ليس غريباً ولا عجيباً، بل هذا ما كان متوقعاً، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقررة في 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، استعرت الحملات المغرضة التي تتهدد وتتوعد، ودعت إلى مقاطعة الانتخابات، وكثرت التحليلات والتعليلات... وفي هذا السياق أعلن مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية التابعة للمفتي المعزول الصادق الغرياني، "إنّ الانتخابات المقبلة مزورة ومحرمة شرعاً ويجب منع إجرائها". وأقل ما يمكن الرد به على البيان الصادر عن مجلس البحوث والدراسات الشرعية، أنّ دار الإفتاء الليبية، بارعة في تلهيةِ الشعب الليبي، تجيد المعاركَ الوهمية عندما تتلقى الأوامر من جماعة الإخوان المسلمين بالداخل أو الخارج، والداني والقاصي يعرف أنّ الشعب الليبي يعاني العوز الاقتصادي و الخدمي... ولكن لم تتحرك دار الإفتاء ولو بأضعف الإيمان للدفاع عنه، لكن عندما أمرَهَا ولاةَ أمرهِا بالهجوم على الانتخابات والمرشحين الذين لا يدينون بالولاء للجماعة، كانوا بمثابة "حراس الهيكل" يظنونَ أن الله لم يهدِ سواهم، لكن ما يقاسيه ويعانيه ويعيشهُ الشعب الليبي... فمن وجهة نظرهم قضاء، والخنوعَ قضاء.
وارتباطاً بذات الموضوع، وسيراً على نهج مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، فقد قال نائب رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي عمر بوشاح، السبت 04/12/2021، إن المجلس يرفض إجراء الانتخابات الرئاسية، بسبب الظروف التي تمر بها ليبيا. وأضاف في تصريح لهيئة الإذاعة البربطانية "بي بي سي"، أن "إجراء الانتخابات الرئاسية دون دستور يدفع ليبيا نحو خطر كبير“، مضيفا أن هذه الانتخابات ”ستسير بليبيا إلى طريق ملغّم". وشدد نائب رئيس مجلس الدولة الليبي، على أن هذه الانتخابات "أُسّست على قوانين باطلة وغير دستورية"، معتبرا أن ما يحدث في ليبيا "سابقة لم تحدث من قبل في العالم". و في تبادل للأدوار فقد سبق أن دعا مؤخراً رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، إلى مقاطعة الانتخابات المرتقبة، وهدد باللجوء إلى ما أسماه "حراك الشارع المدني" و إلى إقامة اعتصامات أمام مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات. وقال المشري، خلال اجتماع وزارة الحكم المحلي مع مسؤولين وعمداء بلديات في طرابلس "ندعو إلى عدم المشاركة في الانتخابات المقبلة، لا ناخبين ولا مرشحين، وندعو إلى اعتصامات أمام مقر المفوضية والبعثة الأممية ومقرات الحكومة ومجلسي الدولة والنواب وفي الميادين لرفض الانتخابات". وتوعد المشري بما وصفه "بركان الغضب"، احتجاجا على قوانين الانتخابات التي وصفها بـ" المعيبة"، وذلك في إشارة إلى التعديلات التي قدمتها المفوضية العليا للانتخابات وصادق عليها البرلمان الليبي في الآونة الأخيرة.
ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، وهي تعيش في زمن الفتن والادعاء اللامتناهي، والفتاوى المرعبة للقاصي والداني، ومازال جلد المواطن مستمراً بالتجريم والتحريم، تتوالى عليه الفتاوى والمفتون... مستويات الانحطاط الذي وصلت إليه بيانات الفتاوى التي تصدرها دار الإفتاء الليبية، ومن يدعون أنهم يتبعون السّلف الصالح، باتت مستويات غير مسبوقة وتسيء للإسلام والمسلمين أضعافاً مضاعفة من الإساءات التي يتعرض لها الإسلام حتى من أعدائه، وإنّ أكثر ما يؤلم ليس محاولات التشويه التي لن تجد طريقاً إلّا لدى من يُقيمون في الجاهلية الأولى، بل الأشدّ إيلاماً هو تسخير دار الإفتاء لإصدار فتاوى لا يقبلها عقلٌ ولا شرعٌ خدمة للسياسة الإخوانية التي لا تحمل غير معاول الهدم. ولعل في مسيرة ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، أكثر النماذج دلالة على "مأساة العلماء" وعلاقتهم بمزيج الدين/السياسة المسبب للحرائق. ولنفكر قليلا في سؤال بسيط: هل كان يمكن لجماعة الإخوان المسلمون ومستنسخاتها، أن تجند الآلاف من بلدان مختلفة ليأتوا إلى ليبيا لو لم يكن هناك "علماء" شرعوا ذلك وهيأوه تدينا وإيمانا لفتية تم التغرير بهم أو دفعتهم ظروف أخرى إلى الضلال؟ لا بد وأن تقود الإجابة عن السؤال إلى التفصيل في مأساة العلماء الذين راهن عليهم الكل ليكتشفوا أنهم جزء من المشكلة وليس الحل.
لدار الإفتاء الليبية أو غيرها، نقول بأن ثمّة فرق بين العمل الإسلامي الدَّعوي العلمي والعمل السياسي "الإسلامي"، كالذي تقوم به جماعة "الإخوان المسلمين" في ليبيا... والإسلام لا يمنعكم من ممارسة السياسة، لكنه يُلزمكم باستشارة أهل العلم والذكر عن كل ما تريدون نسبته إلى الإسلام من أقوال وأفعال، وممّا يجب قوله أيضاً هنا: ألا تخلطوا بين مصطلحاتكم المولّدة ومصطلحات الإسلام الأصيلة الثابتة، فالاهتمام بأمر الليبيين، على سبيل المثال، ليس هو عين السياسة أو ذاتها، والتظاهر، مهما كان نوعه، ليس هو كلّ الحسبة، أو التجلي الأهمّ لها وهكذا. وعلى كلّ، نحن لا ننهاكم عن أصل العمل، بل ندعوكم إليه لتمارسوه بأناقة وعفّة وحكمة وعدل وأمان، كما أنّنا نطلب منكم ألا تدّعوا أنكم تمثّلون الإسلام كلّه، وأنكم بديل مشروع عن الليبيين وعن سواهم، بل أنتم للعمل السياسي فحسب.
الثابت والمؤكد لدينا، أنّ شيوخ دار الإفتاء الليبية، لا يمثلون وجهة نظر شرعية مؤيدة بحكم شرعي، بل يؤدّون دوراً مطلوباً منهم، فمهمتهم التي أوكلت إليهم من قبل تركيا والتنظيم الدولي للأخوان المسلمين، هي بث الفرقة بين الليبيين وإثارة عوامل الفتنة والصراع الدموي بين أبناء ليبيا، وقد نجحت قبلهم جماعة ''الصلابي'' في أداء تلك المهمة في ليبيا بشكل باهر، حيث إنّهم أشعلوا حرباً أهلية طاحنة في ليبيا، قضت على الاستقرار والقانون وعلى العدالة فيها. ففتاوى دار الإفتاء الليبية، خارجة على كل الضوابط الشرعية، فقد ابتعدوا عن المنهج الوسطي الذي دعا إليه الإسلام الحنيف، بسبب عدم المعرفة وقلة العلم، وسوء الفهم وضيق الأفق وتضخيم الخلافات، وسوء الظن وقلة الاعتذار للمخالف، وضعف استشعار نتائج التفرق والبغي وحب الظهور، وكلها أسباب إن اجتمعت في شخص فلا يصلح بحال أن يطلق عليه داعية، بل هو مصيبة لأن هذه الصفات إن وجدت في شخص فهي تؤدي إلى إنتاج خطاب تفريق وكراهية، بل يؤدي إلى أمر خطير وهو التفرق في الدين، مع أن دار الإفتاء الليبية يعلمون أن الدين الإسلامي ما أتى إلا ليجمع الأمة على الحق.
فالإسلام دين اتفاق وائتلاف، لا تفرق واختلاف يقول تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). ولا شك أن جمع الكلمة والاعتصام بحبل الله من أهم مقاصد الشريعة يقول سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، ويقول سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ)، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الاعتصام بحبل الله، كما قال في الحديث الشريف إن الله يرضى لكم ثلاث ويكره لكم ثلاث، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه إلا أن يرجع)، و(يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار)،
وهنا نسأل: أين قيمة وقوة الإفتاء عند دار الإفتاء الليبية؟ هل منحصرة، في الخلاف والاختلاف مع الأئمة والمفتين المنتشرين في ليبيا؟ أين دراسات الواقع وتقلباته وأحوال الناس، وكيف حال المسلمين والمجتمعات والأمة؟ لماذا لم يُدعَوا إلى المشاركة في بناء الفكر الديني؟! وإني حقيقة لأدعو دار الإفتاء الليبية، لتحويل علوم الفقه والشريعة، لخدمة الإنسان الليبي، والإنسانية بشكل عام، وتوجيه المجتمع الليبي لتطوير ذاته، بالاشتغال بالعلم والمعرفة، والانطلاق من الحاضر إلى المستقبل، بعيداً عن تشدد الماضي، لا ضير من الاستفادة من لغته المسكونة في الاعتدال والوسطية القابلة لاستيعاب الأفكار الجديدة، وأقصد الإيجابية والمفيدة بغاية مواكبة المجتمعات، لا الابتعاد عنها، والانحصار مرة ثانية وثالثة في أفكار الماضي. تقتضي الضرورة، أن نربط مضمون الجوهر المتعلق بالإيمان، بربطه مع الإيمان بالمظهر، الذي يدعو للإعمار في الأرض والإنسان، بعد أن غدا "فقهاء" دار الإفتاء الليبية منشغلين بتحريم وتكفير من يريدون، متعلقين بلغة الماضي أكثر من زمن الماضي، الذي ظهر به الإسلام، يحلمون بعودة سيادته، يستندون إلى فتاوى الماضويين، لم يحاولوا حتى اللحظة فتح أبواب الحياة، وهنا يصحّ القول: بأن تغيروا وتدعوا إلى الانفتاح، فتح النوافذ والأبواب، والتطلع علمياً ومعرفياً، كما فعلت الكنيسة، التي اشتغلت باللاهوت، وتعلقت به كثيراً، إلى أن استوعبت، أن تحويله لخدمة البشرية، يمنحها حقيقة وجودها. ونحن نأمل ممّن يعمل في ميدان العمل السياسي أن يجرد عنوان حزبه من كلمة "الإسلام" حرصاً على تثبيت ثوابت الدين في أذهان المسلمين، لأنّ مفردات العمل السياسي متغيّرة ومتقلبة، وما كان يصلح منها في الماضي قد لا يصلح في الحاضر. فاللهم وفقنا لإتقان أعمال مشروعة وُكِلت إلينا، وخذ بأيدينا إلى ما يرضيك عنّا جميعاً.
كاتب صحفي المغرب.