لم يعد الدور الذي تلعبه تركيا في ليبيا خاف على أحد. أردوغان نفسه يعرف أنه اليوم جزء من الأزمة الليبية بل والمساهم في تعميقها غير مبال بالتحذيرات الداخلية والدولية حول الدور الذي يلعبه نظامه وحزبه منذ العام 2011. وفي الوقت الذي تسعى أطراف عدّة لفتح باب جديد للحل السياسي ووقف الاقتتال يسعى الرئيس التركي "المغرور" إلى فرض ما يشبه الأمر الواقع بدعم أطراف السلاح التي كانت دائما محور الخلاف في الداخل الليبي.
بالعودة إلى العام 2011، يمكن فهم سيرورة الدور التي في ليبيا. منذ ذلك التاريخ اختارت أنقرة عبر زعيمها المندفع بأحلام عثمانية قديمة، أن تكون صاحبة رأي، في البداية شاركه فيها أشقاء وأعداء، لكن بعد ذلك بدا وكأنها تريد إزاحة الجميع من الملعب لتتحرك منفردة. في ذلك بالتأكيد نوايا وأطماع والاقتصاد في ذلك رأس الحربة.
قد تقدّم تركيا وساستها صورة استعادة التاريخ و"الأمجاد المزعومة" لأسلافهم في ليبيا، لكن في هذا العالم متسارع الأحداث بدأت مفاهيم المجد والهوية خارج سياقات النفوذ. لا يشبه الأتراك في ما يقومون به إلا أصدقاؤهم الصهاينة، هناك تشابه في الممارسة ونوايا الاستحواذ، كما التشابه في اللعب على التاريخ، هم يريدون تصدير صورة حصن الإسلام بشكل سياسي فج وقبيح واستعماري وحليفهم أيضا يرى في نفسه حصن اليهودية بشكل متطرف استعماري متوحش.
خلال السنوات العشر الماضية أو ما يقاربها، كانت أنقرة لاعبا محوريا في الأزمة الليبية. منذ القرار الأممي بفرض الحظر العسكري والقرارين الدوليين المعروفين، ومنذ اتخاذها حلف الإسلام السياسي ليكون واجهتها، ومنذ دعمها لأطراف السلاح، كانت تركيا داخل الملعب الليبي بكل قوة. لا أحد كان قادرا على لجمها إلى حدود 2014، وتغير الخارطة الأمنية والسياسية. بعدها وأمامها عجزها عن التحكم في بعض الأطراف الموجودة في شرق البلاد، اختارت أن تلعب على الأطراف الموالية لها في مصراتة وطرابلس، باعتبارها التي تضمن لها نفوذها.
بقيت تركيا على نفس منهجها في التعامل مع الظروف في ليبيا، هي لم تكن للحظة محايدة أو راغبة في حل سياسي، بل كانت دائما محرّضة على الاقتتال من خلال تسليحها ودعمها لحلفائها في طرابلس سياسيا وفي مصراتة عسكريا. بالنسبة إليها مصراتة جزءا منها وهذا له خلفية تاريخية لا تخفي نوايا استعمارية. حتى مسؤوليها خرجت لهم تصريحات تصب في ذلك الاتجاه. الإشكال أن المتنفذين في تلك المناطق لم يزعجهم الأمر، وكأنهم راضون على ذلك الخطاب وذلك المنطق.
خلال السنوات الماضية ومنذ اتفاق الصخيرات، أصبحت تركيا محجا لوزراء الوفاق من رئيسها فائز السراج إلى بقية وزرائه، حتى أن البعض أشار إلى أنقرة هي مقرّ مواز لحكومة طرابلس، حيث لا تكاد تمر أيام قليلة حتى يشاهد الليبيون أحد وزرائها هناك، السراج نفسه لا يغيب شهرا دون أن يلتقي أردوغان.
والمتابع للأوضاع في ليبيا يعرف أن الوفاق ومنذ بداية معركة طرابلس في أبريل 2019، تحتمي بأردوغان. تعرف ربما أنها تعاني من اعتراف شعبي فاختارت الالتجاء إلى حليف يوفر لها ما يريد، في البداية على مستوى التسليح، لكن مع احتدام المعارك ورجوح كفة الجيش قررت أنقرة الدخول مباشرة في الحرب مرة أولى عبر طائراتها المسيرة، ثم بعد ذلك وفي عمل وصف بالخطير عبر مرتزقة متطرفين كانوا يقاتلون في سوريا وإرسالهم إلى ليبيا عبر دفوعات وهي الوضعية التي حركت المجتمع الدولي الذي بقي صامتا لأشهر طويلة. فالقوى الدولية فهمت أن مجهودات القضاء على الإرهاب في المنطقة بدأت مهددة فبدأت تخرج تصريحاتها منددة بنقل المرتزقة لما يمثلونه من خطر على ليبيا والمنطقة.
معركة طرابلس على الرغم من عدم تحقيقها لأهدافها لكنها كشفت الخلل الداخلي في ليبيا. هو خلل الرضى بانخراط دولة مثل تركيا في صراع داخلي ليبي بما يمكن أن يمثل إشكالا كبيرا في المستقبل. وحتى في الوقت الذي بدأت المبادرات تطرح من أجل إنهاء الحرب والبدء في البحث عن مخرج سياسي كانت أنقرة توتّر الأجواء عبر مواصلة تحشيدها للمرتزقة والسلاح وعبر تصريحات قادتها المستفزة التي تعبّر عن نوايا الاستعمار والسيطرة خاصة من خلال تدريبها لمرتزقة أجانب ليكونوا رجال شرطة يفرضون قراراتهم على الشعب الليبي، وهذا جاء في تصريحات للناطق الرسمي باسم الجيش في آخر تصريحاته.