لا تتوقف الأطماع الأردوغانية عند حد معين، فقد كان من منفذي ومدبري العدوان الكبير المعروف بالربيع العربي ظناً منه أنه سيكون قادراً على استعادة الإمبراطورية العثمانية المفقودة، فيعيد أمجاد بني عثمان في السيطرة على مناطق الوطن العربي بأكملها، وهكذا بدا التعاون القذر مع حركة الإخوان المسلمين في مصر أيام محمد مرسي، حيث تم تصعيد العدوان إلى أبعد حد، وتم وضع مخططات السيطرة على ليبيا وتونس وصولاً إلى الجزائر والمغرب العربي بأكمله...

وبالتوازي مع طموح أردوغان لإحياء أمجاد السلطنة العثمانية في المنطقة، والسعي الدؤوب على تكثيف نشاطه السياسي والاقتصادي في مختلف دول المغرب العربي، يعمل النظام التركي بقوة على تحويل حضوره العسكري في ليبيا إلى وجود سياسي مؤثر في كل تسوية ما بين الأطراف المتصارعة على السلطة، ويرى في هذا الحضور استئنافاً لدوره الذي انقطع سنوات بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية البائدة في بدايات القرن العشرين. من هنا نجد أن النظام التركي يصر على  أن يكون له دور كبير وحاسم في رسم معالم مستقبل ليبيا كدولة، ويدعم جماعات الإسلام السياسي في تونس، وتهميش المجتمع الأهلي والنخب التونسية التي تملك مخططات وأجندات تتمسك بقوة بمشاريع الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي. أما بالنسبة لموريتانيا، فإنه يتعامل معها في سياق إستراتيجيته المرتبطة بالانتشار الاقتصادي في غرب أفريقيا.

إن قراءة في سياق ومضمون الجدل المحتدم في البلدان المغاربية، حول الدور التركي، قد تسلط بعض الأضواء على خلفيات الدور التركي الذي يبدو أنه يخرج عن الطابع الناعم المعتاد أن تلعبه القوى الاقتصادية المؤثرة بالمنطقة، سواء التقليدية مثل أوروبا والولايات المتحدة أو حتى القوى التي دخلت على خط صراع النفوذ الاقتصادي وفي صدارتها الصين. والواقع أن تركيا تسعى إلى حشدِ الدعم السياسي في القارة الأفريقية، فقد أعاد أردوغان، الذي يشعر بخيبة أمل من إحجام الاتحاد الأوروبي عن دمج تركيا في صفوفه، توجيه ديبلوماسية بلاده نحو المغرب العربي لتوسيع نفوذ تركيا في البحر الأبيض المتوسط... 

لقد سعى النظام التركي خلال العقود الماضية إلى التأثير في المشهد المغاربي، وتسميم العلاقات المغاربية ـ الأوروبية، وعمد إلى دعم الإرهابيين في ليبيا واستثمار الفوضى لمنافسة الطرف الأوروبي في نفوذه التقليدي في المنطقة، ومنذ اندلاع الاحتجاجات والأحداث الدامية التي أطلق عليها "الربيع العربي"، عمل النظام التركي على توظيف علاقاته الوثيقة مع الأحزاب الدينية، وتحديداً قوى الإسلام السياسي المتطرفة، بهدف التأثير في الأوضاع السياسية بالدول المغاربية. وحتى الآن يتواصل السعي التركي المحموم في المنطقة بموازاة محاولات نظام أردوغان فرض نفسه كلاعب أساسي في شرق البحر الأبيض المتوسط للحصول على امتيازات كبرى متعلقة بمشاريع الغاز، حتى وإن دعا الأمر للاعتداء السافر على حقوق جيرانه.


إن الكثير من المراقبين يرون أن تركيا تريد السيطرة على ثروات شرق المتوسط، وإعادة بناء قواعد الشراكة الأوروبية المتوسطية في مجال الطاقة، التي جرت محاولات عدة لترسيخها وتثبيتها ابتداءً من قمة برشلونة عام 1995، وهي الشراكة التي سعى الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى إعطائها بعداً سياسياً أكبر من خلال إطلاقه مشروع الاتحاد من أجل المتوسط. والمعروف أن هذا التعاون يستند في جزء كبير منه على دول المغرب العربي وبخاصة الجزائر وليبيا، اللتين تمتلكان احتياطات ضخمة جداً من الطاقة، لا سيما بعد أن تمكنت أنابيب الغاز الجزائري أن تربط المغرب العربي بدول أوروبا على الرغم من الخلافات السياسية الحادة بين دول المنطقة، وهو ما يبدو  واضحاً وصريحاً من خلال أنبوبي الغاز اللذين يربطان بين إيطاليا والجزائر عبر الأراضي التونسية، وبين إسبانيا والجزائر عبر الأراضي المغربية. ما يعنيه هذا الكلام أن نظام أروغان يسعى إلى منافسة دول الاتحاد الأوروبي على مناطق النفوذ في أفريقيا، وباعتبار أن دول المغرب العربي هي البوابة الرئيسية فإن التدخل فيها يمكّنه من الحصول على مكاسب جيوسياسية في المواجهة مع دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، ومع جمهورية فرنسا بشكل خاص من منطلق أن الدول المغاربية الخمسة الجزائر، والمغرب، وتونس، وليبيا، وموريتانيا تشكل في مجملها المجال الحيوي بالنسبة للجغرافيا السياسية الفرنسية. 

تركيا تقتنص فرص الاستثمار ببلدان المغرب العربي، حيث تمثل الورقة الاقتصادية أهم أشكال النفوذ الناعم التي تعتمدها أنقرة في علاقاتها الخارجية، ويعتبر عام 2004 مفصليا في علاقات تركيا الاقتصادية بالبلدان المغاربية، حيث وقعت خلاله أنقرة اتفاقيات تبادل تجاري حر مع كل من المغرب وتونس، وبعد ذلك عززت حضورها الاقتصادي مع الجزائر وليبيا وموريتانيا. تقع دول المغرب العربي على مفترق طرق أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وجنوب أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وقد ركّزت أنقرة على توسيع نطاق وصولها للنهوض بأهدافها الاقتصادية والعسكرية وفي مجال الطاقة، والتي تُشكّل كلها أركاناً أساسية لدورٍ أكبر في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، عندما يتعلّق الأمر بأجندتها الاقتصادية، تنظر تركيا إلى المنطقة المغاربية كنقطةِ دخولٍ إلى أسواق أفريقية جديدة، بدءاً من دول الساحل، زادت الاستثمارات التركية بشكل مطرد في أفريقيا، حيث قُدِّرت تجارة تركيا مع القارة السمراء بنحو 25.3 مليار دولار في العام 2020. 

وبحكم موقعها الجغرافي السياسي الذي يجعلها بمثابة مركز لوجستي لملف أفريقيا التركي، فالتجارة مع الجزائر هي الأهم بين البلدان الثلاثة، حيث تعد الجزائر ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا في أفريقيا بعد مصر، حيث بلغت التبادلات الثنائية 4.2 مليارات دولار في العام 2020. تركيا، التي استثمرت 3.5 مليارات دولار في الجزائر، أصبحت أيضاً المستثمر الأجنبي الرائد خارج قطاع الهيدروكربونات، مُتجاوزةً فرنسا، كما أنها موجودة في قطاعات البناء والمنسوجات والصلب والغذاء والطاقة، وتعمل أكثر من 1200 شركة تركية في الجزائر، وتوظّف أكثر من 10.000 شخص. وعندما يتعلق الأمر بقطاع الطاقة، فإن لدى تركيا أيضاً مصالح كبيرة في الجزائر، التي تمثل رابع أكبر مُورِّد للغاز لأنقرة. مدّدت شركة سوناطراك الجزائرية المملوكة للدولة والمؤسسة التركية لأنابيب البترول حتى العام 2024 اتفاقية للغاز الطبيعي ستزوّد الجزائر بموجبها 5.4 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً إلى تركيا. وتعمل سوناطراك أيضاً مع شركة "رونيسانس هولدنغ" (Rönesans Holding) على بناء مجمع بتروكيماويات في جيهان، في مقاطعة أضنة جنوب تركيا. تبلغ قيمة الاستثمار 1.2 مليار دولار.

أما في ليبيا المجاورة، موطن أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا، فتركيا عينها على التنقيب في كتل (بلوكات) الطاقة البرية والبحرية، وفي أيلول الماضي، أجرى المسؤولون الأتراك محادثات مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية حول توليد الطاقة وتشغيل خطوط الأنابيب. في الآونة الأخيرة، في 12 نيسان الماضي، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وتعهّد الجانبان بتعزيز تعاونهما في قطاعَي النفط والغاز، ولا يبدو الدور التركي في ليبيا بدون ثمن اقتصادي، فتركيا تراهن على دعم حكومة عبد الحميد الدبيبة، لتأمين مصالحها من سوق الطاقة الليبية والتي عززتها بالاتفاق الأمني والبحري المثير للجدل والغضب لدى عواصم أوروبية وعربية وعلى رأسها القاهرة. كما يؤدي اكتساح تركيا للسوق المحلية الليبية، إلى أضرار بليغة بالاقتصاد التونسي، بحسب خبراء تونسيين يحذرون من تراجع غير مسبوق في المبادلات التجارية مع ليبيا، ليس فقط بسبب ظروف الحرب بالبلد الجار، بل أيضا بفعل غزو المنتوجات التركية التي باتت تهيمن على 80 في المائة من البضائع في الأسواق الليبية، وتراجعت مبادلات تونس مع ليبيا بنسبة 50 في المائة خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة في تونس وسقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي.

بالنسبة للمغرب، اكتسبت التجارة الثنائية مع تركيا زخماً بعد اتفاقية التجارة الحرة في 2006، إذ وصلت إلى أكثر من2.7 مليار دولارفي عام 2018. وزاد عدد الشركات التركية التي فازت بمناقصات البنية التحتية في المغرب في السنوات الماضية، ليصبح عدد الشركات التركية العاملة حالياً في المغرب 150 شركة تعمل في قطاعات مختلفة؛ منها البناء وتجارة الجملة والمنسوجات والأثاث والحديد والصلب. ونمت مؤخراً استثمارات المنسوجات التركية في المغرب. إضافة إلى ذلك، بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع التي نفذتها شركات المقاولات التركية في المغرب4.1 مليار دولار. ووصلت قيمة استثمارات الشركات التركية في المغرب إلى نحو 400 مليون دولار حتى عام 2019، ويعمل في الشركات التركية نحو 8000 مغربي. بيد أن العلاقات الاقتصادية تأثرت في عام 2019 بعدما طلبت الحكومة المغربية إعادة تقييم اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، إثر تسجيل البلاد عجزاً تجارياً قدره 1.9 مليار دولار، وبعد صراع لي أذرع بين أنقرة والرباط، وتحت وطأة تهديدات مغربية بإلغاء اتفاقية التبادل الحر وإغلاق بعض المؤسسات التركية، اضطرت تركيا إلى قبول مطالب المغرب المتمثلة بمراجعة الاتفاقية.

وعلى نفس المنوال، أصبحت تونس شريكاً لتركيا، ففي كانون الأول (ديسمبر) 2020، على سبيل المثال، وقّعت تونس وتركيا اتفاقية عسكرية عرضت بموجبها تركيا على تونس قروضاً بدون فوائد بقيمة 150 مليون دولار لشراء معدّات عسكرية تركية. كما تضمنت الاتفاقية التعاون في قطاع الصناعة العسكرية، وخلق منصّات مشتركة للبحث والتطوير وإنتاج قطع الغيار والتصدير المُشترَك للمواد العسكرية، وتأمل تركيا أن يسمح هذا التعاون لأنقرة مع تونس، بإنشاء قاعدة صناعية صلبة في تونس لتصدير عتادها العسكري في جميع أنحاء المغرب العربي وأفريقيا. وتُظهر التطورات كيف ترتبط سياسة أنقرة العسكرية بهدفها الأوسع المُتمثّل في توسيع نفوذها الإقليمي، إن استراتيجية تركيا طويلة المدى هي الهيمنة على سوق السلاح الأفريقية. فبعد أن فتحت 37 مكتباً عسكرياً في أفريقيا، فإن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تتمتع بهذا العدد الكبير من هذه المكاتب في القارة. في السنوات الثلاث الماضية، أبرمت أيضاً اتفاقات عسكرية مع تشاد (2019) والنيجر (2020) والصومال (2021)، وتتطلع الآن إلى أسواق أفريقية أخرى لمزيد من التعاون العسكري.

علينا أن نعترف، أنّ سياسة الاختراق الاستراتيجي التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المنطقة المغاربية، تجري منذ سنوات، لهذا تظهر بشكل واضح خلفيات النفور لدى الطبقة السياسية المغاربية وخصوصا منها الليبرالية واليسارية من عودة النفوذ العثماني في ثوب جديد، وهم يرون في خصومهم الإسلاميين بمثابة "الطابور الخامس" للسلطان أردوغان، فقد انكشف الدور الأخواني السياسي متلطيا بشعارات، لكن المؤكد أنه مجرد وصفة أيديولوجية للتبعية والارتهان للخارج، الأطلسي والعثماني الجديد، وتجلي للحقيقة الساطعة، أن الأطماع الأردوغانية في المنطقة المغاربية، مطعّمة بالنزعات الطورانية، تتجاوز الحدود الجغرافية لتنسحب على التراث الروحي والثقافي والعقائدي والديني المغاربي، والزعيم التركي رجب طيب أردوغان يحب الترويج لبلاده كقوة إقليمية عُظمى ذات إرث إسلامي يمتد حضورها عبر القارات، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الشعار، فقد تم إحراز تقدم محدود بهذا الخصوص، ولم تتم كتابة المرحلة التالية من الاستراتيجية التركية في البلدان المغاربية بعد. 

لقد بات هناك ما يشبه الانطباع بأن الأطماع التركية في دول المغرب العربي، آيلة للفشل بفعل التطورات السريعة التي تشهدها المنطقة، لذلك لابد أن يرتد هذا الفشل في ذات المنطقة الجيوسياسية لخارطة الأطماع، وتركيا اليوم تقترب بسبب سياسات أردوغان الاخوانية التوسعية، من عزلة مغاربية ودولية، ولذلك بات من الممكن إعادة الظاهرة الأردوغانية إلى حجمها الطبيعي من خلال الخروج المغاربي من حالة انعدام الوزن، وإذا ما أردنا أن نلخص ما تسبب به أردوغان من أضرار لبلاده فحسب، فلن نجد أوضح مما قاله نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي اوزكور أوزال "بأن سياسات أردوغان باتت تهدد المصالح القومية التركية لأنها دفعت العديد من دول العالم لمعاداة تركيا التي باتت تعاني الكثير من المشاكل الأمنية والاقتصادية والمالية بسبب هذه العداوات".