قمة حاسمة حول ليبيا تلك التي عقدت، الأحد، في مكتب المستشارية في العاصمة الألمانية برلين، فالهدف كان واضحا وهو البحث عن مخرج اكيد وسريع للأزمة المستعرة في هذا البلد الممزق بالصراعات والانقسامات والتي زادت من حدتها التدخلات الخارجية وتضارب المصالح بين العديد من الدول التي تحركها الأطماع والمنافسة على النفوذ.

 وشهد مؤتمر برلين حضور مكثفا، فاضافة الى طرفي النزاع الرئيسيين، فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني، والقائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر، ضمت قائمة الحضور أيضا رؤساء الجزائر وتركيا وروسيا وفرنسا ورئيس الوزراء الايطالي والبريطاني، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي ممثلا في رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين، ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، ثمّ الولايات المتحدة متمثلة في وزير خارجيتها مايك بومبيو.

وغابت عن المؤتمر تونس التي اعتذرت عن الحضور بسبب تأخير وصول الدعوة، فيما استغرب المغرب من "اقصائه" من هذه القمة وقالت الخارجية المغربية في بيان رسمي: "إن المغرب كان دائما في طليعة الجهود الدولية الرامية إلى تسوية الأزمة الليبية". وأشار البيان إلى الدور الحاسم الذي لعبه المغرب في إبرام اتفاق الصخيرات، الذي يشكل حتى الآن الإطار السياسي الوحيد، الذي يحظى بدعم مجلس الأمن الدولي وقبول جميع الفرقاء الليبيين، من أجل تسوية الأزمة في هذا البلد الواقع في شمال أفريقيا.

وبالرغم من أنه يبحث الأزمة الليبية فان طرفي القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج، لم يكونا جزءا من فعاليات مؤتمر برلين. وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، "هناك الكثير من الخلافات بين الطرفين وهما لم يكونا جزءا من المؤتمر لكنهما كانا في برلين لكي يتم إعلامهما بالمحادثات".

وتعددت اللقاءات الثنائية بين رؤساء الدول على هامش المؤتمر والتي توجت بجلسة عامة مسائية سرعان ما تلاها إصدار المشاركون في مؤتمر برلين حول ليبيا بيانا ختاميا دعوا فيه لتعزيز الهدنة في البلاد، ووقف الهجمات على منشآت النفط وتشكيل قوات عسكرية ليبية موحدة، وحظر توريد السلاح إلى ليبيا.

وقالت الأطراف المشاركة في المؤتمر: "نرحب بالتراجع الملموس لمستوى العنف في ليبيا منذ 12 يناير والمفاوضات المنعقدة في موسكو يوم 13 يناير وكل المبادرات الدولية الرامية إلى مواصلة السبيل نحو توقيع اتفاق حول وقف إطلاق النار. وندعو كل الجهات المعنية إلى مضاعفة جهودها لتحقيق وقف مستدام للأعمال القتالية وخفض التصعيد ووقف إطلاق النار بشكل دائم".

ودعا المشاركون في المحادثات "إلى وقف كل التحركات العسكرية من قبل طرفي النزاع أو في إطار تقديم الدعم المباشر لأي من الطرفين على كل أراضي ليبيا منذ بداية عمل وقف إطلاق النار"، إضافة إلى "اتخاذ إجراءات تسهم في تعزيز الثقة بينهما مثل عمليات لتبادل الأسرى". وتعهد المؤتمرون بـ "الامتناع عن التدخل في النزاع المسلح أو الشؤون الداخلية لليبيا"، وتابعوا: "ندعو كل الأطراف الدولية إلى حذو حذونا".

وشدد البيان في هذا السياق على "الدور المركزي للأمم المتحدة في دعم العملية السياسية الشاملة بين الأطراف الليبية ومصالحتها". وتعهد الموقعون على البيان "بالالتزام الصارم والكامل باحترام وتطبيق الحظر على توريد الأسلحة إلى ليبيا والذي فرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب القرار رقم 1970 الصادر عام 2011، والقرارات اللاحقة بشأن منع انتشار السلاح في ليبيا"، ودعوا "كل الأطراف الدولية إلى اتخاذ نفس الإجراءات".

كما التزموا بتشديد إجراءات مراقبة تطبيق حظر السلاح وتعزيز آلية الأمم المتحدة الخاصة بضمان تنفيذ هذا القرار، مشددين على "ضرورة تجنب أي خطوات من شأنها تعميق النزاع". وحث المشاركون في المحادثات على "عملية تصريح شاملة ونزع السلاح للجماعات والتشكيلات المسلحة في ليبيا مع الدمج اللاحق لعناصرها في المؤسسات المدنية والعسكرية وأجهزة الأمن بشكل شخصي بناء على عدد قوام القوات المسلحة وتدقيق هوياتهم"، فيما دعوا الأمم المتحدة إلى دعم هذه العملية.

 كما أكد الموقعون على البيان دعمهم لـ "إنشاء جيش وطني ليبي موحد وشرطة وقوات أمن موحدة تحت إدارة السلطات المدنية المركزية على أساس عملية القاهرة التفاوضية والوثائق المنبثقة عنها". وشددوا كذلك على أن "المؤسسة الوطنية للنفط تمثل شركة النفط الشرعية المستقلة الوحيدة بموجب القرارين 2259 و2441 الصادرين عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".

وذكر الموقعون على البيان أنهم ينوون "تشكيل لجنة المتابعة الدولية تحت رعاية الأمم المتحدة لمواصلة التنسيق بشأن نتائج مؤتمر برلين". وبينوا أن اجتماعاتها ستنعقد على مستويين، يتمثل الأول بالجلسات العامة بمشاركة مسؤولين كبار، التي ستنعقد كل شهر، فيما يتمثل الثاني في جلسات فرق العمل الفنية بمشاركة خبراء وبرئاسة ممثلين عن الأمم المتحدة.

ووسط آراء مختلفة إزاء هذه النتائج، مثّلت قمة برلين بشأن الأزمة الليبية فرصة لعديد من الزعماء المشاركين، بأن يعبروا عن آرائهم إزاء سبل الخروج من هذه الأزمة الشائكة. ومثل الملف الأمني الأبرز في تصريحات المسؤولين خاصة التدخلات الخارجية التي طغت على المشهد الليبي ولعل أهمها التدخل التركي الذي يهدد بتأجيج الصراع الليبي.

وطالب الرئيس الفرنسي خلال مؤتمر برلين بـ"الكف" عن إرسال مقاتلين سوريين موالين لتركيا إلى طرابلس دعما للحكومة التي تعترف بها الأمم المتحدة. وقال "يجب أن أقول لكم إن ما يقلقني بشدة هو وصول مقاتلين سوريين وأجانب إلى مدينة طرابلس، يجب أن يتوقف ذلك". وأضاف الرئيس الفرنسي "من يعتقدون أنهم يحققون مكاسب من ذلك لا يدركون المجازفات التي يعرضون أنفسهم ونحن جميعا لها".

وبدوره أعرب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن قلقه حيال وجود قوات أجنبية في ليبيا، خلال اجتماع مع مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي. وقالت مورغان أورتاجوس المتحدثة باسم الخارجية الأميركية بعدما التقى بومبيو مع جاويش أوغلو في برلين على هامش مؤتمر بشأن ليبيا إن "وزير الخارجية عبر عن قلقه من تورط عسكري أجنبي في الصراع".

وفي ذات السياق، أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، أنه لا تسوية للأزمة في ليبيا في ظل التدخلات العسكرية الخارجية. وقال أبوالغيط، "إن التطورات في ليبيا أضرت بجهد الأمم المتحدة لاستئناف المسار السياسي"، مشيرا إلى أن تلك التطورات أحدثت شرخا كبيرا في النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية الليبية. وشدد أبو الغيط، على ضرورة وقف التدخلات الخارجية كشرط لخفض كل مظاهر التصعيد في ليبيا.

وتُتهم تركيا بإرسال الآلاف من المقاتلين السوريين الموالين لها إلى ليبيا لدعم حكومة السراج في القتال ضد الجيش الوطني الليبي. وأكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن في تصريح خص بوابة إفريقيا الإخبارية بنسخة منه، أن تركيا طلبت 6000 مرتزق للذهاب لليبيا مؤكدا وصول نحو 2400 مقاتل من مرتزقة أردوغان إلى طرابلس بالإضافة إلى 1700 يستعدون للانتقال مؤكدا مقتل و24 قتلوا في معارك طرابلس.

من جهة أخرى، نشر ناشطون ليبيون على مواقع التواصل الاجتماعي، صوراً لما قالوا إنها أنظمة دفاع جوي تركية، وصلت إلى مناطق سيطرة الميليشيات االموالية لحكومة الوفاق، وذلك قبل يومٍ واحد من عقد مؤتمر برلين.وأشار الناشطون في تعليقاتهم على الصور، إلى أن نشر الأسلحة التركية، يعكس الدور؛ الذي تلعبه تركيا في تأزيم الاوضاع، خاصةً بعد أن انتقلت من مرحلة الدعم العسكري السري لحكومة الوفاق، إلى مرحلة الدعم العلني، والتدخل العسكري المباشر.

وكان المتحدث باسم الجيش الليبي اللواء أحمد المسماري، أكد خلال مؤتمر صحفي استثنائي في وقت سابق إن ميليشيات طرابلس وتركيا مستمرتان في خرق الهدنة وقامت القوات التركية بتركيب منظومة دفاع جوي أميركية في مطار معيتيقة، وقامت بإنزال أسلحة ومدافع موجهة في ميناء مصراتة، وتواصل جلب المرتزقة السوريين إلى طرابلس.

وبالرغم من تفاؤل الكثيرين بمؤتمر برلين وقدرته على اختراق جدار الأزمة الليبية، فان البعض الآخر يرى أن المؤتمر الذي غاب عنه أطراف الصراع الليبي لم يكن مهتما بإنهاء معاناة الشعب الليبي بقدر ما كان مهتما بمخاوف الدول الأوروبية من تأزم الأوضاع في ليبيا خاصة بعد التدخل التركي الذي ينذر بإعادة احياء تنظيم "داعش" على مقربة من السواحل الأوروبية التي تخشى أيضا تدفق موجات جديدة من المهاجرين على أراضيها.

ولم يتوانى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ابتزاز المجتمع الدولي بين القبول بنفوذ بلاده في ليبيا أو انتظار موجة من العمليات الإرهابية، حين وجه في مقال له في صحيفة بوليتيكو الأوروبية، نشرته السبت، تهديدا واضحا للأوروبيين، قائلا إنه في حال سقوط حكومة فائز السراج التي يدعمها في طرابلس، فإن القارة العجوز ستواجه مشكلات ضخمة مثل الهجرة والإرهاب. وأضاف "ستجد منظمات إرهابية على غرار تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، اللذان تعرّضا لهزائم عسكرية في سوريا والعراق، أرضًا خصبة للوقوف مجدداً على قدميهما".

واعتاد أردوغان استعمال أسلوب الابتزاز في حديثه مع الأوروبيين، خاصة فيما يتعلق بمسألة اللاجئين حيث يثير أردوغان هذه القضية كلما ضيق عليه الأوروبيون حين ينتقدون سياساته. ويدرك الرئيس التركي حجم المخاوف الأوروبية من موجات هجرة جديدة فيما تعيش أوروبا على وقع انقسامات حادة على خلفية هذه القضية.

ويرى مراقبون أن المصير الأقرب لمؤتمر برلين لن يكون مختلفا كثيرا عن مصير مؤتمرات واجتماعات سابقة فشلت في حل الأزمة الليبية التي تسببت فيها نفس الدول المجتمعة لحلها. ويشير هؤلاء الى أن الطريق الى تسوية شاملة في البلاد لن يكون ممكنا في ظل استمرار وجود المليشيات المسلحة المدعومة من بعض الدول والتي تمارس سلطة خارج سلطة الدولة والتي لن يكون في الامكان انجاح أي استحقاق سياسي في ظل وجودها.