"شارع الصّرف" هكذا يُسمّيه أهالي مدينة بن قردان التّونسيّة الحدوديّة مع ليبيا في أقصى الجنوب الشّرقي للبلاد أو العابرين منها ،و هو الشّارع الأكبر في قلب المدينة و الطّريق الذي تمرّ منه كل السيارات الذّاهبة إلى أو القادمة من معبر راس جدير المنفذ الحدودي البرّي الأهم بين تونس و ليبيا ،في هذا الشّارع يوجد أكثر من 250 محلاً للصرافة و التجارة في العملة ،و رغم وجود 5 بنوك في نفس الشّارع فإنّ تلك المحلات الصّغيرة بأثاثها البسيط جدًّا تنفرد بكل العمليات الماليّة في الجهة و لا تترك للبنوك إلاّ التحويلات و المعاملات الرّسميّة و الحكوميّة ،و يقصدها الناس من كل جهات الجنوب الشّرقي لتحويل الأموال من العملات الأجنبية خاصة الجنيه الليبي و الدّولار الأمريكي و اليورو ،و تعتمد هذه السّوق أساسا على حركة عبور المسافرين الليبيين و التونسيين في الإتجاهين حيث القادم من ليبيا يتوقّف آليا في الشّارع لتصريف الجنيه و تحويله الى الدّينار التّونسي أو العكس .
و تتحدّث تقارير إعلاميّة عن أنّ حجم المعاملات الماليّة في "وول ستريت" بن قردان كما يسمّيه البعض تصل إلى قيمة 400 مليون دينار تونسي أي قرابة الــ250 مليون دولار أمريكي ،و عن هذا السّوق قال محافظ البنك المركزي التونسي في تصريح لوكالة الأنباء التونسيّة : " ليست لدينا أرقاما محددة حول حجم التعاملات في هذه السوق، ونعتقد أنها ليست كبيرة وليس لها تأثير على الاقتصاد، ثم أن’أسعار الصرف في هذه السوق هي نفسها السائدة في البنوك التونسية الرسمية".
و يشغّل السّوق الذي يمتد على طول أكثر من كيلومترين المئات من العاملين على مدار ال24 ساعة ،و فيه يجد الكثير من العاطلين عن العمل فرصة توفير مورد رزق ينتشلهم من البؤس و البطالة الذين تغرق فيهما المدينة و التي عمّقها أكثر غلق معبر راس جدير الذي يعدّ الشريان الرئيسي للحياة فيها .
سوق الصّرف كغبره من القطاعات تأثّرت كثيرا بأزمة معبر راس جدير ،بل لعلّ غلق هذا المنفذ الحدودي لا يمكن معاينة مدى تأثيره الإقتصادي إلاّ من خلال "وول ستريرت" بن قردان ،فهذا الشّارع الطّويل الذي يزدحم بالسيّارات و العابرين على مدى الــ24 ساعة و على مدى 7 أيام في الأسبوع ،تحوّل منذ شهر الى شارع ميّتٍ تمامًا ،تصطف على جوانبه المحلات المغلقة بأبوابها الصّغيرة المتشابهة و حتّى من فتح منها لم يأتي إلاّ ليطبخ الشّاي و يجلس على الكرسي و راء الطّاولة الحديديّة و تبادل أطراف الحديث مع العابرين ،بدل الجلوس في المقهى يقول أحدهم ،و هي العادة التي يبدو أنّها ستدخل حياة الكثير منهم إذا ما تواصلت أزمة معبر راس جدير نظرا لأن السواد الأعظم لا يتقنون مهنة أخرى غير هذه و منهم من عمل في هذا السوق منذ أكثر من ربع قرن .
مراد الشايبي (42 سنة) يشتغل في صرف العملة بهذا الشارع منذ سنوات ،وجدنا محلّه مفتوحا مع مجموعة لا تتجاوز الخمسة أو ستّ محلات أخرى تترصّد عابرا أو سيارة لم تأتي منذ أكثر من شهر ،تحدّث مراد لــ"بوابة إفريقيا الإخبارية" بالقول :"بن قردان مدينة لا يوجد فيها مواطن شغل و لا تنمية و لا معامل و لا مصانع ،فالدّولة ومنذ أكثر من 50 عاما أي منذ الإستقلال تركت المدينة مهمّشة فصارت المدينة معلّقة على معبر راس جدير و على التبادل التجاري مع ليبيا ،و هاهي أمامك الآن تراها متوقّفة تماما ،فالــ120 ألف أو الأكثر الذين يشتغلون عبر المعبر و في التجارة مع ليبيا هم الآن عبارة على من كان يعمل في مصنع و فجأة أغلق المصنع فوجد نفسه عاطلا و بدون بديل ،ثمّ إنّ العلاقات بين تونس و ليبيا قديمة جدًّا و لست جديدة و هناك علاقة قرابة و تصاهر متشابكة و ثمّة عائلات ليبية تعيش في بن قردان و العكس بالعكس ،غير أنّ الثّورات تقلب دائما الأوضاع و تأثّر جذريا على كلّ شيء فطيلة 23 سنة من حكم الرئيس بن علي لم نر الا التهميش و تركنا للمعبر كأنّه الوحيد الذي يمكن أن يعيل مدينة بحجم مدينة بن قردان ،في المرات السابقة كان المعبر يغلق يومين ثلاثة أو لا يتجاوز أسبوع ،هذه المرّة طالت المدّة و هاهي تتجاوز الشهر ،و أنا أؤكّد لك ليس هناك تهريب في بن قردان و أن قصة التهريب هي فزّاعة اختلقوها للتغطية على 'الروس الكبار' (الرؤوس الكبيرة) و نحن نعلم جيّدا أن يوجد التهريب فهو في مناطق أخرى في حلق الوادي و في رادس ،فالتهريب هنا لا يتجاوز قليلا من المازوط أو البنزين لتوفير فقط قوت اليوم " وفق تعبيره .
و عن تأثير غلق المعبر أضاف مراد :" بالنسبة لتأثير غلق المعبر ،ففي العادة كان يدخل يوميًا قرابة 3 ألاف أو 4 ألاف ليبي بعائلاتهم قادمين الى بن قردان أو جربة أو جرديس أو ذاهبين الى الشمال ،فمن الطبيعي أن تتأثّر بغلق المعبر كل القطاعات :سائقو سيارات الأجرة ،باعة الخضر ،المصحّات ،النّزل ،المقاهي المطاعم ،يعني كل القطاعات تأثّرت بغلق المعبر و نحن ككل القطاعات تأثّرنا كثيرا بذلك انظر الى الشارع الذي كان لا ينام ليلا و لا نهار ،كل الحوانيت المغلقة ،أزمة المعبر أثّرت كثيرا علينا و الوضع يزداد صعوبة يومًا بعد آخر ،و مازاد الوضع سوءا هو زيارة المهدي جمعة التي إتخذ من بن قردان 'قنطرة' فلم يتوقّف فيها بل "قفز' فوقها بالطائرة من جربة الى راس جدير مباشرة ،و كأنّنا لا نتبع تونس و هذا مازاد في حالة الإحتقان الشّعبي" على حدّ قوله .
و تحدّث مفتاح المعيان (43 سنة) صرّاف لـــ"بوابة إفريقيا الإخبارية" عن غلق المعبر و تأثيره على قطاع الصّرف و الوضع العام في المدينة قائلاً:"المعبر هو شريان الحياة لبن قردان و لولاية (محافظة) مدنين كاملة ،فبالنسبة لغلق المعبر فأوّل و أكبر متضرر هم نحن 'الصرّافة' فعملنا مرتبط مباشرة و بصفة عضوية بالمعبر ،لقد تأثّرنا كثيرا بغلق منفذ راس جدير ،فأنا شخصيا في الــ43 عام من عمري لم أشتغل شيئا غير الصّرف ،فهذا مصدر رزقي الوحيد و هذه هي المهنة الوحيدة التي مارستها و التي أتقنها و لا أستطيع في هذا العمر تعلم مهنة أخرى " مضيفا "الآن حاليًا 'الخدمة زيرو' (مردودية العمل تساوي صفر) و ها أنت ترى المحل أمامك مغلق ،نحن ندفع كراء المحلات 400 و 500 دينار من جيوبنا الخاصة ،لم نعد ندخل مليما واحدا منذ غلق المعبر ،نحن نطالب بفتح راس جدير في أقرب و قت ممكن كي لا تزداد الأمور سوءا ،فنحن نشتغل مع الطّرفين التونسي و الليبي ،و منذ شهر و حركة المرور متوقّفة تماما و عودة المعبر الى النشاط ستساهم في عودة النشاط الى المدينة و عودة الدّورة الاقتصادية و انتعاش كل قطاعات خاصة قطاع الصّرف" .
و في ذات السياق تحدّث عمّار حامد (56 سنة) صرّاف لــ"بوابة إفريقيا الإخباريّة" بالقول :"نحن مهمّشون في بن قردان و المنفذ الوحيد هو راس جدير" و في نظر عمار حامد فإنّ غلق المعبر ورائه زيارة رئيس الوزراء مهدي جمعة الأخيرة مصحوبا بوداد بوشماي رئيسة منظّمة الأعراف في تونس حسب رأيه ، و أضاف عمّار :"و نحن نلوم على السلطات التونسية التي لم تلتفت الى الجهة فلا الرئيس و لا رئيس الوزراء مرّا على المدينة و تحدّثا الى أهلها ،بل مرّا 'فوقها' بالطرائرة ،نحن ناس وطنيون لا ندخل السلاح و نرفض الإرهاب رغم أنّنا على الحدود و نحن من يحميها ،و مع ذلك لم نرى غير تهميش منذ بورقيبة الى بن علي ،و نحن في بنقردان من أشعل فتيل الثّورة منذ العام 2010 و بن قردان مع غيرها من المدن التونسية هي من سمحت لهؤلاء بالوصول الى السلطة بعد ان كانوا يعانون الاضطهاد في عهد بن علي ليتنكّروا لنا الآن و لتزداد المحسوبية و الفساد و ليزداد الفقير فقرا و الثري ثراء ،نحن نطالب بحق أبنائنا في التنمية و التغشيل في الوظيفة العمومية ،و بالنسبة لليبيا فنحن إخوان و علاقتنا تمتد الى عقود و لا يستطيع أن يقطعها لا الرئيس و لا رئيس الوزراء ،فأهلنا قبلنا اشتغلوا على الإبل و الحمير و عشنا و عاش معنا الليبيون ،و لا أحد يستطيع اغلاق معبر راس جدير و حتى ان اغلقوه فنحن نستطيع الإستغناء عنه و لو بالعمل مشيا على الأقدام ،،،نحن هنا أكثر من 70 بالمائة من اهالي المدينة يشتغلون في المعبر ،،،و أنا أسأل تونس ماذا قدّمت لنا ؟ لدينا 'عشرة موظفين' و البقية يشتغلون على ليبيا ،فليس لدينا لا صناعة و لا سياحة و لا فلاحة مصدرنا الوحيد هو المعبر و التجارة مع ليبيا ،و القطاع الصّرف هو أكثر القطاعات تأثّرا بغلق المعبر ،بل و ينعكس على غيرها فعندما لا يشتغل المحل فانا لن أقدر على توظيف عامل في البناء أو الفلاحة ،فكلها مرتبطة ببعضها و تتأثّر ببعضها البعض" على حسب تعبيره .
معظم المحلات مغلقة هنا في "وول ستريت" بن قردان و شبح الأزمة يتراءى في وجوه من تجمّعوا في أحد المحلات يشربون الشاي و يتحدّثون بصوت مسموع و عالي عن أزمة المدينة ،كلّهم متّفقون على أمرين :فتح المعبر ضروري للتنفيس على حالة الإحتقان مع إيجاد بدائل تنموية حقيقية تنهض بالمدينة و لا تتركها تحت رحمة هذا المعبر و مزاجيّة آمر كتيبة أو ضبابية غير واضحة تميّز المشهد السياسي في البلدين ،،و ثالث أنّ هذه الحالة من الإحتقان الشّعبي لو تواصلت فتصل الى نقطة يصعب الرجوع منها .