرة على مسامعهم تأكيده على أنه سيكون رئيس تونس القادم ، وأنه أصبح بالفعل الرئيس منذ أن رفض الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في يوليو الماضي التوقيع على القانون الإنتخابي المعدّل ، والذي يرى المراقبون أنه تم إعداده من قبل الحكومة ، ثم التصديق عليه برلمانيا على مقاس الأطراف التي كانت حركتا « تحيا تونس » و« النهضة » تعملان على إقصائها من المشهد الإنتخابي بعد أن بوأتها إستطلاعات الرأي صدارة نوايا التصويت
في 23 أغسطس الماضي تم الزج بالقروي في السجن ، بعد أت تولت قوات أمنية إعتقاله أثناء جولة له في شمال البلاد للإجتماع بأنصاره ، تنفيذا لقرار قضائي صدر قبل وقت قليل بتوقيفه على ذمة قضية لا تزال محلّ تحقيق رغم أن إثارتها تعود الى العام 2016 من قبل إحدى منظمات المجتمع المدني التي إتهمته بتبييض الأموال والتهرب والضريبي ، ثم عادت الى الواجهة في ظل مواجهة معلنة بين القروي من خلال قناته التلفزيونية « نسمة » ورئيس الحكومة يوسف الشاهد المتهم بإستغلال مقدرات السلطة لتصفية معارضيه تحت يافطة محاربة الفساد ، وفي ظل نتائج إستطلاعات الرأي التي كانت خلال أبريل و مايو ويونيو تقدم القروي على أنه أبرز المنافسين صحبة قيس سعيد على رئاسة البلاد
وفي الرابع من يوليو قرر القطب القضائي بتونس تحجير السفير عن نبيل القروي وشقيقه وتجميد أموالهما ، كما تم عرض تعديلات في القانون الإنتخابي على البرلمان التي وافق عليها ، رغم الإنتقادات الحقوقية التي طالتها بسبب نزعتها الإقصائية ، ثم وافقت عليه هيئة مراقبة دستورية القوانين التي تعوض المحكمة الدستورية ، لكن الرئيس السبسي رفض التوقيع عليها ، ما حال دون نشرها في الجريدة الرسمية وبالتالي دون إعتمادها من قبل الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات ،
بعد وفاة الرئيس السبسي في 25 يوليو ، أعلنت هيئة الإنتخابات عن إنتخابات رئاسية سابقة لأوانها ، وتم فتح باب الترشحات في الثاني من أغسطس فكان القروي أحد من تقدموا بملفاتهم وهو يكرر على المقربين منه أنه سيكون الرئيس القادم ، كما قدم طلبا الى القضاء لإعادة النظر في تجميد أمواله ومنعه من السفر ، لكن المحكمة لم تنظر في تلك الطلبات وإنما أصدرت القرار الذي فاجأه وهو توقيفه صحبة شقيقه ، وفي أقل من ساعة كان قد تم توقيفه ونقله الى سجن المرناقية بينما إستطاع شقيقه غازي الفرار الى الجزائر
إعتمدت هيئة الإنتخابات ترشح نبيل القروي في القائمة الأولية ثم في القائمة النهائية للمترشحين حيث لا يوجد ما يمنعه من خوض غمار السباق نحو كرسي الرئاسي ، وهو الذي لم يصدر بحقه حكم قضائي نهائي يسحب منه حقوقه المدنية والسياسية ، لكن القضاء منعه من المشاركة في حملته الإنتخابية ومن مخاطبة أنصاره عبر وسائل الإعلام كبقية المترشحين ، لكن القروي رغم كل ذلك كان يصرّ من وراء القضبان على أنه سيفوز وسينتقل الى الدور الثاني ، وكان يطرب لسماع عشرات السجناء وهو ينادونه في فترة التريّض اليومي في ساحة السجن بكلمة سيدي الرئيس
ربح القروي الرهان ، مقابل هزيمة مدوية ليوسف الشاهد ، وأطلقت النخب الثقافية والسياسية أصواتها عالية لتندد بإنتخاب المترشح السجين ، متهمة ناخبيه بأنهم باعوا أنفسهم بثمن بخس وهو المعونات الإنسانية التي كان يقدمها لهم من خلال جمعيته الخيرية « خليل تونس » التي لفت البلاد جنوبا وشمالا وشرقا وغربا للإلتحام بالفقراء والمعوزين عبر قوافل صحية ومساعدات مادية وأخرى عينية ، ثم إستعراض كل ذلك من خلال برنامج تلفزيوني كان يشارك بنفسه في تقديمه على قناته التلفزيونية « نسمة » حتى أصبح موسوما لدى العامّة بصفة الرجل الحنون الذي يحنو على أبناء شعبه ويطبطب على ظهورهم في ظل تجاهل السلطة لهم
في أغسطس 2016 فجع القروي في إبنه الوحيد خليل الذي توفي في حادث سير وفي ربيعه العشرين ، وشعر بحالة من الحزن العميق كان من الصعب الخروج منها بحسب المقربين منه ، الى أن إهتدى الى فكرة بعث جمعية خيرية كصدقة جارية لروح الفقيد تحمل إسم خليل تونس ، لتكون إمتدادا لجمعية « ناس الخير » التي أسسها في 2013 ، ولم يكن لها نشاط يذكر مقارنة بالجمعية الجديدة ، وفي مارس 2018 رزق القروي بتوأمين ذكرين أطلق عليهما إسمي آدم خليل وزكريا خليل ، فزاد ذلك من قناعته بأن دعوات الفقراء تسنده ، لكن لا أحد من الفاعلين السياسيين إنتبه الى الإختراق المجتمعي الذي حققه إلا بعد أن بدأت نتائج إستطلاعات الرأي تظهر بقوة بداية من شهر فبراير 2019 وتضعه في صدارة نوايا التصويت للرئاسيات ،
في أبريل 2019 أرسلت الحكومة قوة أمنية لغلق قناة « نسمة » بتهمة العمل خارج الإطار القانوني ، وتم وضع الشمع الأحمر على أستوديو البث ، لكن البث الفضائي إستمر ليحول تلك الحادثة الى قضية رأي عام ، ولإستغلالها في عرض مواد وثائقية حول شخصية القروي وجولاته في الأرياف والقرى والأحياء الفقيرة لمتابعة نشاطات جمعية « خليل تونس » وإظهاره على أنه ضحية التسلط الحكومي ، ما جعله يحظى بتعاطف شعبي ، ويحافظ على موقعه المتقدم في إستطلاعات الرأي
كان القروي من المقربين من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عندما كان رئيسا مؤقتا للحكومة في 2011 وفتح له أبواب قناته التلفزيونية ، لكن في 9 أكتوبر 2011، وبسبب عرض فيلم برسيبوليس الإيراني على شاشة « نسمة » عشية انتخابات الجمعية التأسيسية، حاول حوالي 200 من السلفيين حرق مقر القناة قبل مهاجمة منزله بعد بضعة أيام، وساهمت تلك الحادثة في تجييش القوى المحافظة لفائدة حركة النهضة التي فازت في تلك الإنتخابات ، ثم حوكم القروي بتهمة تقويض قيم المقدسات أثناء ما سميت بمحاكمة برسبوليس ، وهي محاكمة كانت لها تداعيات في الخارج. وكان يواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، لكن بعد هدوء العاصفة صدر في حقه في 3 مايو 2012 حكم بدفع غرامة قدرها 2400 دينار تونسي، وكان في مقدمة المدافعين عنه المحامي والزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد الذي أغتيل في السادس من فبراير 2013 ، وكان أغتياله منطلقا لأزمة سياسية إتسع مداها بإغتيال النائب في المجلس التأسيسي ومؤسس حركة التيار الشعبي محمد البراهمي في 25 يوليو من نفس العام ، ما أدى لاحقا الى إعتصام الرحيل الذي كانت قناة « نسمة » تنقله مباشرة لمشاهديها ، وكان القروي يفتح إستوديوهاتها لاستقبال رموز المعارضة آنذاك ومن بينهم الباجي قائد السبسي مؤسس حركة نداء تونس
لكن في خضم حالة الغضب الشعبي من حكم الترويكا في صيف 2013 والدعوات الى إسقاط الحكومة ، كان هناك شيء ما يدور في الخفاء ، كان نبيل القروي من المساهمين فيه ، وهو الإجتماع السري الذي جمع يوم 16 أغسطس في باريس بين الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بغطاء جزائري فرنسي أمريكي للإتفاق على تنازلات متبادلة يتم على ضوئها إقتسام الحكم بينهما ، ومن بين بنود الإتفاق إنفصال السبسي عن قوى المعارضة اليسارية والنقابية وإمتناع حركة النهضة عن تحديد سن المترشحين لرئاسة الجمهورية ب75 عاما ، والإطاحة بمشروع قانون العزل السياسي
قبل إنتخابات 2014 ساهم القروي بدور كبير في الحملة الرئاسية للباجي آنذاك حيث أشرف على جانبها الإعلامي والدعائي لصفته عنصرا فاعلا في حركة نداء تونس ، وبعد الإعلان عن فوز السبسي بالرئاسة بسطت له قناة « نسمة » السجاد الأحمر لتستقبله بنشوة الإنتصار ، لكن ذلك لم يمنعه من فتح جسور تواصل مع حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي الذي بات من المقربين منه ، والذي إستقبلته قناة « نسمة » في أكثر من مناسبة
شهد نداء تونس تصدعات وتشققات منذ العام 2015 بسبب الخلافات حول التوافق مع حركة النهضة وصراع المصالح في مستوى قياداته وتباين التوجهات بين مكوناته ، وإكتشف القروي أن طموحاته باتت أكبر من موقعه في حزب السبسي ، وفي أغسطس 2016 أعلن تجميد عضويته من الحزب بسبب الظروف التي ألمت به بعد وفاة أبنه خليل ، وفي أفريل 2017 أعلن استقالته نهائيا من حركة نداء تونس حيث أكد أن سياسات الحزب وتوجهاته المستقبلية لم تعد تتماشى مع قناعاته.
كان القروي قد فكرّ في أوائل 2013 في بعث حزب خاص به يحمل إسم « تحيا تونس » وهو ذات الاسم الذي تحمله اليوم الحركة التي يتزعمها يوسف الشاهد ، وكان له طموح سياسي واضح ، يبدو أن جمعية « خليل تونس » هي التي فتحت أمامه المجال لكي يحوله الى واقع ملموس ، في مارس 2011 إستقبل القروي في قناته وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون وتحولت صورته معها الى صدارة صفحاته على مواقع التواصل الإجتماعي ، الى أن أطاح بها ترامب في الإنتخابات الرئاسية للولايات المتحدة ، وفي 2014 إرتبط بعلاقة قوية مع منظومة فجر ليبيا وأجرت « نسمة » مقابلات مع عدد من قياداتها مثل عبد الحكيم بالحاج ما جعله عرضة لإنتقادات من قبل أحزاب سياسية وهياكل إعلامية مناوئة لتيارات الإسلام السياسي
في ربيع 2019 ظهر القروي كمنافس قوي على كرسي الرئاسة في ظل خلافات سابقة بينه وبين رئيس الحكومة ، وعادت الى الأضواء دعوى قضائية رفعتها ضد إحدى جمعيات المجتمع المدني بتهمتي تبييض الأموال والتهرب الضريبي ، ليدخل في دوامة التحقيق التي لم تزده إلا إصرارا على الفوز ، و من أجل إيجاد الغطاء الحزبي لطموحاته ، أصبح في 25 يونيو 2019 رئيسا لحزب « قلب تونس » المعروف سابقًا باسم الحزب التونسي للسلام الاجتماعي.
و في يوليو، أعلن القروي أن حزبه يخوض الانتخابات البرلمانية في 33 دائرة انتخابية، مع ثماني نساء و 25 رجلاً في القائمة، وهو اليوم ، ورغم وجوده في السجن ، فإن لا يكتفي بالعمل على بلوغ كرسي الرئاسة في قرطاج وإنما يطمح الى تصدر المشهد البرلماني من خلال إنتخابات السادس من أكتوبر القادم