مع نهاية العام 2011، وسقوط نظام العقيد معمّر دخلت ليبيا حالة من الفوضى والانفلات الأمني بسبب انتشار السلاح والميليشيات المسلحة، والانهيار الكامل لكافة مؤسسات الدّولة. وضعٌ زاده تعقيدًا انتشار كبير للجماعات الجهاديّة في كافة مناطق البلاد وسيطرتها على الكثير من المقار الحكومية، وأخطرها المراكز الأمنية والثكنات العسكريّة.
دخلت ليبيا منذ ذلك العام دوّامة عاصفة من تسلّط الميليشيات الجهاديّة، وبرز على السّطح شخصيات متطرفة، كانت تصنّف على أنها إرهابية بحكم انتمائها لمنظمات محظورة محليًا ودوليًا كالقاعدة وغيرها. وبحكم فكرها التفكيري الدّموي وتاريخها القتالي في الكثير من بؤر التوتّر.
كان حرب العام 2011 في ليبيا، مصبًا حقيقيا للجهاديين من كافة أصقاع العالم، واستمر الوضع كما هو عليه حتى ظهر بعد سنوات تنظيم داعش متخذا من البلاد أحد أهم مجالات نفوذه وتمركزاته الإستراتجية. وحين بدأ العالم يفيق على كابوس حقيقي مغروس في الضفة الجنوبية للمتوسّط.
المئات خرجوا من السجون والعشرات عادوا من بؤر جهاديّة في الخارج. وبعضهم انتكس عن مراجعاته القديمة مع النظام الليبي وعاد لجلابيبه العتيقة وللكلاشينكوف والمفخخات وبث خطابات التكفير والقتل.
كان الملف الليبي نهاية العام 2011، يبحث عن قفلة ورديّة تنصّع شعارات الحريّة والدّيمقراطيّة الموعودة، والعالم يصمّ آذانه عن أصوات التطرّف العالية والواضحة للجميع. كانت كلّ الأطراف المتداخلة في توقيعها على بيان النّصر المعمّد بطائرات الناتو، وفي نشوة إسقاط النظام الليبي والرّجل القوي معمّر القذّافي، يزيح هذه الظاهرة الى خارج دوائر الضوء بتناسيها حينًا وبإنكارها في أحيانٍ كثيرة.
انتصرت "الثورة" وفرح الحلفاء الجدد بنصرهم على ركام الدّولة. ولم يكن لدى المجلس الوطني الانتقالي الذي تولى السلطة في البلاد -بشكل انتقالي- أي خطّة واضحة وناجعة لمعالجة أي مشكلة من هذه المشاكل في بلد انهارت كل مؤسساته الأمنية والعسكريّة والسياسيّة.
المجتمع الدّولي الذّي كان له (عبر التحالف العسكري) الدّور الأكبر في إسقاط نظام العقيد معمّر القذّافي، لم يكن لديه هو الآخر أي مشروع واضح، وخاصة موحّد، لإعادة بناء مؤسسات الدّولة في ليبيا، وجمع السلاح وتجميع الميليشيات وعناصرها في جسم عسكري موحد ورسمي.
هذه المشكلة الأمنيّة في ليبيا، أي انتشار السلاح والميليشيات، وخاصة العناصر المتطرفة والإرهابية، هي المعظلة الأساسية في البلاد منذ العام 2011. وتعدّ السبب الرئيسي والمصدر الأوّل للاضطراب السياسي وعدم الاستقرار وانقسام الدّولة وعجزها عن إعادة إنتاج مؤسساتها بشكل موحّد ومركزي.
هذه العناصر وميليشياتها كانت له اليد الطولي في كافة الأحداث التي مرت على البلاد، منذ سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي وكانت هي الصانعة الفعلية للمشهد الليبي. فالميلشيات التي توزعّت في مئات الكتائب المسلحة والتي ورثت ملايين القطع العسكرية من الحرب الأهلية في العام 2011، ورثت كذلك شبكة من المصالح والمنافع والمواقع (سياسيا وعسكريا واقتصاديا) الواسعة التي يصعب إزاحتها عنها. الشيء الذي يعطّل كثيرًا أي مشروع لإعادة بناء الدّولة ومؤسساتها.
شخصيات مثل عبد الحكيم بالحاج، الذي وضعته الجزيرة القطرية في صدارة المشهد، مع إسقاط طرابلس، ونحتت له صورة الفاتح الجديد والرّجل القوي الجديد الثائر في ليبيا، لم يلبث رغم الجّهد الإعلامي والدعائي الكبير أن وجد نفسه في نهاية هذا المسلسل المحلي الدّامي جدًا، على قوائم الإرهاب المحليّة.
علي الصلاّبي الذي يلقّب بـ"قرضاوي ليبيا" كان نجمًا آخر من نجوم الدعاية الإخوانية والجهاديّة عبر منابرها الإعلاميّة القطريّة والتركيّة. يبحثُ عن مواقعه الجديد في الزّمن الثّوري الجديد وهو يردمُ تاريخه السياسي بنكران متحايل عن دوره في مشروع ليبيا الغد وعلاقته بسيف الإسلام القذّافي.
الصّادق الغرياني، الذي يبدو الأكثر تشنّجًا، وهو الذي يستولي على منصب الإفتاء في دولة بلا مناصب واضحة. يخلط الدّين بالسياسة ويرشّ جرعات عالية من التكفير وفتاوي القتل والحرب والدّمار. وحيثما وجدت حربٌ في ليبيا، كانت الغرياني بفتاويه المسيسة حاضرًا في صدارة المشهد ليصب مزيدًا من البنزين على نار -بطبيعتها حارقة-.
من يتابع المشهد في ليبيا منذ العام 2011 وخاصة منذ العام 2014، لا يغيب عن ناظره مشهد صلاح بادي، وهو يصيح فرحًا بإحراق مطار طرابلس العالمي، مكبّرًا ومردّدًا شعارات النّصر.. وأيّ نصر!
شعبان هديّة وسامي الساعدي، كما عبد الحكيم، يذكّرون الجميع -بإسم الثورة والإسلام- أنّ تاريخ قاعدة والمنظمات الجهاديّة، مازال ينكّه المشهد الليبي بحموضة عالية.
هذه بعض الوجوه التي تراها واضحة من خلف دخّان المشهد الليبي المحترق في أزماته المتناسلة.