راوية توفيقفى الرابع عشر من يناير الماضى، كان عبدالرحمن، الذى يبلغ من العمر اثنى عشر عاما، يحاول الهروب مع عائلته من جحيم المجازر فى أفريقيا الوسطى إلى الكاميرون حينما أوقفت ميليشيات مسلحة شاحنته التى كانت تحمل عددا من المسافرين والبضائع. أمر المسلحون جميع المسلمين فى الشاحنة بالنزول واقتادوهم إلى أحد مساجد مدينة بويالى فى شمال غرب العاصمة بانجى، حيث تم تجريدهم من ملابسهم وقتلهم وتعليق جثثهم على أبواب المسجد. لم ينجُ من أفراد الأسرة التسعة سوى عبدالرحمن الذى استطاع الهروب إلى قرية مسيحية مجاورة تولى أهلها حمايته إلى أن عاد لقريته ومنها إلى مخيمات اللاجئين فى تشاد.ليست هذه القصة التى يرصدها أحد تقارير منظمة العفو الدولية حول الصراع الدائر حاليا فى أفريقيا الوسطى استثناء، فهناك عشرات من القصص المشابهة لمدنيين مسلمين من النساء والشيوخ والأطفال تعرضوا للقتل على يد جماعات مسلحة فى العاصمة بانجى، وفى عدد من القرى شمال غرب العاصمة. خلال الشهرين الماضيين ذبحت عائلات كاملة فى منازلهم، أو فى دور العبادة أو منازل جيرانهم المسيحيين التى لجأوا إليها هربا من عمليات الانتقام الجماعى. وصل نطاق هذه العمليات إلى ما وصفته منظمة العفو الدولية، بالإبادة الجماعية والتهجير الكامل للمسلمين إلى الدول المجاورة.

قد لا تكون تلك المشاهد جديدة على القارة الأفريقية، بل أنها ليست جديدة على أفريقيا الوسطى ذاتها التى عانت من سلسلة متتالية من الانقلابات العسكرية منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسى عام 1960، ومن المواجهات المسلحة بين الجيش المدعوم من القوات الفرنسية والمعارضة خلال العقد الماضى. وقد نسب للقوات الحكومية خلال هذه المواجهات التى دارت فى مناطق المسلمين بالشمال المهمش سياسيا وتنمويا العديد من الانتهاكات. هذا الصراع القديم المتجدد هو نموذج لموت السياسة وفشل آلياتها التفاوضية، والعودة إلى الاحتكام إلى السلاح لفرض واقع يسيطر فيه طرف على حساب طرف آخر. وهو كذلك مثال على لجوء الأنظمة الفاشلة لورقة التعبئة الطائفية والحرب المزعومة على «الجماعات الإسلامية المتطرفة»، وهو العنصر الجديد نسبيا فى الصراع، لدعم شرعيتها الهشة. فبدايات الأزمة الحالية ترجع إلى سبتمبر عام 2012 حينما بدأ تحالف من الجماعات المسلحة المنتمية إلى الشمال المسلم، والمعارضة لنظام الرئيس فرانسوا بوزيزى، تصعيدا ضد النظام متهما إياه بعدم احترام تعهداته التى وقع عليها فى اتفاقية السلام الشامل بين الطرفين عام 2008. ورغم زعم الحكومة وبعض مواليها أن بعض حركات المعارضة المسلحة تريد أن تفرض أجندة إسلامية على الدولة، فإن الاتفاق الذى وافقت عليه هذه الحركات لم يتضمن سوى المشاركة فى إدارة شئون البلاد والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية المبنية على حوار سياسى شامل يؤدى إلى تحقيق إصلاحات مؤسسية، خاصة فى الأجهزة الأمنية. ومنذ توقيع الاتفاق لم يغير بوزيزى من توجهه لاحتكار السلطة، واستغلال الأجهزة الأمنية لصالحه، وعدم استيعاب العناصر المسلحة داخل هذه الأجهزة، مما أدى إلى تصاعد التوتر من جديد. ومع سحب تشاد لدعمها العسكرى للرئيس بوزيزى فى سبتمبر 2012، بدت الظروف سانحة لعودة الجماعات المعارضة لتحقق بالسلاح ما لم تستطع تحقيقه بالتفاوض.

وقد قابل بوزيزى، الذى وصل بدوره إلى الحكم عبر انقلاب عسكرى عام 2003، تصعيد الجماعات المعارضة بوصمها بـ«الجماعات الإرهابية الأجنبية» ودعا الشباب إلى التصدى لهم. وقد نسب لهذه الجماعات المسلحة بعد استيلائها على السلطة وتنصيبها للرئيس ميشيل جوتوديا عمليات نهب وقتل واسعة النطاق ضد الأغلبية المسيحية. كما اعترف أحد القادة العسكريين الشماليين أن قوات مرتزقة من السودان وتشاد قد تمت الاستعانة بها، وأنها قد ساهمت فى أعمال العنف والنهب. ورغم أن هذه الجماعات لم ينضم إليها سوى نسبة محدودة من المسلمين، الذين يقدرون بحوالى 15-20% من إجمالى عدد سكان البلاد، إلا أن الأغلبية المسيحية قد حملت المسلمين جميعا مسئولية الانتهاكات التى تعرضوا لها. ومع تصاعد الضغوط الدولية والإقليمية على الرئيس جوتوديا لدفعه إلى الاستقالة، ومع دخول القوات الفرنسية للتصدى للقوات الموالية له، بدا واضحا أن عمليات ثأر واسعة النطاق تنتظر الأقلية المسلمة.

لم تكن المذابح ضد المسلمين إذن مفاجئة. فقد كان متوقعا منذ إجبار الرئيس جوتوديا على الاستقالة فى يناير الماضى، ودفع قواته إلى الانسحاب من مواقعها أن تشهد البلاد موجة من العنف ضد المسلمين. ولكن القوات الدولية، والتى تتكون من قوات الاتحاد الأفريقى والقوات الفرنسية، تلكأت، وفقا لشهادة منظمة العفو الدولية، فى حماية المدنيين المسلمين وأحجمت عن التصدى للميليشيات التى ارتكبت المجازر فى حقهم، بل إنها سمحت لهذه الميليشيات بأن تملأ الفراغ الذى خلفه انسحاب الميليشيات الموالية للرئيس المستقيل. ومع هشاشة مؤسسات الدولة، تشكلت ميليشيات وعصابات مسلحة لا تفرق فى عملياتها بين المدنيين والمسلحين، ولا تميز بين منازل ودور للعبادة.

ولا يمكن إغفال دور القوى الخارجية فى هذا المشهد. ففرنسا، صاحبة الوجود العسكرى والمصالح الاقتصادية فى البلاد، لم تغب يوما عن الصراع الداخلى فى البلاد. فقد أيدت انقلاب بوزيزى عام 2003 وساندته ضد حركات المعارضة المسلحة. وتتمسك فرنسا، التى فتحت شهيتها للتدخل العسكرى فى القارة بعد تجربة مالى العام الماضى، بحفظ مصالح شركاتها المستثمرة فى اليورانيوم، والمتمركزة فى مناطق سيطرة قوات المعارضة فى الشمال. أما هدف حماية المدنيين من الإبادة الجماعية فلا يبدو على أجندة أولويات فرنسا التى قامت بتدريب وإيواء العديد من المتورطين فى عمليات مماثلة فى رواندا قبل نحو عشرين عاما، ولم تبدأ أولى محاكمتهم أمام المحاكم الفرنسية إلا منذ أسابيع قليلة بعد ضغوط من المنظمات الحقوقية فى الداخل والخارج.

ورغم استمرار الأزمة، لم يقدم النظام الانتقالى الحالى، والذى تتزعمه كاثرين سامبا ــ بانزا التى تم تسميتها كرئيسة للبلاد بعد استقالة جوتوديا، والمجتمع الدولى، أكثر من الحل العسكرى. وفى المقابل فقد صرحت بعض القيادات المعارضة فى الشمال أن استمرار المجازر سيؤدى إما إلى تصاعد المطالبة باستقلال الشمال، أو دعوة التنظيمات المسلحة ذات الأجندة الإسلامية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب العربى، بالتدخل لحماية المسلمين. هى إذن نفس وصفة الصراع فى بؤر أخرى للتوتر فى أفريقيا وخارجها: مظالم تاريخية وتهميش لأقاليم وطوائف فى دول غنية بمواردها، ولكنها ضعيفة بأنظمتها الفاشلة تنهار سريعا أمام تنظيمات لم تجد فى التفاوض فرصة لاستيعابها، وقوى خارجية تستفيد من حماقة الجميع لتعزز وجودها ومصالحها، فمتى يتعلم الحمقى؟

* الشروق المصرية