شعر أبيض وظهر منحنٍ ووجوه رسم عليها الزمن خطوطه. فى عنابر النساء بمستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية، معظمهن دخل آنسات وأمضين زهرة أعمارهن بين جدرانها ينتظرن فقط أن يقضين نحبهن ربما تأتى تلك الأيادى التى ضنت عليهن بالزيارة طوال العمر لتحملهن إلى مقابر العائلة أو تحملهن الأيادى التى خدمتهن على مدى أعوام إلى مقابر الصدقة، الجميع ينتظر النهاية وعدد قليل جدا ينتظر مشهد ما قبل النهاية، مشهد رؤية الابن والأحفاد، إنهن الأمهات القليلات فى تلك العنابر التى حرمهن الجحود، وفى بعض الأحيان الظروف، من رؤية أبنائهن الذين جعل مولدهم منهن أمهات لم يستطع الجنون وأمراضه أن ينسيهن أمومتهم أو ينسيهن جحود الأبناء، شىء ما ينبض بداخلهن يقول «إنى أم».
فى عنبر «29 سيدات» بمستشفى العباسية، حول طاولة كبيرة عليها أطباق من الحلوى، تجمع عدد من الممرضات والأطباء والإخصائيات النفسيات بالمستشفى لتكريم مجموعة من المريضات كبار السن ومنحهن لقب «أم مثالية»، لم يتم الاحتفال على أنغام «ست الحبايب»، بل أغنيات شعبية ومهرجانات، ترقص عليها الممرضات مع الأمهات المرضى. تقول رضا، واحدة من الممرضات: «الأمهات لا يشعرن بسعادة إلا مع النغمات السريعة التى تطلقها الأغنيات الشعبية».
تتسلم كل سيدة منهن هديتها من إدارة المستشفى.. طرحة للرأس أو «توكة» للشعر أو عطور رخيصة، بعضهن يشارك الممرضات الرقص، وآخريات ينزوين فى ركن يحتفلن بالهدايا الصغيرة اللاتى حصلن عليها. هدى (وهذا ليس اسمها الحقيقى)، 62 سنة، كانت تشغل وظيفة قيادية فى وزارة العدل، قبل إصابتها بالفصام، حسب تشخيص طبيبها المعالج. تبدأ حديثا طويلا مع نفسها باللغة الفرنسية، لكن ذكر اسم ابنها «محمود» أمامها كفيل بلفت انتباهها، تقول: «وحشنى قوى، عاوزاه ييجى يشوفنى لكن ماحدش لاقيه، أخته مع جدتها أصلها لسه صغيرة، لكن هو كبير وأكيد هييجى يشوفنى». الأم ترفض تصديق موت ابنتها قبل 25 عاما، وترفض تصديق وفاة زوجها تحت أنقاض منزلهم، لتتشرد باقى الأسرة فى الشارع، يذهب بها ابن عمها إلى مستشفى العباسية، ويختفى، بينما هى تبحث عن ابنها الوحيد، 35 عاما، الذى أشيع أنه مريض نفسى هو الآخر. حالة هدى وارتباطها بابنها دفعا الإخصائيات للمرور على عنبر «المستجدين رجال» ربما ترى ابنها بينهم
نهال (وهذا ليس اسمها الحقيقى)، تبلغ من العمر 60 عاما، قضت فى هذا العنبر 27 عاما بعد إصابتها بالفصام، حسب تشخيص الأطباء. تقول: «أنا كملت تعليم لغاية الثانوى التجارى، ولما اتطلقت جوزى أخد الولد، وأنا أخدت البنت فى حضانتى. زعلت على ابنى وتعبت، بنتى بتيجى تزورنى كل سنة فى شهر يوليو، لكن آخر مرة زارنى فيها ابنى كانت من 5 سنين، وأولاده ماشافونيش. سمعت إنه خلف ولد وبنت». تضيف: «أنا حزينة على اللى فاتنى، حزينة إنى قلت لجوزى طلقنى وأنا مخلفة»، تنسحب من الحوار قائلة: «كل سنة وإنتى طيبة».
بشعرها الأبيض القصير المنسدل على جبينها، وصبغة خضراء فى أظافرها تصر على وضعها كل يوم وإيشارب كانت تربطه حول عنقها قديما تمسكه الآن بيديها، تجلس أمام أحد العنابر بهية (وهذا ليس اسمها الحقيقى)، 63 سنة، فلسطينية، تغطى عينيها بكلتا يديها بينما تضع إحدى الممرضات يدها على ركبتها منتظرة «دعوة طيبة مستجابة»، من السيدة المريضة، بـ«الستر والسعادة».
منذ أكثر من 30 عاما، كانت بهية تعمل مدرسة فى إحدى مدارس الرياض بالسعودية، بعد أن سافرت مع زوجها الصيدلى من غزة إلى الرياض بصحبة ابن فى السادسة من عمره، وبنت فى الرابعة، بعد عدة سنوات ضاق زوجها من نوبات اكتئابها، فاتصل بعمها، الذى حضر إلى الرياض ومنها إلى القاهرة، حيث تقضى بقية عمرها. منذ 33 عاما لا يزور أحد بهية إلا زوجة أخيها المصرية، التى تحرص على زيارتها على فترات متباعدة، مرة واحدة حضر عمها يخبرها بأن ابنتها ستتزوج، وأما الابن فلا تعلم عنه شيئا منذ أن تركته. تقول: «البنت عرفت إنها اتجوزت وعاشت فى ليبيا، ولما سألت عن أولادها قالولى ما خلفتش، وابنى باين عليه ماتجوزش ماحدش قاللى».
«بقالى 40 سنة هنا نفسى فى طبق محشى، ولسه الممرضة عملهولى النهاردة» تقول يسرية، 70 عاما، التى قضت أربعون عاما منها فى المستشفى بعد أن داهمها اكتئاب حاد فى سن الثلاثين فى مجتمع مغلق بإحدى قرى الصعيد. تقول: «كنت باقعد لوحدى كتير مش عاوزة أكلم أمى ولا إخواتى. أخويا دخّلنى المستشفى ومات، ولما أختى حاولت تخرجنى أقعد معاها جوزها هددها لو خرجتنى يطلقها، وكان بيقولها مش ممكن أقعد مع واحدة مجنونة فى بيت واحد».
تقول عزة، إحدى الممرضات بالمستشفى، إن الأمهات فى العنابر محرومات من أشياء بسيطة، مثل أكلة تفضلنها ولا يقدمها مطعم المستشفى، لا يتصور أحد فرحتهن بزيارة فيها أنواع من الحلوى أو البطاطا، جميعهن يشتاق لأشياء لا يقدمها المستشفى فى وجباته، ومنذ عقود أصبحن منسيات لا يتذكرهن أحد فى المناسبات السنوية، ومعظم الأبناء غيروا العناوين دون إخطار المستشفى، إما عمدا أو إهمالا وعدم اهتمام بذويهم.
نعمات لم تتزوج ولم تنجب، ولكنها تملك قلب أم جعلها تتبنى مريضة أخرى عمرها 35 سنة، تعانى من تأخر عقلى ويدعونها «سيدة». نعمات ترعى زميلتها الصغيرة منذ 15 عاما بعد أن ألقت الشرطة القبض عليها فى أحد شوارع السويس. تقول نعمات: «تبنيت سيدة من يوم ما جت من السويس قبل 15 سنة، أنا اللى بأكلها وأغسلها وأسرح لها شعرها كأنها بنتى تمام، فى يوم سيبتها ورحت رحلة مع ناس من المستشفى زعلت منى ولما سألوها عنى قالت (نعمات ماتت)، علشان كدة بيعتبرونى أم وبيكرمونى مع الأمهات المثاليات فى عيد الأم، ويدونى ورد وجلابيتين وهدايا».
رقية (وهذا ليس اسمها)، 59 عاما، قضت معظمها فى المستشفى. تزوجت قبل أن تدخل إلى المستشفى وطلقها زوجها بعد 3 أعوام حين مات طفلها الوحيد الذى فقدت معه رحمها وأمومتها إلى الأبد، لم يعوض رقية بعد الحادث إلا ابنة أختها اليتيمة التى تزوجت أمها تقول انتصار، الإخصائية الاجتماعية للعنبر، مضيفة: «أكثر من 10 أعوام والخالة تعتبر الفتاة ابنتها. مرت الأعوام ونسيت ابنة الأخت خالتها التى تقضى ما تبقى من عمرها فى مستشفى الأمراض العقلية، اتصلنا بالبنت ودايما تقول (أنا مابجيش أماكن زى دى)»، حتى رقية نفسها تشوف أولادها لكن هى ماوافقتش تجيبهم أبدًا، وجزء كبير من علاجها إننا نحسسها إننا مسؤولين منها لإن عندها إحساس الأمومة عالى، كل العيانين فى العنبر بيقولولها يا ماما وهى اللى بتراعيهم وتنظفهم».
رقية تحاول إنكار هذا الجحود، تبرر ذلك: «أنا اللى منعاها تيجى هنا، علشان ما تتعبش زينا، أصل أنا باخاف عليها، وبعدين أنا مبسوطة وسط الناس اللى فى المستشفى مش عاوزة أخرج بره، ما بعرفش أتعامل مع الناس، هنا زمايلى فاهمينى».
بملامح شابة ونبرة صوت هادئة، تقول سوزان (وهذا ليس اسمها)، 24 سنة، مريضة فصام: «أختى جابتنى هنا ومش عاوزة تيجى تاخدنى، وأبلة مريم (إخصائية بالمستشفى) بتتصل بيها كتير مابتردش، مرة أبويا أخدنى البيت ولما اتخانقت مع إخواتى زعقوا له وجابونى تانى ومن يومها ماجاش ياخدنى».
دخلت سوزان المستشفى قبل أقل من عام، تقول: «ابنى كان عنده شهور لما أبوه أخده منى وطلقنى، ولما رحت أسأل عليه حماتى قالت لى إنه مات، بس ما أعرفش هو مات ولا عايش».
بصوت لا تقل رعشته عن رعشة يديها وقدميها تقول سمر، 55 عاما، مريضة فصام وصرع، تقول: «أنا متجوزة وعندى ابن فى 5 ابتدائى، دايما يتصل بيا ويقوللى نفسى أشوفك يا ماما، أصله بيحبنى». لكن الممرضات يؤكدن أن ابنها تعدى العشرين من عمره ولا يزورها، ولا يستطيعون الاتصال، وأن سمر ساءت حالتها بعد أن انقطعت أختها عن زيارتها».
«المشكلة الكبيرة التى تواجهنا هنا هى جحود الأبناء لأمهاتهم وآبائهم المرضى» يقول الدكتور مصطفى قاسم، رئيس وحدة التأهيل بمستشفى العباسية للصحة النفسية، يضيف: «حينما يتعافى أحد المرضى أو عندما تتقدم به السن ويصبح غير قادر على إيذاء نفسه، نرسل لأبنائه حتى يتسلموه، لكن فى معظم الحالات يرفضون، وبالتالى يعودون للمستشفى مرة أخرى، وهو ما يشكل عبئا علينا»
*نقلا عن المصري اليوم