"جي رمضان قريب يطل... انقولو وصل... إن شاء لله بخير علينا يهل". عبارة يقولها الليبيون في شهر رمضان وهي مشهورة في ليبيا، لكن منذ أكثر من عشر سنوات اختلف إيقاع رمضان في يوميات الليبيين، وأصبحوا يتأملون مع كل عام أن يحمل لهم رمضان خرقاً ينهي الكابوس الذي يعيشون تحت نيرانه، قبل أن يلتفتوا لتفاصيل الحياة ومتطلبات ومصاريف الصيام ومن ثم الإفطار... لم تعد المسلسلات التلفزيونية كما الموائد الرمضانية هي ما تجمعهم، فرغبتهم في معرفة الأحداث من حولهم وضعت نشرة الأخبار على قائمة مشاهداتهم التلفزيونية فتحول وقت السهرة إلى عرض لمشاهد الأحداث الأليمة التي تشهدها ليبيا... ومن حزن وأسف، ما بعدهما حد لحزن وأسف، أنّ أكثر من رمضان جاء... وأكثر من رمضان غادر... والشعب الليبي مازال مجرد شريط أحمر على الشاشات... 

شريط يبتدئ بكلمة عاجل... عاجل هذا الصراع على السلطة... عاجل هذا التقاتل الميليشياوي في ليبيا... عاجل هذا القهر للمواطن الليبي... فمتى يعجل الفرح ومتى يذوب الشريط الأحمر ولا يراه الشعب الليبي...؟!‏ هذا الشريط الأحمر مغمس بآلام وعذابات الليبيين... لا أرى إلا هذه الأشرطة العاجلة اللعينة التي حولت الليبيين إلى مجرد خبر... لقد كانوا الفعل... وكانوا الفاعل... كانوا الاسم... وكانوا المسمى...‏ كانوا البداية لمحبة لا تنتهي... والبداية لعطاء لا ينضب... فمن الذي حولهم إلى نهاية؟! وكيف يقبلون أن يتحولوا إلى نهاية؟! 

مجرد السبق الصحفي... مجرد خبر عاجل؟‏ لا أدرى إن كان بعض الليبيين تنبه إلى أن الشعب الليبي تحول بالفعل إلى شريط أخبار ملون تتسابق عليه المحطات والصحف، والشعب يتسابق ليؤمن لقمة العيش والدواء... لم يعد يحلم بالسيارات ولا بالعقارات ولا بتعليم أولاده في أعظم المعاهد والجامعات... اليوم يحلم بالخبز والسكر والزيت...‏ اليوم لا يتحدث إلا بالغلاء والجوع والدواء المقطوع... تجمدت أفكاره وقدراته الذهنية عند ربطة الخبز... وهذا ما يريده تجار الأزمات وما تريده الميليشيات وما تسعى إليه... ولقد تحقق الكثير من ذلك في ظل فئة من الشعب البسيط والضائع والذي ضيع بوصلة ليبيا والكرامة... لقد توهموا أن الاستعمار انتهى... وأن الليبيين أحراراً، ولا ينقصهم سوى البحث عن الهويات الأثنية والثقافية... وهذا ما راح الغرب يشتغل عليه كي يتحول الشعب من الكفاح ضد المستعمر وضد الفقر والجوع إلى كفاح بين جماعات تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة... لقد بشر الغرب ليبيا بذلك... 

الشعب الليبي أتعبه القهر والظلم والفقر... صور البؤس المؤلم، والشقاء المتفشي، والدمار في كل مجال من المجالات الحيوية الكثيرة... فهل تسمح لنا حكومة الدبيبة أن نعبر عن تعبنا وغضبنا؟ المواطنون الليبيون ما عادوا يأملون منها شيئا لأنهم لا يصدقون ما تقوله ولا ينتظرون ما تعدهم به... وكل ما ترشقهم به من آمال وحلول اقتصادية وخدمية لا يتوقعون تنفيذها... بصراحة... ما تعدهم به الحكومة لا يعدو أكثر من أحلام... كل ما يجري في ليبيا منذ وقت طال، وإلى امتداد وقت قادم يطول... كان وما زال وسيبقى نتيجة لظروف الصراع السياسي الدائر على أراضيها، وبسبب من أعدائها وسياسييها وبعض بنيها، وقد تعزز هذا الوضع المأساوي، نتيجة لانسداد الأفق، وقصر النظر، ونتيجة لانعدام الأمن والثقة والأمل، وتوسّع الإرهاب الميليشياوي، واستمرار أنواع البطش والظلم والاستبداد والفساد والإفساد، بكل ما لذلك من أبواب وأسباب ومسببين ومنفذين... ونتيجة لغلاء المعيشة إلى بلغ درجة لم يعد يحتملها المواطن الليبي، حيث الارتفاع المستمر في الأسعار، وتراجع الاقتصاد، ونهب المسؤولين والتجار... وزاد في الطين بلّة انعدام فرص العمل، وتردي مستوى الخدمات، وانتشار الفساد والإفساد والرعب، وتدمير البنى التحتية في المدن والبلدات والقرى، وانتشار أنواع الاتجار بكل شيء، الاتجار "بالسياسة، والمبادئ، والشعارات، والوطنية، والإنسان"، وانتشر تجار السلع، والقيم، والبشر، وبلطجية المؤسسات والمناطق والحارات، فلم تعد الطرقات ولا البيوت آمنة في كثير من الحالات... وأضيف إلى تلك الأسباب تفشي الجريمة، والانحلال، وتدني الخدمات الصحية، وانتشار الأمراض الاجتماعية، والإدارية الأخرى... وانغلاق الآفاق أمام الأجيال الناشئة على الخصوص... وغير ذلك من الآفات والعلل وأنواع الخلل... فأصبح خوض المجهول، وركوب البحر المهول، على ما في ذلك من خطر، مصحوبا ببعض الأمل، أفضل، لدى كثيرين من البقاء في ليبيا مع وجود الخطر المحدق، بلا أدنى أمل.

الثابت اليوم، أمراء الميليشيات يسكرون في مخادعهم... والحكومة تسلمهم مقدرات البلاد ليتحكموا في العباد... ليتباروا في تدمير ليبيا... فمتى تكسر الكؤوس؟! من غير المفيد الآن الاستمرار في تكرار تبادل الاتهامات، ووضع المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك، فيما يتعلق بالكارثة الكبرى التي تحل بليبيا والليبيين. وهذا لا يعني بحال من الأحوال تجاوز هذا الموضوع، وألا يُبحث في وقته، وأن يتخذ الشعبُ الليبي موقفًا منه، ويحاسب عليه، بدقة، وعدالة، وحزم... إلا أن الأهم الآن هو مواجهة الوضع الكارثي/المأساوي/ المرعب... إن وضع حد لمعاناة الناس، ووقف تفريغ ليبيا من طاقاتها الحيوية وعناصرها الشابة على الخصوص، وإدخال البلد في طور جديد من أطوار الصراع... كل ذلك يستحق أن يكون أولويات لا تعلو عليها أولويات أخرى... والمدخل إلى ذلك وقف الصراع السياسي المدمر، وتغيير الاتجاه لتكون ليبيا جاذبة لبنيها وليست نابذة لهم. 

إن هذا، مهما كلف من تضحيات، ومهما بُذلت فيه من جهود، وقدمت له تنازلات، من ليبيين لليبيين بالدرجة الأولى... أمر جدير بأن يأخذ المكان المتقدم على سواه، وبأن يوضع على رأس جدول الاهتمامات والأعمال، بالنسبة للجميع، وبأن يصبح الهم الأول للساسة وللمسؤولين الذين يعنيهم بجدية وواقعية ومسؤولية وطنية وأخلاقية: "أن يكون لليبيين وطن، وأن يستحق المسؤولون في هذا الوطن الانتماء لشعب عظيم هو الشعب الليبي، وليبيا ذات التاريخ والمواقف والمبادئ والرسالة والحضارة. وكل من يرى أنه أكبر من أن يتنازل لشعب ووطن وقيمة، عن شيء مما يرى أنه من خصوصياته واستحقاقاته... وكذلك كل من لا يلقي عن جسده رداء نفخة فارغة، يراها في رداء ما لبِسَه أو أُلبِسَه... عليه أن يعرف، وأن يدرك، أنه إنما يكبر بشعبه ووطنه، وليس على حساب شعبه ولا على حساب وطنه، وأنه يكبر بفعله وليس بما يلبَس أو يُلبَس... وأنه لن يكون مكرما، ولن تُفتح أمامه أية آفاق للكرامة والحرية والتكريم، إلا إذا استحق تكريم شعبه، ورفعه شعبه، وضحى من أجل شعبه... والشعب في ليبيا ليس بعض الشعب، كما أن ليبيا ليست بعضها، وأن الكرامة ليست بعضها، والوطنية ليست بعضها أيضا... 

يكفي الليبيين معاناة، داخل ليبيا وخارجها، ويكفي ليبيا، الوطن الأعز، هبوطًا عن المستوى الذي تستحقه بين الأوطان... وما لم يتوقف كل ذلك الذي يزري بالوطن والشعب والإنسان... لن ترتفع ليبيا، ولن يرتفع ليبي إلى أي مستوى يستحق التقدير والاحترام، ويؤهل لصنع المستقبل. نعم ليبيا لها ماضٍ وحاضر ومستقبل، أمّا أعداؤها فإنّ لهم حاضراً بلا ماض ولا مستقبل، لذا فإنّ معركة الحسم لكسب الصراع الدائر اليوم على أرض ليبيا لن يفوز به إلاّ من يمتلكون مُستقبلاً لماضٍ، لأنّهم الأقدر على تحرير المكان وتفعيل الكيان. المستقبل الّذي نعني، هنا تحديداً، هو الّذي ينبثق من رحم التاريخ، بماضيه وحاضره، ويُعيد قراءة التجارب السالفة ويفكّر في الأخطاء ومختلف أسباب الوهن ويُحاسب المخطئين ويقاوم الفساد ويمضي قُدُماً في الإصلاحات العميقة لمؤسّسات الدولة والمجتمع ويحرّض على الحريّة والمسؤوليّة ويدعو إلى ديموقراطيّة بخصوصيّة وطنيّة تضمن الحقوق لكلّ الأفراد وتحدّد الواجبات وتنتصر للمُواطنة على الولاء وللوطن على القبيلة ولثراء الاختلاف على جمود الواحد.

﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إلى عالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ ﴿105﴾ – سورة التوبة.