حتى وفاته في الثاني والعشرين من شهر يونيو 2008، تعوّد عشاق “السان- جارمان” بباريس، ومرتادو مقاهيه الفاخرة أن يشاهدوا يوميّا عجوزا حافظ على استقامة قامته رغم تقدمه في السن، وعلى أناقته في الملبس والحركات، ولم يكن ذلك العجوز غير ألبير قصيري، الكاتب المصري الكبير، الناطق بالفرنسية، والمولود في القاهرة عام 1913.

ينتمي ألبير قصيري إلى عائلة متوسطة الحال محبّة للعلم وأهله، لذا أرسلت أبناءها إلى أهمّ المدارس في العاصمة المصرية. ومتحدثا عن عائلته، قال ألبير قصيري في حوارات أجريت معه: “كان مستوى والدي الثقافي متوسطا، ولم يكن يقرأ شيئا آخر غير الجرائد اليومية، أما والدتي فقد كانت أميّة، وكان باستطاعة والدي أن يعيش من الأراضي التي كان يملكها، لكن دون أن يعمل فيها، وكان لأمي خدم يساعدونها في قضاء شؤون البيت، ولم تكن لنا ثروة. وفي الشرق لم يكن الناس في ذلك الوقت يحتاجون إلى أموال كثيرة للعيش مثلما هو الحال بالنسبة إلى الغربيين، والثروة الحقيقية هي أن يتمكن الإنسان من أن يعيش دون أن يعمل. وعندما جئت إلى فرنسا شعرت أني أكثر غنى من الآخرين لأني احتفظت بهذه العادة الشرقية المتمثلة في مواجهة الحياة دون عمل”.

 

نصيحة كامو

مبكرا، تعلم ألبير قصيري اللغة الفرنسية، وعشق الكتاب الفرنسيين الكبار. وحالما انتهت الحرب الكونية الثانية انطلق إلى باريس التي كانت بالنسبة إليه آنذاك ستاندال وسيلسن وكامو وسارتر وجان جينيه، وغيرهم. ومنذ البداية وجد نفسه في قلب الحياة الباريسية الصاخبة ملتقيا في الليل وفي النهار بشعراء ورسامين وروائيين كانوا يرتادون مقاهي “الحي اللاتيني”.

في عام 1946، وبنصيحة من ألبير كامو، أصدرت دار “غاليمار” المرموقة روايته الأولى “الرجال المنسيّون من الله”، وعقب ذلك بعامين نشرت روايته الثانية “كسلاء وادي النيل”. غير أن الشهرة تحققت له عندما أصدر عام 1955 روايته الثالثة “شحّاذون ومتعالون”. ومفسّرا تعلقه بمصر رغم أنه اختار الإقامة في العاصمة الفرنسية منذ سنوات الشباب يقول ألبير قصيري: “جميع أحداث رواياتي تدور في القاهرة، أو في الإسكندرية، أو في دمياط. غير أن ما أكتبه يهمّ كلّ الناس. وفي “الحي اللاتيني” يحيّيني كل الناس الذين يقرؤون كتبي، ويقولون لي كم هم متعلقون بها، إذ أن الإنسان الذي يعيش في مصر لا يختلف كثيرا عن الإنسان الذي يعيش في قلب باريس. الفارق الوحيد بينهما هو اللغة، وأيضا الموقف الشرقي لأبطال رواياتي. فهؤلاء يتقاسمون طريقتي في التفكير بالشرق، وكل واحد يبلور فلسفته الخاصة به، والحكمة التي تضيء له الطريق ذلك أنه يجد الوقت الكافي لمتابعة حركة الآخرين وهم يمرّون أمامه”.

 

السخرية وسيلة للرفض

ومواصلا المقارنة بين الشرقيين والغربيين، يقول قصيري: “في الغرب يمكن أن يموت الناس بسبب الجوع أو البرد. أمّا في الشرق فمثل هذا الأمر نادر للغاية ذلك أن الجميع يقدمون شيئا ما للذين في الشارع: قطعة نقدية، أو قطعة خبز.. حتى الفقراء جدّا يحسّون أنهم سعداء. والقاهرة رغم ارتفاع عدد سكانها تظلّ مدينة رائعة. ففيها يضحك الناس، ويمرحون ويروون نكاتا، وطرائف تنسيهم همومهم وآلامهم. في كلّ يوم يبتكر أحدهم قصّة مسلية تنتقد الحكومة، والذين على رأسها، أو تعكس مصاعب الحياة اليومية. فعندما نكتشف الكذب والمكر والخداع، وكلّ هذا، نحن لا نجد غير السخرية كوسيلة محتملة للثورة والتمرّد والعصيان والرفض. ليس باستطاعتنا أن نستمع إلى وزير دون أن ننفجر ضاحكين ذلك أنه لا شيء في كل ما يقوله يعنينا أو يساعدنا على حلّ مشاكلنا، أو مواجهة مصاعب الحياة”.

ويحبّ ألبير قصيري أن يكون مثل أبطال رواياته. لذلك هو لا يخشى الكوارث. وتقول شخصية روايته “بيت موت محقّق” التي تقول: “منذ أن عرفت أن البيت سوف ينهار، لم أعد أشعر بالخوف. قبل هذا كانت هناك كوارث عديدة تلاحقني. أما الآن فلم تعد هناك غير كارثة واحدة. وهذا أمر محتمل. إذ أنّ كارثة واحدة رائعة كافية وحدها ليتحقّق موتي” .

 

فلسفة خاصة

لعل ألبير قصيري شبيه إلى حدّ كبير بشخصية روايته “بيت موت محقّق”، ولعل فلسفته في الحياة لا تختلف عن فلسفتها. لذا هو يتقبل الكوارث مثلما يتقبل الأحداث السعيدة. وهو يتقبّلها بصدر رحب لأن الحياة هي الحلو والمرّ في نفس الوقت. وتقوم فلسفة ألبير قصيري أيضا على رفض الملكية الخاصة وعلى نبذ المال والشهرة.

ولتوضيح فلسفته قال ذات مرة: “لقد تسلّيت كثيرا في حياتي؛ وأنا أكره أن أمتلك شيئا، وعندما يقوم أصدقائي من الرسامين والنحاتين بإهدائي عملا من أعمالهم أقوم ببيعه في اليوم التالي لكي أدفع ثمن الإقامة في الفندق الذي أنزل فيه منذ قدومي إلى باريس، وأشتري السجائر لأني أدخن كثيرا، وأذهب إلى المطاعم الفاخرة التي أحب ارتيادها عندما يكون الجيب عامرا بالمال. وأنا أحب النساء، ولا أقدر أن أكفّ عن مصاحبتهن، وهن يأتين ويذهبن، ولم تكن لي مشاكل معهن أبدا، فأنا لا أقبل أن أكون عبدا لهذا الشخص أو ذاك. ودائما أحب أن أكون بعيدا عن أولئك الذين يخشون دائما أن يخسروا شيئا ما، وأيضا عن الأشخاص الأقوياء الذين يرغبون في أن يكون الآخرون في خدمتهم”.

ومحددا هويته الإبداعيّة، يقول ألبير قصيري: “أنا كاتب ولست روائيا، وأنا لا أكتب لكي أروي قصصا وحكايات، وإنما لكي أطرح أفكاري الخاصّة. والشخصيات في رواياتي هي التي تعبر عن هذه الأفكار، وأنا أحب أن يرفض الناس الذهاب إلى العمل بعد الانتهاء من قراءة كتبي، وأن يدركوا أن طموح الإنسان في البقاء حيّا أمر كاف، وأن أيّ طموح آخر لا يعني شيئا؛ وقد أكون قلت كل هذا في كتبي”.

 

*نقلا عن العرب اللندنية