لم تكن ما تداولته وسائل الإعلام في المدة الأخيرة، مجرد تصريحات في الفراغ، ولا تسريبات فارغة حول ملف مستقبل الجبهة الإسلامية للانقاذ المنحلة، ولكن تزامن مع هذا الحديث صدور كتاب جديد من تأليف أحد القيادات التي مارست العمل المسلح، في الجبال لسنوات طويلة، ضمن صفوف الجماعة الإسلامية المسلحة بمنطقة الوسط، وكان شاهدا على أهم الأحداث التي جرت خلال تلك السنوات.

درء شبهات التكفير عند ابي محمد المقدسي والجماعات الإسلامية المسلحة، هو العنوان الذي اختاره أحد قيات الجماعة الأسلامية المسلحة بمنطقة الوسط، أبي عبد الرحمان الأثري بن يخلف قرمزلي، الكتاب صدر عن الدار العثمانية، وطبع بمطابع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، جاء في خمسمائة واثنين وعشرين صفحة، مقسم إلى فصول ومباحث، تتناول الكثير من المواضيع والقضايا المتعلقة بالتكفير والعمل المسلح، ومواقف الجماعات من الجهاد، والعلاقة مع الأنظمة السياسية، وغيرها مستخدما أسلوب الجدل والرد الفقهي، على كل المخالفين له في الرأي والاتجاه، مستعينا المنظومة الفقهية، من مختلف المذاهب والمدارس الفقهية، التي استفاظ قرمزلي في عرض اقوالها ومذاهبها، في رسالة واضحة تؤكد أن هذا التيار يمتلك القدرة على إدارة الحوار، والتمكن من المنظومة الشرعية، والقدرة على القيام بالمهامات التي يقترحها في ثنايا الكتاب.

تأكيد المؤكد

)بكل صراحة وثقة، نقول نحن بالفعل حملنا السلاح – وأخطأنا- وخروجنا على النظام، لا يعني أبدا أننا خرجنا عن الوطن، وإذا كان هناك من استخدم العنف باسم الشرع،  ففي المقابل هناك من استعمله باسم القانون، في مقولة مشهورة - تحويل الخوف الى المعسكر اللآخر- إفاذا كانت هناك ذميمة، فهي تشمل الفريقين(، بهذه العبارات يستهل بن يخلف قرمزلي كتابه، درء شبهات التكفير عند ابي محمد المقدسي والجماعات الإسلامية المسلحة، وهي القراءة التي تقدم اليوم على رفض نعوت العمل الإرهابي، وأن الكل مسؤول والكل برئ ، ولا يجب محاسبة أحد على ما حدث، ويجب الإسراع إلى طي الصفحة ونسيان الماضي، فإن كان استخدام السلاح خطاء وانحراف، فإن ما يزيل المسؤولية عن أصحابه، هو رد الفعل الذي قابله، مما يجعل من الضروري استحضار مصطلح الفتنة، واستثماره في هذا السياق، من خلال ما تختزنه المخيلة الدينية، ويقدم بن يخلف قرمزلي خدماته من خلال )فتح نافذة النقاش مع اخواني الذين لازالوا يحملون السلاح، وإني أعرف أن كثير من هذه الحقائق العلمية خافية عليهم وغائبة عنهم، وذلك لعدم قدرة الكثير منهم على فهم نصوص العلماء، أو لعدم وفرة المراجع العلمية عند بعضهم، ( واستخدام قرمزلي كلمة الإخوة لوصف من يزالون يحملون السلاح، لها دلاتها القوية، المصرة على وضع هؤلاء في خانة الضحية، ورفع المسؤولية عنهم، وأن الحل الوحيد حسب قمزلي يكمن في استيراد التجربة الموريتانية، التي اثبتتها نجاعتها، هي فتح أبواب الحوار والنقاش الفقهي معهم، لإبطال ما يعتنقونه من أفكار ومعتقدات ومذاهب، لأن هؤلاء في نضر أنصار هذا التيار، هم جهلاء ولا يعرفون من الشرع شيئا، وعلى من يحملون العلم الشرعي، أن يشرعوا في حوار هؤلاء ومناقشتهم، دون أن يقدم بن يخلف قرمزلي آليات النقاش، ولا مكانه، ولا من يقومون به.

 

 الرد البراغماتي

يعتبر بن يخلف قرمزلي، وهو الإمام السابق بأحد مساجد ولاية المدية، والملتحقين بالعمل المسلح في بدايته، يعتبر )إن النزول من الجبل، والتخلي عن العمل المسلح، والتوبة منه، هي توبة خالصة لله وحده لا شريك له، وليست لأحد، أقول هذا الكلام لبعض إخواننا ممن وضعوا السلاح، الذين لعب بهم الشيطان وصور لهم أن الجهر بالتوبة ذميمة ومنقصة، وتنازل لصالح الحكام، فالتوبة علاقة دينية بن العبد وربه، وليست علاقة سياسية والعياذ بالله، كما أنها ليست تنازلا عن مشروع المجتمع المسلم، ودولته التي تحكم شرع الله تعالى(، وبهذا المنطق والتبرير، يمكن فهم ما يسمى بالتوبة التي تعني عند هؤلاء سلوك ديني وعلاقة مع الله، نتيجة التراجع عن خطاء العمل المسلح، ومطالبة بعدم استخدام مصطلح التائبين، الذي هو مرفوض ولا علاقة له بالجهاد، ولكن عند هذا المنطق، لا تعني التوبة تقديم تنازلات للحكام، وليست تنازلا عن مشروع المجتمع المسلم والدولة الإسلامية، وهو المطلب الذي يبقى قائما، ويجب السعى إلى تحقيقه، ولكن ليس بالعمل المسلح، ولكن بطرق وأساليب أخرى لا يذكرها أنصار هذا التيار.

محاكمة قيادة

 يخصص بن يخلف قرمزلي، فصولا كثيرة من كتابه، للقيادة السياسية للجبهة الإسلامية للانقاذ المنحلة، التي يحملها فيه مسؤولية الانحراف عن الشرع، والدماء والماسي التي نتجت عن العمل المسلح، وقد حرص أن يوجه سهام النقد الآذعة إلى علي بلحاج على وجه التحديد، الذي يتهمه بالتناقض والجبن وإخلاف الوعود،  قائلا )لو وقف هذا الرجل اليوم مع نفسه، وقفة المتأمل للأحداث، وما صار إليه والتفت من حوله، وتلمس موقع رجليه، فلم يجد إلا جهلة الحزبيين، ومبتدعة الجزأرة، الذين ينادونه تلبيسا، بإبن تيمية الصغير، لعرف أنه لم يكن يوما إبن تيمية، ولكن المؤكد أنه صار صغيرا(، ويذكر قرمزلي، علي بن الحاج بالعديد من المواقف، التي اتخذها من قبل، والوعود التي أطلقها من قبل، مستشهدا بالكثير من الرسائل التي كتبها بن الحاج في العديد من المناسبات، والتصريحات التي أطلقها دون أن يفي بما وعد، ويذهب بن يخلف إلى حد السخرية من علي بن الحاج، ويشنع عليه بالجهل وعدم المعرفة، ويصفه بأنه ضحية مجموعة من الجهلة المحيطين به.

انحرافات تيار  

وبخصوص العمل المسلح، يؤكد بن يخلف قرمزلي، بأن )العمل المسلح في كل مراحله، كان باطلا  مخالفا لشرع الله، لأنه لم يكن سوى حماسة شباب، مصحوبة بشبهات خيلت للقوم، أدلة وفتاوى ليس أهلها بعلماء، وكل واحد ممن حمل السلاح، أو إلتحق بالمسلحين، له حكاية مصحوبة بأعذار، فالمسلم مرحوم بالتوبة، التى تفيه من الردود(، وهو إتهام لقيادات الجبهة الإسلامية للانقاذ المنحلة، والذين قادوا العمل المسلح منذ البداية، بأنهم يجهلون أحكام الشرع ونصوص الدين، وقد إرتكب هؤلاء جريمة كبرى في حق الشباب المتحمس، وهؤلاء الذين أعلنوا العمل المسلح، يتحملون المسؤولية الكاملة، وفي نفس الوقت الشباب الذين التحقوا بالعمل المسلح، ضحايا وتسقط عنهم كل المسؤولية، بمجرد التوبة والتخلى عن ممارسة العنف، لأن كل واحد منهم له قصته التي هو معذور بها.

وعند التفصيل في مراحل العمل المسلح، يذهب قرمزلي إلى أن )للأسف الشديد، لا زلنا نسمع من حين لاخر، أن ما يسمى بالجهاد في زمن الرعيل الأول، وخاصة بعد بيان الوحدة، على عهد إمارة الشريف قواسمي، كان جهادا شرعيا، غير أن الانحراف الذي وقع بعده، على عهد جمال زيتوني وعنتر زوابري، أثر على مشروعية الجهاد، واستمراره، وهي مقولة يروج لها بعض الاشخاص، ممن يرفضون دوما الاعتراف بأننا أخطأنا، حتى يبقوا في نظر المجتمع، أنهم زعماء وهذه المقولة يكذبها الشرع والواقع(وهي محاولة جادة لرفع التمثيل والشرعية عن المسلحين التائبين، الذين يرفضون الاعتراف بالأخطاء والكلام موجه بالتحديد وطبعا، للقادة الذين يريدون استثمار التخلى عن العمل المسلح، في اطار الإمتيازات السياسية والمواقع التابعة لها.

المعركة القاتلة

بأسلوب فقهي ومنهجية تقليدية، وعبر العشرين بعد المأتين من الصفحات، حرص بن يخلف قرمزلي على استعراض قدراته الجدلية، وثقافته الفقهية، وهو يخوض معركة حامية الوطيس، خصصها للتيار المقدسي – الوهابية الجهادية- بقيادة ابو محمد المقدسي العراقي، الذي يتزعم هذا التيار والتي اعتبر قرمزلي أفكاره )خطيرة جدا ضربت الإسلام في مقتله، وشوهت جماله، وأذهبت رونقه، بل نفرت القريب من أبنائه قبل البعيد، وتطورت تلك الأفكار فصارت عقيدة تعتمد في طياتها تكفير المسلم والغدر بالكافر، وستحلال دمهما كل ذلك يمارس بأدوات إسلامية( إن المسؤولية الخطيرة وتكاليفها التابعة لها، تتحملها الوهابية الجهادية، التي شوهت صورة اللإسلام ونفرت الناس منه، ودفعت الخصوم إلى شن الحروب عليه وعلى أهله، ويجب أن يتم اتخاذ الاجراءات والوسائل المناسبة لمواجهة هذا التيار الجهادي، الذي ينتشر كانار في الهشيم، كما يقول قرمزلي، وأنه وجده في السجون التي زارها، وممن يتلقى بهم من الشباب.

ويصر قرمزلي) على توجيه الاتهامات إلى المؤسسات الدينية) التي تخلت عن دورها في التعريف بالإسلام ونشر المفاهيم الصحيحة بين الشباب) حتى لا يقعوا ضحية لهذا التيار، ويستخدمهم في تدمير البلاد،لأن الكثير من هؤلاء الشباب الذين دافع قرمزلي عنهم في الكتاب هو بدافع ) رافة وشفقة وعطف على شباب، لازالوا إلى اليوم يساندون ويعمون هذه الجماعات، وكثيرا ما ينتهي بهم الحال إلى القتل أو السجن، مع ما يرتكبونه من مجاز وترويع للآمنين، والتمكين لعودة الدعوة الإسلامية المباركة لمسارها الطبيعي، في جو من الهدوء ةالاستقرار( مما يجعلنا أمام ملامح مشروع قادم يتم الإعداد له والتمهيد لأرضيته عبر التبشير بأيام لها ما بعدها.

الصورة المقلوبة

لقد بذل بن يخلف قرمزلي، جهدا كبيرا في الرد على انحرافات التيار المقدسي، -الوهابي الجهادي-  مركزا إهتمامه الأساسي على رصد انحرافات الجماعات المسلحة في الجزائر، وما إرتكبته من مجازر، معتبرا إياها جماعات ضالة، وقياداتها جاهلون بأحكام الدين والواقع، ليذهب إلى المسلحون الشباب مجرد ضحايا لحملات التضليل التي يقودها شيوخ يدعون أنهم علماء، ولكن علمهم بالدين قليل جدا، وحسب بن يخلف قرمزلي، فإن هذه الجماعات أصحبت مجموعات تمارس القرصنة، مثل ما كان يحدث في القرن الثامن عشر، وهي جماعات تعيش على السرقة والابتزاز، بإسم الفدية، وتمارس الزنا بإسم السبي، ونشاطها هو القتل بإسم الجهاد، ويصر قرمزلي، بأن رسالة الكتاب، هي)أردت أن أوصل رسالة إلى أبناء البلد الواحد والدين الواحد، وأذكر أنه ليس لدينا بديلا عن هذا الوطن، ففيه نحيا وعلى أرضه قد نموت، ومادام الحال كذلك، فلا خيار أمامنا إلا السلم والتصالح، ونبذ كل مظاهر العنف بجميع اشكاله وانواعه القولي والجسدي(.