بغض النظر عن تونس التي ينبغي أن ننتظر الانتخابات القادمة لنعرف ما إذا كانت ستتجه نحو ديمقراطية حقيقية أم ستعود إلى حكم إخوان النهضة ،  يعم الخراب  في ليبيا و اليمن و سوريا. و في مصر يستمر الاحتقان و لا تزال مصر تبحث عن طريها.                                                                                              على غير عادته  نشر الشاعر و المفكر أدونيس كتابا فكريا سياسيا تحت عنوان "الربيع العربي : الدين و الثورة".  و هو مجموعة من المقالات بعضها منشور في مختلف الدوريات و الصحف العربية و العالمية و بعضها ينشر لاول مرة.  و رغم قصر التدخلات و تباعدها الزمني النسبي إلا  أنها تشكل في النهاية أطروحة  متكاملة وواضحة المعالم، شخصت الداء العربي و كيفية معالجته. يخرج القارئ من قراءة الكتاب بفكرة أساسية مفادها أنه لا يمكن أن نأمل العيش في مجتمع عربي حر ما لم تتم القطيعة مع الفكر التكفيري والمتطرف.                                                                                                                                                                                                                                                     المجتمع العربي عالم مغلق سيطرت عليه فكرة غدت بديهية تقول أن الذهاب إلى المستقبل لن يتم سوى عن طريق العودة إلى الماضي. و هو أمر مضاد للحياة يقول  صاحب 'الثابت و المتحول'. و هو ما يفسر تخلف العرب و تراوحهم في نفس المكان منذ قرون. فلئن قام المسيحيون و اليهود بثورتهم الداخلية، فالمسلمون لم يغيروا  من ثقافتهم شيئا بل سدت الطرق في وجوههم للتفكير حتى في ذلك. و  هو السبب، يقول، الذي جعلني ألح كثيرا على  ضرورة الفصل بين الدين و الدولة إذ دون ذلك لن يولد الفرد العربي الحر. و إذن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقيم ديمقراطية دون أن نعيد النظر و نعترض على عوائق الديمقراطية الأساسية. إذ تبقى فكرة الديمقراطية  في رأي أدونيس غريبة جدا عن تراثنا الثقافي. و لا زالت  الثقافة في المجتمعات العربية  هي  أم المشاكل و ليست السياسة ، كما  ترى الأغلبية.  لم يتعد التغيير في البلدان العربية منذ استقلالها الجانب السياسي و الذي بقي بدوره سطحيا شكليا لا أكثر، و لم يحدث العرب القطيعة مع التراث التسلطي. فحتى حزب البعث العربي لم يفصل بين السماء و الأرض كما وعد بل استعمل الدين هو أيضا و ترك بينه و بين السياسة ضبابية كبيرة.  فمن يؤمن بفكر شمولي و ينظر إلى الآخر نظرة رفض و إقصاء، يتساءل أدونيس ، هل بإمكانه أن يكون ثوريا يكافح من أجل إرساء الديمقراطية و ثقافة التعدد و حقوق الإنسان؟  و يفند المفكر بإسهاب ذلك الوهم المتغلغل في اعتقاده في أغلب الأذهان و الذي يتصور أن تقوم ثورة تقدمية على الأرض العربية دون قطيعة جذرية مع التراث الميت.  لأن هذا التراث المتداول في نظر المفكر أدونيس هو مناقض من حيث الجوهر لفلسفة حقوق الانسان و حرية المرأة و لا يعترف بالآخر و لا مبدأ الاختلاف. و يسرد في ثنيايا الكتاب قصصا من التاريخ الأسلامي لتدعيم ما يطرح من أفكار  كما يحاول الوصول إلى مصدر ذلك العسر و تفكيكه محذرا من مغبة نكران ذلك التصادم البين بين التراث الميت  و الحداثة عموما. فالديمقراطية ليست أمرا جاهزا أو مثلا يحتذى به بقدر ما هي اختبار و من هنا فلن تنجح الثورة السورية و لا الثورات العربية الأخرى  في إقامة نظام ديمقراطي ما لم  تتجه أولا إلى مقارعة الدوغمائيات التي تلوث العقول و تقيد النساء و الرجال و تسلبهم إرادتهم. و يطالب أدونيس  من الثوار أن يبتعدوا عن الفهم الظلامي للعالم و أن يطيحوا بالديكتاتوريات باسم مبادئ المواطنة التي تعني الاختلاف و الحرية و العدالة.  يكتب أن "  الرقابة في  بنية العلم العربي هي  عنصر السياسة و الثقافة الديناميكي.و لذا يولد الفرد في مجتمع كهذا مكبلا بغض النظر عن العبارة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب القائلة  :  "متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"                                                                                                                                                                                    الكتاب تأمل عميق و صريح و غير مهادن في  مسألة  العنف و التظرف في تطبيق الشريعة و التعامل مع الآخر المختلف في الثقافة العربية الاسلامية ووضع المرأة و فصل السماء عن الارض  بشكل عام... جاءت آراء أدونيس في هذا الكتاب المترجم إلى الفرنسية عميقة و صارمة  و قاسية أحيانا في 'الربيع العربي'  و لكنها  لم  تكن يائسة بل  احتفظت بشعاع أمل ظل ينّور الصفحات الواحدة تلو الأخرى من البداية إلى النهاية.                                                                                    

 

لا خروج للعربي من الأزمة المزمنة التي يتخبط فيها دون أن يفصل بوضوح تام في مشروع المجتمع  الذي يريد . و ربما هذا الطرح العقلاني هو الذي جعله يرفض مباركة المعارضة السورية الإسلاموية المسلحة التي لا يمكن أن تأتي بمشروع تجديدي يضمن الحرية و الديمقراطية للسوريين. ينتهج الكاتب أسلوبا عقلانيا خال من كل عداء أو عنف.  و على عكس جل الذين تناولوا موضوع "الثورة السورية" مثلا تبقى كتابته بعيدة كل البعد عن أسلوب البيان السياسي المؤيد أو المعارض. الـ "مع ' و الـ " ضد".  إذ لم يكف عن التذكير بأن بعض المعارضين يمارسون العنف مثل النظام تماما. و يحذر المفكر من الانتقال من عبودية 'البعث' إلى عبودية 'الإسلاميين' . نقرأ في  الكتاب نقدا لاذعا لاستعمال العنف الذي يعتبره فعلا لاإنسانيا.و يجد نفسه  قريبا جدا من فلسفة الماهاتما غاندي و بعيدا كل البعد عن العصابات المسلحة.                                                                                                                   و بعيدا عن الاستنتاجات المتسرعة و المتحمسة  حاول أدونيس كعادته أن يقدم نظرة مغايرة معمقة حول ما سمي بـ "الربيع العربي".  فجاء الكتاب جداليا يحمل رؤية حقيقية مبنية على أسس معرفية و تاريخية و دينية و فلسفية. وظف فيه المفكر روحه الشاعرية في خدمة تحليل الخيبات الماضية المتكررة التي كانت ثمرة مرة لطبيعة اشتغال الأنظمة العربية –الاسلامية .                                                                                                                                   

 يشبه أدونيس العالم العربي بسيزييف المحكوم عليه بالفشل تلو الفشل دون أن يتمكن من استخلاص درس النجاة. و هكذا لم يستسلم أدونيس لذلك الخطاب الحماسي السعيد الذي رافق " الربيع العربي "  بل عاد دائما في مقالاته المنشورة في هذا الكتاب  في تحليلاته إلى التاريخ العالمي وتاريخ العالم  العربي الإسلامي ذاته ليستخلص العبر التي يجب أن تستخلص.  حذّر الكاتب من الأخطار التي تحوم حول الثورات العربية الفتية، فإن كنست الديكتاتوريات المقيتة فعليها أيضا أن تعلم المجتمع كيف يتخلص من عيوبه التي ازدهرت تحت حكم تلك الأنظمة الفاسدة. فالثورة لا تعني شيئا إذا لم يكن هدفها الأساسي إحداث تغييرات عميقة في المجتمع و أهمها في اعتقاد أدونيس هو قبول الاختلاف و الحوار المستمر من أجل تجاوز الأزمات.