ثمانية أشهر انقضت على اندلاع العنف في غرداية، دون أن تهتدي الحكومة الجزائرية إلى حلول جذرية للأزمة التي باتت تكبر شيئا فشيئا ككرة الثلج، مهددة بالخروج التدريجي عن سيطرة السلطة المركزية.

رغم المساعي والوعود وخرائط الطريق الرسمية وغير الرسمية، يسير العنف في مدينة غرداية، (600 كلم جنوب الجزائر)، إلى المزيد من التأجيج، حاصدا في طريقه الأرواح والجراح، ومخلفا الدمار في مدينة ظلت لقرون طويلة رمزا للتكافل الاجتماعي والالتزام الديني والتعايش السلمي بين أكبر الإثنيات المشَكّلة للمنطقة (المالكيين والإباضيين).

الذي اختار غرداية لأن تكون الخاصرة الرخوة في الجسد الجزائري، بإثارة فتنة طائفية غير مسبوقة، يراهن على تأجيج الأحقاد والضغائن بين أتباع المذهبين المالكي والإباضي، لم يكن ليتمكن من تنفيذ مشروعه في الميدان لولا التهاون الذي تعالج به القضية من طرف الحكومة. فبعد شهور من الكر والفر في شوارع وأحياء غرداية، أدت إلى سقوط عشرة قتلى ومئات الجرحى وخسائر كبيرة في الممتلكات. لم تذهب الحكومة مباشرة إلى ما تسميه بـ “الدوائر الأجنبية”، وتضرب بيد من حديد كل من يهدد سلامة ووحدة البلاد، وتجيب بكل شفافية عن سؤال من يقتل من في غرداية بعد 11 قرنا من التعايش والتكافل.

جولة بسيطة في شبكة التواصل الاجتماعي ومختلف المواقع والمنتديات المرتبطة بالتيار السلفي المتشدد، تكشف درجة التأجيج والتجييش التي تشنها تلك الوسائط على سكان غرداية الأصليين وتكيل لهم مختلف النعوت والأوصاف كـ “الخوارج” و”الكفرة”، وتدعو “أبناء السنة (المالكيين) إلى قتالهم وإخراجهم من المدينة. وكأن بهؤلاء يكتشفون الأمر لأول مرة في العام 2014، ولم يمر على هؤلاء 11 قرنا في المنطقة.

وأسفرت المواجهات المذهبية في غرداية بين العرب المالكيين والميزابيين الإباضيين، منذ اندلاعها في نوفمبر الماضي، عن مقتل عدد لا يستهان به من أبناء المنطقة وجرح المئات، فضلا عن نهب وإحراق مئات المحال التجارية والمنازل.

تنبهت الحكومة الجزائرية أخيرا في تحقيقات أمنية أن وسائط الاتصال الاجتماعي، خاصة الفايسبوك، ساهمت في نشر الفتنة في مدينة غرداية بل وأججّت الأوضاع في الكثير من المرات.

وقالت نتائج أولية للتحقيق أن 70 بالمئة من أعمال العنف التي وقعت بمدينة غرداية تم التحريض عليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبالتحديد على الفايسبوك. وأضافت أن صفحات تابعة للمزابيين وأخرى تابعة لعرب الشعانبة تقوم بتسيير وإدارة الشارع عن بعد وإشعال نار الفتنة خاصة بين الشباب وتوجيههم إلى ساحات المعارك من خلال نشر شائعات وأكاذيب هدفها الإطالة من عمر الأزمة إضافة إلى نشر فيديوهات وصور مفبركة.

حسب عمليات الفحص والتدقيق التي أجرتها مصالح الجريمة الإلكترونية لعدة صفحات على الفايسبوك، فإن مجموعة من الأشخاص المشبوهين يعملون على تحريك الشارع من خلال إعطاء معلومات مغلوطة لزملائهم وأصدقائهم وأبناء جلدتهم لتتم عملية الاستنفار، وكثيرا ما تسببت هذه العمليات في نشوب صراعات ومشادات بين أبناء الطائفتين.

لكن التحقيق لم يجب عن استفهامات أخرى حول من يقف وراء هيمنة الخطاب الطائفي ومصطلحات الخوارج والمعتزلة، وتبني بعض الفضائيات العربية لعملية التأجيج وإشعال الفتنة بين أبناء المدينة الواحدة، تحت يافطة السلف والخوارج والتكفير. ولا عن المروجين على ذات الوسائط لما يسمونه “خيانة الإباضيين للثورة التحريرية وتعاون رموزهم مع الاحتلال الفرنسي”. وغاب عن هؤلاء أن كاتب النشيد الرسمي للدولة الجزائرية، الشاعر مفدي زكريا، هو ابن منطقة ميزاب. وغاب عمن يقف وراء خطاب السّلف والخوارج 11 قرنا من التاريخ والتعايش. ولم يسلم الشاعر مفدي زكريا، هو الآخر، من تهم “الكفر” على يد غوغاء جبهة الإنقاذ المحظورة في مطلع التسعينات، بسبب نشيد “قسما”، وكان أول المهددين من طرف منظري سلفية الإنقاذ، بسحبه كنشيد رسمي للبلاد إذا فازوا بالحكم.

وعاد نفس الخطاب إلى الواجهة في فتنة غرداية الحالية، ولم يسلم منها أيضا حتى أبرز مشايخها، بيوض ابراهيم بن عمر، الذي يعد من رواد الصحافة في الجزائر المقاومة، وأحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رفقة بن باديس والابراهيمي، والتبسي وغيرهم. لكن الحملة المسعورة حولته إلى "خائن وعميل للاستعمار الفرنسي".

 

السلفيون يكتشفون غرداية

تاريخ المذهب الإباضي، يعود إلى أولى انحرافات خلفاء بني أمية ونزوعهم نحو الاستبداد والابتعاد عن تعاليم الدين الحنيف، حيث يذكر المؤرخون، على غرار رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية، عثمان سعدي، أن ممارسات الاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية وتبذير المال العام وظهور المحاباة والتفرد بالقرار السياسي والاقتصادي، أدى إلى ظهور تيارات معارضة في عدد من أمصار الدولة الأموية.

ويقول عثمان سعدي: ظهرت الإباضية كمعارضة سياسية ومذهب ديني على يد عدد من المؤسسين، كعبدالله بن إباض المري التميمي وأبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي العُماني، الذي يعتبر المؤسس الفعلي للإباضية، وكان من أكبر علماء عصره بالشريعة، متبحرا في أصول الفقه، تتلمذ على يد العديد من الصحابة، وقال عن ذلك مفتخرا:” أدركت سبعين رجلا من بدر، فحوينا ما عندهم من العلم إلا البحر الزاخر” ويقصد عبد الله بن عباس.

وأشاد ابن عباس والامام مالك بن أنس بشيخ المذهب الإباضي، جابر بن زيد، فقال الأول عنه "إسألوا جابر بن زيد، فلو سأله من بالمشرق والمغرب لوسعهم علما”. وقال عنه الثاني لما فارق الحياة “مات اليوم أعلم من في الأرض".

وتعرض جابر بن زيد، للاضطهاد من طرف الأمويين، ونفاه الحجاج بن يوسف إلى عُمان، لكنه عاد إلى البصرة وظل يعمل لإنشاء الجمهورية الإسلامية العادلة إلى أن توفي سنة 113 هـ. وخلفه تلميذه أبو عبيدة مسلم على إمامة الإباضية، فسجنه الحجاج مع بعض علماء الإباضية، ثم أفرج عنه في عهد سليمان بن عبد الملك. وعندما اقتنع بأن المشرق مسيطر عليه من الأمويين الذين لا يسمحون للمذهب بالانتشار، اختار أحد تلاميذه هو سلمة بن سعد وبعثه إلى المغرب الذي كان يرى فيه أمل انتشار الإباضية. وما أن وصل ابن سعد لِسرت بليبيا حتى راح المذهب ينتشر بقوة بين القبائل البربرية التي كانت ساخطة على ولاة الأمويين والعباسيين.

يقول المؤرخ والباحث عثمان سعدي “أعلن قيام الدولة الرستمية الإباضية سنة 140 هـ، وبويع أبو الخطاب إماما في طرابلس وسيطرت الدولة على مساحة بالمغرب بين طرابلس والقيروان وفزان.

وسعد الناس بعدلهم ونزاهتهم وحسن سلوكهم. واختار أبو الخطاب زميله في العلم عبد الرحمن بن رستم قاضيا في طرابلس. وعندما احتلت قبيلة ورفجومة الصفرية الخارجية المتطرفة القيروان وارتكبت بها المناكر بكى أبو الخطاب وهاجمهم بجيش سنة 141 هـ وهزمهم وشتت شملهم، وقتل قائد جيشهم الجعدي، وحرر القيروان من الصفريين، وامتد انتشار الإباضية حتى مدينة وهران (450 كلم غرب الجزائر).

في سنة 142 هـ وصل جيش العباسيين بقيادة أبو الأحوص العجلي، فاشتبك معه أبو الخطاب في أغمداس الليبية فهزم أبو الأحوص الذي عاد بفلول جيشه لمصر. وجمع أبو جعفر المنصور جيشا قويا وضع على رأسه محمد بن الأشعث الخزاعي عامل العباسيين بمصر وعينه واليا على المغرب. ولما شاهد قوة الجيش الإباضي استعمل الحيلة فتظاهر بالانسحاب نحو مصر، لكنه عاد وهاجم على غرة معسكر أبي الخطاب في تاورغا سنة 144 هـ فهزم الإباضية وقتل أبو الخطاب.

وحظيت الدولة الرستمية بدعم الأندلس من أطماع الولاة العباسيين، فكونوا علاقات قوية معها، ولم ينس أبناء عبدالرحمن الداخل أن الفضل في قيام دولتهم بقرطبة يعود إلى دعم البربر أخوال عبد الرحمن الداخل. الذين استقبلوه وهو الهارب من إبادة العباسيين، فعبّروه الزقاق إلى الأندلس ونصّبوه على قرطبة. فالعباسيون أعداء لقرطبة وأعداء لتاهرت (تيارت)، ولهذا فتحالفهما أمر طبيعي. ومكن قيام الدولة الرستمية دولة عبدالرحمن الداخل من الرسوخ، وأتاح له السبيل إلى الازدهار، كما أن الدولة الرستمية كانت الجسر الذي يصل دولة بني أمية في الأندلس بالمشرق الإسلامي العربي.

 

مذهب التسامح ودولة العدل

يقول المؤرخ سعدي المحسوب على التيار العروبي في الجزائر، وصاحب البحوث المثيرة حول الأصول الموحدة للعرب والبربر، إن "إباضيي الجزائر اشتهروا بنشر اللغة العربية بالرغم من أنهم بربر أمازيغ، فقد كانوا يتعاملون مع العربية كلغتهم الوحيدة، وكانت البربرية عندهم مجرد لهجات دارجة شفوية".

ويضيف المؤرخ “أن تاهرت عاصمة الدولة الرستمية الإباضية، اشتهرت بالتسامح مع المذاهب والأديان”. ويذكر أن العالم التاهرتي اليهودي يهودا بن قريش التاهرتي، كان عالما لغويا يجيد العربية والعبرية والبربرية والفارسية والآرامية كتب في علم اللغة المقارن بين العبرية والآرامية والعربية. أما أبو سهل الفارسي فكان يتقن البربرية وشغل ترجمانا في بلاط الإمام افلح، وقد حرر كتبا دينية بالبربرية.

ويذكر عثمان سعدي أن الدولة الرستمية الإباضية لما سقطت على يد الفاطميين الشيعة، قام عبدالله الشيعي بتدمير مؤسساتها وأحرق سنة 296 هـ مكتبتها الكبيرة بتاهرت التي كانت تعتبر أعظم مكتبة عربية إسلامية بالمغرب العربي، حوت ثلاثمائة ألف مجلد. واضطر حينها بعض الإباضيين إلى الهروب من بطش الفاطميين إلى وادي ميزاب الأجدب القاحل في الصحراء، حيث أسسوا مدينة غرداية والقرى التابعة لها، وحولوا هذا الوادي إلى فضاء خصب ببنائهم للسدود التي تحجز ماء الأمطار الآتي من الشمال، وكونوا اقتصادا معتمدا على الاكتفاء الذاتي. فسكان ولاية غرداية يشربون حليبا تدره أبقارهم، بينما يستهلك سكان القطر الجزائري الحليب المستورد من أوروبا.

ويؤكد المؤرخ سعدي، على أن “المذهب الإباضي مذهب متسامح ومؤسس على مبادئ الإسلام. ويعتبره بعض المؤرخين العرب المذهب الخامس الذي يكمل المذاهب السنية الأربعة”.

ويضيف: "أن الدولة الرستمية وعاصمتها تاهرت (تيارت)، كانت دولة متسامحة تعايشت فيها سائر المذاهب والديانات. كما حارب الإباضيون الخوارج المتطرفين كالأزارقة والصفرية. ووصف المذهب الإباضي بالخارجي (الخوارج) هو خطأ يسفهه التاريخ والعلماء".

الميزابيون والاحتلال الأسباني

يعرض المؤرخون عددا من المواقف لإباضيي الجزائر خلال فترتي التحرش الأسباني والاستعمار الفرنسي. منها أن والي الجزائر العثماني خير الدين بربروس كان على اتصال وعلاقة بالشيخ باحيو بن موسى وفرقته الفدائية من الفرسان المزابيين المرابطين في السواحل الجزائرية.

وقد شاركت هذه الفرقة من الفرسان في صد غارة الأسبان على جزيرة جربة بالجنوب الشرقي لتونس سنة 1510.

ولما أحس بربروس بخطورة الموقف بعد احتلال الأسبان لمنطقة “كدية الصابون” قرب الجزائر العاصمة في 1518، وإحاطة الأسبان بمدينة الجزائر، استدعى إلى قصره الشيخ باحيو بن موسى، وأمين المزابيين في الجزائر بكير بن الحاج محمد بن بكير، وغيرهما من القادة المزابيين يستشيرهم، فأشاروا عليه بالقيام بعملية فدائية، قد يتمكن عبرها من إحباط المخطط الأسباني، واتفقوا معه على أن يقوموا هم بالعملية.

وعلى إثر العدوان العسكري الفرنسي والإنزال الذي شهدته شبه جزيرة سيدي فرج بالضواحي الغربية لمدينة الجزائر، تذكر الروايات والمراجع أن المزابيين استماتوا في الدفاع في الساعات الأولى من الهجوم على الجيش الفرنسي، وقد سقط منهم عدد كبير في ميدان الشرف، ولهؤلاء مقبرة في سطاوالي (غرب العاصمة) اختفت معالمها.

ويقول الشيخ حمو بن عيسى النوري: ”إن المجاهدين الميزابيين، استماتوا في الدفاع في الساعات الأولى من الهجوم على الجيش الفرنسي، وقد سقط منهم عدد كبير في ميدان الشرف، وفي مقدمتهم البطل اطفيش داود بن يوسف شقيق قطب الأئمة، ولهؤلاء الشهداء مقبرة في اسطاوالي في ساحة طمست آثارها اليوم ".

 

الميزابيون مع الأمير عبد القادر

يذكر مؤرخون أنه لما التحق الشيخ الميزابي سيدي السعدي، بالأمير عبد القادر، لمواصلة جهاده انضم كذلك الميزابيون إليه، فكانوا أطوع جنده. ومنهم الطبيب الماهر باي أحمد بن بابا عيسى، اتخذه الأمير طبيبه الخاص وكاتبه وأمين سره، وحضر مع الأمير في معاهدة التافنة.

أما الحاج سليمان بن داود، فقد كان ذا مال وجاه عريض في تيارت ونواحيها، وقد صادرت فرنسا كل أملاكه بسبب نشاطه في ثورة الأمير وإمدادها بالمال و السلاح، وأما الحاج داود بن محمد أميني، فقد كان أمين مال الأمير، وكان لغناه الشديد يسك له عملة ذهبية، كما كان يصنع له السلاح بوادي ميزاب على نفقته الخاصة.

كما دافع بنو ميزاب عن قسنطينة دفاعا مستميتا، مما جعل القائد الفرنسي بعد سقوطها يرفع لهم قبعته تحية لبطولتهم، وقد اشترطوا بعد إيقاف اطلاق النار ألا يسلموا سلاحهم، وألا يدخل الجيش الفرنسي القسم الذي كانوا يدافعون عنه لنهب أو سلب أو انتهاك حرمات، مما جعل عائلات قسنطينة تبعث بكل نسائها إلى تلك الأحياء، فأصبحت “رحبة الجمال” ملجأ لعائلات وجهاء المدينة، ومن يرغب بالاحتماء ببني ميزاب.

 

 

*نقلا عن العرب اللندنية