حتى أواخر عام 2016، لم يكن لروسيا الاتحادية في ليبيا دور كبير خاصة في ما يتعلق بالشأن السياسي والعسكري، لكن منذ أوائل عام 2017 بدء الدور الروسي في العودة تدريجياً في عدة اتجاهات، وشهد تصاعداً ملحوظا وبات مرشحاً للعب دور رئيسي في المرحلة القادمة التي ستكون الأخطر والأصعب.
دور روسي متنامٍ
شهد النصف الثاني من عام 2017، تصريحات روسية متتالية حول الشأن الليبي، منها ما كان على لسان رئيس فريق الاتصال الروسي حول ليبيا، نفى فيها أي مخططات لشن ضربات جوية في ليبيا، وهذا كان تعليقا على تكهنات جدية بخصوص الاتفاقية التي تم توقيعها بين مصر وروسيا للاستخدام المشترك للقواعد الجوية والمجال الجوي لكلا البلدين.
صيف العام 2018، نشرت صحيفة "إكسبرت أونلاين"، مقالا تحت عنوان "روسيا ذاهبة إلى ليبيا"، يناقش ما نشرته صحيفة أمريكية عن نوايا روسيا تعزيز وجودها العسكري في ليبيا، وقد خلصت الصحيفة، استنادا إلى معلومات من وكالة الاستخبارات الأمريكية، إلى أن روسيا بصدد توسيع وجودها العسكري في الخارج، من سوريا إلى ليبيا.
ويرى مراقبون أن روسيا ألقت بشكل ملفت بكامل ثقلها في الفترة الأخيرة في الملف الليبي الذي فضلت التواري عنه لفترة، مستعينة في ذلك بمد اليد للأطراف المتنافسة في ليبيا، حيث تتعدد زيارات المسؤولين الليبيين إلى موسكو في وقت تشهد فيه البلاد انسدادا سياسيا وصراعات متنامية.
تكشف الزيارات الرسمية للمسؤولين الليبيين لروسيا أنه ثمة اهتماماً روسياً بالغاً بالوضع في ليبيا، ما يشير إلى أن توجهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تشهد تحولاً جديداً نحو ليبيا، وأنها هذه المرة تهدف إلى تعزيز صداقته مع قائد عسكري قوي في ليبيا هو المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على مساحة واسعة من الأراضي تفوق ما تسيطر عليه الفصائل الأخرى في ليبيا.
ولوحظ خلال الشهور القليلة الماضية وجود تناغم في العلاقات الليبية (جبهة حفتر والبرلمان الذي يعقد جلساته في شرق البلاد) مع الجانب الروسي. وزار حفتر نفسه روسيا لثاني مرة في أقل من عام، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أي بعد أسابيع قليلة من إجراء الروس مناورات مع الجيش المصري في مناطق صحراوية مشابهة للصحراء الليبية، وفقا لمصادر عسكرية تعمل قرب الحدود المصرية الليبية.
وأضافت هذه المصادر أن المناورات كان الغرض منها تبادل الخبرات بين الجانبين المصري والروسي، ولم يتطرق الطرفان إلى أي حديث عن إنشاء قواعد عسكرية روسية قرب الحدود مع ليبيا، ولا يوجد أي نشاط روسي لا في قاعدة سيدي براني ولا في قاعدة مرسى مطروح، بينما الوضع في قاعدة جمال عبد الناصر الجوية، في الشرق الليبي، لا يوجد فيه ما يؤشر إلى أنشطة تذكر لأسباب تتعلق بعدم جاهزية القاعدة الليبية لاستقبال أجانب.
وتتميز علاقات حفتر مع روسيا بأفضلية كبيرة مقارنة بعلاقاته مع الغرب، رغم أن حفتر استعان لبعض الوقت خلال العام الماضي بعناصر جمع معلومات من العسكريين الفرنسيين، في خضم حربه على الجماعات المتطرفة والميليشيات المسلحة. وبخلاف العلاقات القديمة التي كانت بين روسيا ونظام معمر القذافي، فإن موسكو تعاملت مع المرحلة الجديدة في ليبيا بكثير من الحذر، في وقت سارعت فيه عدة دول غربية بالتقارب مع الميليشيات غير المنضبطة المتمركزة في طرابلس وعدة مدن في غرب البلاد.
وقد أثارت تصريحات العقيد بالجيش الليبي أحمد المسماري، بأن القوات على درجة من الجاهزية لـمعركة تحرير طرابلس موجة كبيرة من الغضب لدى القوى المتنافسة، وكشفت عن احتمال وجود تنسيق روسي مع حفتر، في الوقت الذي أعلن فيه المجلس العسكري لمدينة الزنتان، أنّه لا يؤيد أي عمل مسلح يجر المنطقة الغربية إلى سفك الدماء والفوضى تحت أي مسمى من المسميات، والمعروف أنّ كتائب الزنتان على حالة خلاف متنامٍ مع المشير حفتر. وفي الوقت ذاته، بينما حذّر المجلس العسكري لمدينة مصراته، من “أي حراك عسكري داخل مدينة طرابلس”.
مصالح خارجية متداخلة
خلال العامين المنصرمين أرسلت بعض الدول الغربية ومن بينها الولايات المتحدة قوات خاصة ومستشارين عسكريين إلى ليبيا. ونفذ أيضا الجيش الأمريكي ضربات جوية دعما لحملة ليبية ناجحة العام الماضي لطرد تنظيم داعش من معقله في مدينة سرت. وتتزامن التساؤلات بشأن دور روسيا في ليبيا مع مخاوف في واشنطن من نوايا موسكو في الدولة الغنية بالنفط والتي تحولت إلى مناطق متناحرة في أعقاب انتفاضة 2011 المدعومة من حلف شمال الأطلسي على معمر القذافي الذي كانت تربطه علاقات بالاتحاد السوفييتي السابق.
و تتفاوت مصالح الدول الأجنبية في ليبيا. فبريطانيا تسعى، على ما يبدو، لوجود ضمانات تعيد من خلالها عمل شركاتها النفطية في هذا البلد. وتضع فرنسا عينها على مناطق نفوذها القديمة في جنوب الصحراء الليبية (إقليم فزان)، لكن مع المحاولات الإيطالية لتقريب روسيا من الصراع الدائر في ليبيا، تلوح في الأفق مخاوف أوروبية من زيادة نفوذ موسكو في هذا البلد الذي مزقته الحرب على مدار السنوات الست الماضية.
ففي الوقت الذي تستنجد فيه روما بموسكو لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عبر البوابة الليبية، رغم تحذيرات من حلفائها الأوروبيين بشأن تطلعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وتعكس تصريحات حديثة لنائب وزير الخارجية الإيطالي ماريو جيرو، أن إيطاليا تدير ظهرها لقارتها وتحاول التقارب مع الدب الروسي في مواجهة المحاولات الغربية لإيجاد موطئ قدم لها في ليبيا الغنية بالنفط.
وقال جيرو: "إيطاليا دائما لديها علاقات قوية بروسيا، والآن نحن نريد ليبيا آمنة ومتوحدة، وسنكون سعداء إن أرادت روسيا ذلك أيضا"، ومن المقرر أن يلتقي رئيس الحكومة الإيطالي باولو جنتيلوني نظيرته البريطانية تريزا ماي في لندن، الخميس، لمناقشة "دور أكبر" لروسيا في ليبيا، حسب تقرير نشرته صحيفة "تايمز" البريطانية.
وبالنظر إلى الطموح البريطاني في ليبيا، تبرز أهمية لقاء جنتيلوني وماي، علما أن لندن هي الداعم الأبرز لجهود إيطاليا في إغلاق باب الهجرة من ليبيا إلى أوروبا، بعد وصول أكثر من 180 ألف مهاجر إلى القارة في 2016 من الأراضي الليبية فقط.
لكن ما يقلق عددا من الدول الأوروبية، أن يؤدي التدخل الروسي في ليبيا إلى مزيد من الدعم للجيش الوطني المتمركز شرقي البلاد، على حساب حكومة طرابلس التي تحظى بدعم من الغرب.
والأسبوع الماضي حذر رئيس وزراء مالطا جوزيف ماسكات من أن "الموقف يزداد تعقدا" بدخول روسيا إلى حلبة الصراع الليبي، فيما أبدى وزير الخارجية المالطي جورج فيلا قلقه من "الطمع الروسي"، وقال: "نحن جميعا نعلم الأحلام الروسية بامتلاك قاعدة في البحر المتوسط". إلا أن وزارة الدفاع الروسية نفت ما قالته تقارير صحفية إيطالية بأن قائد الجيش الليبي خليفة حفتر اتفق مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو على تأسيس قاعدتين عسكريتين لروسيا شرقي ليبيا.
لكن روسيا لن تلعب وحدها على الساحة الليبية، إذ يبدو أن الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب ستميل ناحية الجيش الوطني الليبي في مواجهة حكومة السراج، بسبب ضمها لميليشيات متشددة، مما يضيف المزيد من القلق الأوروبي.
ونقلت "تايمز" عن أكرم بوهلايجة، وهو واحد من كبار العسكريين في الجيش الوطني الليبي، قوله إن روسيا ستعمل على وضع حد لحظر استيراد ليبيا للأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة، إلا أن موسكو تحرص دائما على إظهار حيادها تجاه الأزمة الليبية، والأسبوع الماضي قالت الخارجية الروسية إن الكرملين يقود "عملا دأوبا مع طرفي القوة في ليبيا".
وعلق رئيس لجنة الدفاع في مجلس الاتحاد، فيكتور بونداريف، على الشائعات حول اهتمام روسيا ببناء قواعد عسكرية في ليبيا ومصر. فقال، في مقابلة مع وكالة "ريا نوفوستي"، إن موسكو ليس لديها نية لبناء قواعد في هذه الدول، مضيفًا أن موقف روسيا من قضية القواعد العسكرية في الخارج "عقلاني ومتوازن". كيف ينبغي فهم هذه الكلمات، لم يفسر السيناتور، ولذلك يمكن استنتاج أن مصالح روسيا ونواياها يمكن أن تتغير في أي وقت، في حال وقوع بعض الأحداث المهمة في ليبيا.
تنافس روسي-غربي حاد
يرى بعض المراقبين أن التحركات المكثفة من قبل روسيا التي أرسلت سفن حربية إلى المياه الإقليمية الليبية، أثارت قلق ومخاوف بعض الدول الغربية التي تعارض بشكل كبير مثل هكذا خطط قد تؤثر على مصالحها، حيث أكدت بعض المصادر وجود قلق أوروبي كبير من أن تتدخل موسكو في ليبيا على غرار تدخلها في سوريا، وبرغم عدم قدرة الأوروبيين على الضغط على موسكو، إلا إن قلقهم الشديد على مصالحهم في ليبيا سيكون عاملا مهما لحث الحليف الأمريكي لموازنة أي تدخل روسي محتمل.
من جانب آخر وفي تطور لافت لذلك الصراع الذي تحول إلى تصعيد كلامي غير مسبوق، شن وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، هجوما عنيفا على نظيره البريطاني، مايكل فالون، ردا على تصريحات سابقة له حذر فيها من مخاطر تدخل موسكو في الشأن الليبي. وقال شويغو "ليس في الغرب من يمكنه أن يقول للدب ماذا يتوجب عليه أن يفعل"، وذلك في إشارة إلى بلاده.
ويأتي هذا المنحى التصعيدي في الخطاب الروسي، ردا على ما ورد في كلمة وزير الدفاع البريطاني والتي حذر فيها روسيا من التدخل في ليبيا. وقال في كلمته، إن موسكو تختبر التحالف العسكري مع دخول رجل ليبيا القوي القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر في المنافسة مع حكومة طرابلس التي تدعمها الأمم المتحدة…، إنه يضغط أينما ظهرت له ملامح ضعف، ونحن لا نريد من الدب أن يحشر أنفه، كما لا نريد عبثا لأيدي الدب في المنطقة.
وقال مسؤول بالمخابرات الأمريكية إن هدف روسيا في ليبيا محاولة فيما يبدو "لاستعادة موطئ قدم حيث كان الاتحاد السوفييتي ذات يوم حليفا للقذافي". وأضاف المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه "في الوقت نفسه، كما في سوريا، يبدو أنهم يحاولون الحد من التدخل العسكري واستخدام ما يكفي لفرض بعض القرار لكن ليس بدرجة تجعلهم أصحاب المشكلة." ودفعت مغازلة روسيا لحفتر آخرين إلى رسم أوجه تشابه مع سوريا التي ارتبطت أيضا طويلا بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره. ويميل حفتر إلى وصف منافسيه المسلحين بالإسلاميين المتطرفين ويراه بعض الليبيين الرجل القوي الذي تحتاج إليه البلاد بعد سنوات من انعدام الاستقرار.
ويرى مراقبون أن هذا التصعيد الكلامي الذي يأتي على وقع التغيير اللافت في أولويات الإدارة الأميركية، وفي خرائط التحالفات القائمة، إنما يعكس قلق الغرب من تنامي التنسيق بين حفتر، والقيادة الروسية التي لا تُخفي سعيها إلى تموضع جديد في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، والذي لا يزال مُرتبكا في بعض جوانبه. ويبدو أن تزايد المؤشرات على اقتراب حسم الملف الليبي على ضوء تبدل الخرائط الفعلية للتحالفات أو التفاهمات، وربما معادلات الاشتباك السياسي وغير السياسي في هذه اللحظة التي توصف بالفاصلة على مسرح الأحداث في المنطقة، هو الذي دفع روسيا إلى هذا الخطاب المُتشنج الذي أرادت من خلاله توجيه رسائل تحمل دلالة سياسية تتجاوز بكثير حدود ما تنطوي عليه خرائط التحالفات الناشئة، ومساحة نقاط الاشتباك المستجدة.
وتتراوح تلك النقاط بين التنافس الحاد حول مبيعات السلاح إلى ليبيا، حيث تشير بعض التقارير إلى سعي روسي لرفع حظر التسليح عن الجيش الليبي، والصراع على النفط، على ضوء التقارب السريع بين حفتر وروسيا، على حساب الغرب، لا سيما أن تصريحات وزير الدفاع الروسي تزامنت مع توقيع المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، وشركة “روسنفت” الروسية المملوكة للدولة اتفاقية إطار للتعاون، لفتح المجال للاستثمار للشركة الروسية في قطاع النفط الليبي. ويُرجح المراقبون أن يأخذ هذا الصراع منحى تصاعديا.
لكن وزارة الخارجية الروسية قالت في بيان أرسلته إلى رويترز إنها ليس لديها علم بأن متعاقدين مسلحين تابعين لمجموعة (آر.إس.بي) الأمنية الروسية عملوا حتى الشهر الماضي في ليبيا. وقال قائد القوات الأمريكية في أفريقيا الجنرال توماس والدهاوسر لمجلس الشيوخ إن روسيا تحاول بسط نفوذها في ليبيا لتعزز سطوتها في نهاية المطاف على كل من يمسك بزمام السلطة. وقال والدهاوسر للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ "يعملون من أجل التأثير على ذلك". وبسؤاله عما إذا كان في مصلحة الولايات المتحدة أن تترك ذلك يحدث فقال "لا".
وردا على سؤال للسناتور الأمريكي لينزي جراهام عما إذا كانت روسيا تحاول أن تفعل في ليبيا ما فعلته في سوريا فقال والدهاوسر "نعم هذه طريقة جيدة لوصف ذلك." وقال دبلوماسي غربي طلب عدم نشر اسمه إن روسيا تتطلع إلى دعم حفتر على الرغم من أن تركيزها الأولي على الأرجح سيكون على منطقة الهلال النفطي في ليبيا. وقال الدبلوماسي "من الواضح جدا أن المصريين يسهلون الانخراط الروسي في ليبيا من خلال السماح لهم باستخدام هذه القواعد. من المفترض أن ثمة تدريبات تجري هناك في الوقت الحاضر."
وتعهد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بالمساعدة في توحيد ليبيا وتعزيز الحوار عندما اجتمع مع فائز السراج رئيس الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة. من ناحية أخرى تعزز روسيا أيضا علاقاتها مع مصر التي ربطتها علاقات مع الاتحاد السوفييتي في الفترة من عام 1956 وحتى عام 1972. ولأول مرة أجرى البلدان في أكتوبر تشرين الأول تدريبات عسكرية مشتركة الأمر الذي كانت تجريه الولايات المتحدة ومصر بانتظام حتى عام 2011.