ترى الباحثة سارة فوير أن الطريق نحو الديمقراطية التي سلكتها تونس منذ إسقاط نظام زين العابدين بن علي في يناير 2011 لم تخل من الصعوبات، لكن هذه الطريق وفق الباحثة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تُوجت مؤخّرا بانطلاق الحملات لانتخابات تشريعية ورئاسية مرتقبة ستنبثق عنها سلطة دائمة، في ظلّ مشهد سياسي وانتخابي يتسم بالتنوع.

صادف يوم الرابع من أكتوبر 2014، موعد الانطلاق الرسمي لفترة حملة الانتخابات التشريعية (26 أكتوبر) في انتظار انطلاق الانتخابات الرئاسية في (23 نوفمبر).

ستكون هذه الانتخابات الثانية التي يتمّ إجراؤها منذ أن سقوط نظام زين العابدين بن علي في 2011. في ذلك التاريخ توقّع التونسيون، ومن بعدهم الشعوب التي سارت على دربهم وأسقطت أنظمتها، أن الطريق نحو تحقيق العدالة المنشودة سيكون أمرا هيّنا بعد سقوط أنظمة حكمت بلدانها لسنوات طويلة بيد من حديد.

لكن الطريق نحو تحقيق الديمقراطية لم يكن مفروشا بالورود رغم أن تونس خاضت تجربة الانتخابات التعدّدية لأول مرة في تاريخا بعد ثورة 14 يناير 2011. وهي اليوم، وكما يشير الخبراء تتطلّع إلى تصحيح مسار ثورتها عبر انتخابات ثانية يتطلّع التونسيون والمجتمع المدني المحلي والدولي إلى أن تشكّل الخطوة التالية الحاسمة للبلاد وبريقا مضيئا في المنطقة التي تشهد العديد من الصراعات.

تشير الباحثة سارة فوير التحوّل السياسي في تونس مرّ منذ شهر يناير 2011 بأربع مراحل: بدأت الأولى مباشرة بعد الإطاحة بنظام بن علي، مع تولي سلسلة من الحكومات الانتقالية الحكم عبر انتخابات تشريعية، كانت الأولى من نوعها جرت في البلاد في أكتوبر 2011.

تلك الانتخابات كانت إيذانا ببدء المرحلة الثانية، فشرع المجلس التأسيسي المنتخب حديثا وقتها في صياغة الدستور، ووافقت حركة النهضة، وهي الحزب الإسلامي الرئيسي في البلاد، على الحكم بصيغة ائتلافية أو ما سمّي بالـ”ترويكا”، رفقة حزبين علمانيين أصغر حجما منها.

وشهدت تلك المرحلة تزايدا في وتيرة أعمال العنف على يد الجماعات الدينية المتطرفة، بما في ذلك الهجوم على السفارة الأميركية في تونس في شهر سبتمبر 2012. وبلغت أعمال العنف أوجها في منتصف عام 2013، عندما غرقت البلاد في أزمة سياسية بسبب اغتياليْن سياسييْن وعملية وحشية ذُبح على إثرها جنود من الجيش الوطني التونسي بمنطقة جبل الشعانبي الواقع على الحدود التونسية الجزائرية في غرب تونس، وجميعها أعمال ارتكبها جهاديون محسوبون على التيارات السلفية المتشدّدة.

وامتدت هذه المرحلة من الأزمة -وهي الثالثة من الفترة الانتقالية- من منتصف 2013 حتى شهر يناير من هذا العام، عندما أشرف “الحوار الوطني” -الذي مثّل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمجتمع المدني- على اعتماد الدستور الذي طال انتظاره، كما وافقت حكومة الترويكا على التنحي لصالح حكومة كفاءات أو ما يعرف بحكومة “تكنوقراط”. وأطلق على إثر ذلك تأليف حكومة مؤقتة في يناير، لتبدأ من ثمة المرحلة الرابعة من الفترة الانتقالية.

وشهدت هذه الأخيرة إنجازات رئيسية على غرار اعتماد قانون الانتخابات وتحقيق انخفاض في وتيرة أعمال العنف. ومع ذلك، تبقى هذه المكاسب هشة لذلك ينتظر من الحكومة القادمة تحديد التوجهات الاقتصادية والسياسية التي تشتد الحاجة إليها لتوجيه البلاد لسنوات قادمة.

على عكس المراحل المبكرة من الفترة الانتقالية عندما كان الدين والدولة يهيمنان على الخطاب العام، تتوقع وفق سارة فوير أن يهيمن موضوعا الاقتصاد والأمن على دورة الحملة الانتخابية الحالية.

ووفقا لدراسة أجراها “البنك الدولي” مؤخرا، لا يزال الاقتصاد التونسي يرزح تحت وطأة “قطاع مالي يعوقه فشل الحكم، وقواعد العمل التي -للمفارقة- تعزز انعدام الأمن الوظيفي، والسياسات التنظيمية التي تحدّ من المنافسة، وسياسة صناعية وأخرى زراعية تُنشِئان الاختلالات وترسّخان الفوارق الإقليمية”، نتيجة لذلك، لا تنفكّ معدلات البطالة تشكّل حوالي 15 في المئة على المستوى الوطني (وترتفع إلى 30 في المئة بين خريجي الجامعات).

كما انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 26 في المئة مقارنة بمعدّله في هذه الفترة من العام المنصرم. ولم يتجاوز معدل النمو 2.3 في المئة منذ بداية 2014.

في هذا السياق، كانت الحكومة الأميركية قد قدّمت بعض المساعدة الاقتصادية لتونس في وقت كانت فيه البلاد في أمسّ الحاجة إليها، بما في ذلك ضمانات القروض لسندات من الحكومة التونسية بقيمة مليار دولار، بالإضافة إلى 40 مليون دولار لمشاريع تطوير الأعمال في القطاع الخاص وأعمال تجارية ثنائية بين البلديْن بلغت قيمتها 1.5 مليار دولار.

ونجحت تونس أيضا في الصمود بفضل قرض من “صندوق النقد الدولي” بقيمة 1.74 مليار دولار تمّ التفاوض حوله في عام 2013. ولكن مع ذلك، ينتظر الحكومة القادمة عبء ثقيل يتعلّق بالانطلاق في معالجة العوائق الهيكلية العميقة التي تحول دون ازدهار المسار الاقتصادي في البلاد.

*الأمن: على عكس مصر وليبيا واليمن، كانت انتفاضة تونس الأساسية في عام 2011 سلمية نسبيا. ولكن شهد عاما 2012 و2013 زيادة في وتيرة أعمال العنف والنشاط الإرهابي، وهذا التطور يُعزى جزئيا إلى عوامل مثل العفو العام الذي مُنح في عام 2011 لـ500 سجينٍ سياسي توجّه بعضهم إلى الانخراط في أعمال العنف؛ وظهور الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة، شأن تنظيم “أنصار الشريعة”؛ وتخفيف سيطرة الدولة على المساجد؛ والتدفق المتزايد للأسلحة عبر الحدود مع الجزائر وليبيا والتي يسهل اختراقها.

وفي شهر يوليو الماضي، قتل متشددون ينتمون إلى تنظيم القاعدة 14 جنديا وجرحوا 20 آخرين في منطقة حدودية مع الجزائر. ويقدّر المسؤولون التونسيون أنّ ما يناهز 2500 مواطن قد سافروا إلى سوريا للانضمام إلى الجماعات المتمردة التي تقاتل نظام بشار الأسد، كما أنّ جماعة جهادية تونسية قد قامت مؤخرا بإعلان ولائها لتنظيم الدولة الإسلامية، بعد أن أعلن هذا الأخير إقامة “الخلافة” في أجزاء من سوريا والعراق. ومنذ عام 2011، قدّمت الولايات المتحدة أكثر من 100 مليون دولار إلى الجيش التونسي و35 مليون دولار لوزارة الداخلية من أجل برامج تدريب في قطاع الأمن، كما وعدت واشنطن بمنح تونس 12 مروحية من نوع “بلاك هوك”، وفي حين أنّ هذه المساعدة قد سهّلت تقدّم الحكومة المؤقتة في مجال التخلّص من الخلايا الإرهابية في تونس، إلا أن الملف الأمني سيبقى على رأس أولويات الفائزين في الانتخابات المقبلة.

تتنافس أكثر من 1300 قائمة مرشحين للانتخابات التشريعية المقبلة في 33 دائرة انتخابية على الفوز بأحد المقاعد في البرلمان التونسي الذي حدّد عدد مقاعده بـ217 مقعدا. وفي الوقت نفسه، يطمح 27 مرشحا إلى تبوُّؤ مقعد الرئاسة. ويمكن تقسيم هذا العدد الهائل من المتنافسين السياسيين إلى أربع كتل رئيسية هي:

* حركة نداء تونس: التي أسّسها الباجي قائد السبسي، وهو رجل دولة مخضرم عاش فترة الاستقلال وتقلّد عدّة مناصب عليا ضمن حكومات الجمهورية التونسية الأولى في عهد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، ثم في عهد بن علي، كما تحمل مسؤولية رئاسة الوزراء بعد رحيل بن علي.

بدأ السبسي بحشد التونسيين حول رسالة تتناقض مع خطاب الإسلاميين الذي بدأ حينها يعلن على مشروعه الحقيقي الذي يقضي بـ”أخونة” البلاد، حسب مراقبين، على نطاق واسع. ومنذ عام 2012، بدأت تبرز حركة “نداء تونس” كمنافس رئيسي لحركة النهضة، وجذبت مزيجا من الليبراليين العلمانيين وأنصار النظام السابق الحريصين على موازنة تقدّم الإسلاميين. ويعدّ السبسي أيضا من أبرز المتنافسين على منصب الرئاسة.

ولكن رغم تقدّمه بأشواط على المرشحين الآخرين وفقا لاستطلاعات الرأي، فقد أشارت الأغلبية الكبرى من المشاركين في هذه الاستطلاعات إلى أنها ما زالت مترددة حول اختيار رئيس قادم للبلاد.

* حركة النهضة: حزب إسلامي يتزعمه راشد الغنوشي. كانت قد حصدت 41 في المئة من الأصوات وأكثرية المقاعد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي أجريت عام 2011. ولكنّ شعبيتها تراجعت في خضمّ أعمال العنف والأزمة السياسية التي تلت ذلك في عاميْ 2012- 2013، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ الحركة تراجعت وستحصل على أقل من 30 في المئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية القادمة، ممّا يرجّح ثانية إمكانية التجائها مرة أخرى إلى المشاركة في الحكم ضمن ائتلاف يضمّ أحزابا أخرى.

*الجبهة الشعبية: هي ائتلاف بين عشرة أحزاب سياسية (يسارية في مجملها) تأسست سنة 2012 يتزعمها الناطق الرسمي باسمها وأمين عام حزب العمال حمّة الهمامي الذي يتنافس هو الآخر على منصب الرئاسة.

وقد كانت الجبهة الشعبية تضم في صفوفها أول شهيدين سياسيين اغتيلا بعد الثورة سنة 2013، على أيدي مسلحين تابعين لتنظيم “أنصار الشريعة”، هما كلّ من شكري بلعيد ومحمد براهمي. ويروّج هذا التحالف لنفسه على أنه اشتراكي معارض للإسلاميين وبديل لـ”الترويكا”، وقد يتمكّن من الفوز بما يكفي من المقاعد في البرلمان ليُحدث المفاجأة في الانتخابات القادمة، حسب مراقبين.

*الأحزاب الأصغر حجما وعدد من المستقلين: منذ عام 2011، ظهرت مجموعة من الأحزاب السياسية الأصغر حجما والشخصيات المستقلة كمجموعة إضافية على الساحة السياسية التونسية. وتشمل هذه المجموعة الحزبين العلمانيين الوسطيين المشاركين في “الترويكا”؛ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل، بالإضافة إلى أحزاب علمانية ليبرالية مثل الحزب الجمهوري وآفاق تونس. وينتمي معظم المرشحين للرئاسة، باستثناء السبسي وبعض المستقلين، إلى هذه الأحزاب الصغيرة.

تختم سارة فوير تحليلها حول الانتخابات القادمة في تونس مشيرة إلى أنّ المشهد الآن يفيد بأنّ أيّا من الكتل الانتخابية المذكورة سلفا، لن تحصل على الأرجح على ما يكفي من الأصوات لتحكُم بمفردها. لكن الباحثة بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تؤكّد في نفس الوقت على أنّ فترة ما بعد الانتخابات ستكون حاسمة لنجاح هذه المرحلة الانتقالية، خاصة أنّ الحكم فيها سيكون تشاركيا ولن تحكمه الأغلبية لا محالة، وفق صحيفة العرب.

ومن أجل ضمان تعزيز تونس لديمقراطيتها، ينبغي تشجيع أعضاء الحكومة المرتقبة على تجنب خطاب الاستقطاب والسلوك الذي كاد يضع حدا للمرحلة الانتقالية في العام الماضي.