حين يذكر العرب ليبيا يطل عليهم عمر المختار، أو لنقل صورة الممثل أنتوني كوين وهو يؤدي دور المختار في فيلم بالعنوان نفسه للمخرج السوري العالمي مصطفى العقاد، وخاصة في المشهد “ربما” ما قبل الأخير حين ينظر عمر المختار إلى الطفل الصغير، منتظراً أن يزيحوا الكرسي من تحت قدميه، فيقوم برمي نظارته إلى ذاك الطفل قبل أن تتم عملية شنقه .

 

نحن نتذكر الفيلم، ونذكر عمر المختار، ولكن هل تساءلنا أين أصبح اليوم ذلك الطفل؟ وماذا فعل بنظارة القائد البطل، ذلك القائد التي عُرفت ليبيا به، فكان رجلاً بحجم بلد، ورجلاً بحجم التاريخ؟

 

في ذلك العام من ثمانينات القرن الماضي عرض فيلم “عمر المختار” في سوريا، وكانت سينما السفراء في وسط دمشق غير قادرة على استيعاب الجمهور اليومي المتقاطر إليها لمشاهدة الفيلم، وكان الذين لا يجدون حجزاً يعودون في اليوم التالي، وكنت من بين الذين لم يتمكنوا من الدخول إلى السينما إلا بعد محاولات لم أعد أذكر الآن عددها، لكنني أذكر ذلك الطابور الطويل الذي اصطف من أجل قطع التذاكر مدفوعاً بحب عمر المختار، والسمعة الكبيرة للفيلم - حيث كان قلة ممن يستطيعون أن يدفعوا ثمناً أعلى للتذكرة يشترونها من السوق السوداء- وكان ذلك في زمن اعتبرت فيه السينما إحدى المظاهر الحقيقية للحياة الثقافية .

 

 

 

 

 

 

قلة ربما من الذين حضروا الفيلم استطاعوا أن يتماسكوا أمام شحنات عاطفية بثتها مشاهد عدة، ومعظم من تابعوا الفيلم بكوا، كان البكاء آنذاك جزءاً من العاطفة العربية، ودليلاً على تجاوز القطريات الضيقة، وكان أيضاً دليلاً على أن الإنسان العربي لم يكن قلبه ومشاعره قد تحجرت لكثرة ما رأى بعد ذلك من صور بثتها الفضائيات من موت، خاصة وأن التلفاز آنذاك كان يبث المحطات الوطنية وحسب، ولم يكن الإعلام العربي واسعاً - إذا جازت العبارة - كما هو في وقتنا الحالي .

 

مع بداية التسعينات القرن الماضي تعرف جيلي إلى المفكر الليبي الصادق النيهوم من خلال بعض الدوريات العربية الفكرية المحترمة، وكان في الحقيقة لقاء صادماً، فلم يكن معهوداً في الساحة النقدية أن نسمع بمفكرين من ليبيا، وهذه المسألة بقيت جزءاً من المعضلة التاريخية التي عاشها العرب قبل أن يجعل الإنترنيت المعرفة سيالة بين أيدي الجميع، وأذكر أن النيهوم فجر في مقالاته آنذاك قضايا فكرية خطيرة، وأهمها عطالة الفكر العربي في مواجهة التحديات الحضارية الكبيرة، وهي مقالات يمكن استرجاعها اليوم بالكثير من الحرارة لما فيها من عمق نقدي لمسائل ما زالت قيد الطرح في المشهد الفكري العربي، ويمكن القول إن ما قدمه هذا المفكر الليبي يوازي في قيمته أعمال مفكرين نالوا نصيباً أوسع من الشهرة، ومع ذلك فقد بقيت الفكرة عن النتاج الأدبي الليبي ضبابية لقلة ما يخرج من ليبيا إلى العرب من ذلك النتاج .

 

هل لعب الحصار الذي فرضه الغرب وأمريكا على ليبيا في ظلم المبدعين الليبيين، وفي ندرة ما عرفناه عن ليبيا أيضاً؟ قد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، لكن بلدانا عربية أخرى شهدت ما شهدته من حصار، غير أن مفكريها وكتّابها وفنانيها وصلوا بنتاجاتهم إلى البلدان العربية الأخرى، وهو ما يجعلنا نتساءل بحق: ماذا حلّ بليبيا خلال العقود الأربعة الأخيرة؟ وهي البلد الذي يملك أطول شاطىء على المتوسط، لكن سفنه بقيت على الشاطىء وبقي في داخلها ما احتاج إليه الليبيون أن يسافر إلى الآخر، وهو صوت ليبيا، وأدبها، وفنها، وفكرها، وبساطة شعبها، وأغنياتها الحزينة .

 

في عام 1997 قصدت ليبيا براً وبحراً، فلم تكن الطائرات تذهب إليها نتيجة للحظر العالمي الذي فرض على حركة الطيران منها وإليها على حد سواء، ومضت الرحلة عبر البوابة الجنوبية لسوريا مروراً بعمان وصولاً إلى العقبة، وبعدها ركبنا العبارة التي أخذتنا إلى نويبع المصرية، ومن هناك إلى منطقة السلوم الحدودية، وأخيراً الوصول إلى الأرض الليبية، وفي الحقيقة كانت تلك الرحلة بكل ما فيها من جمال الانتقال عبر أكثر من بلد، ومشاهدة أكثر من بيئة، كانت بمثابة عقوبة جسدية، فقد كنت واحداً ممن وصلوا إلى بنغازي بقدمين مفلطحتين نتيجة للرطوبة الكبيرة في البحر الأحمر، ولم يكن بإمكاني لحظة النزول من الحافلة أن أمشي فتوجهت إلى الفندق القريب من المحطة، وهو فندق يحمل واحداً من تلك الأسماء العروبية الكثيرة التي اشتهرت بها فنادق بنغازي مثل فندق فلسطين، والوحدة العربية، والاتحاد، وغيرها من الأسماء التي عرفناها أسماء، ولم نعرفها كمعانٍ مجسدة في الواقع .

 

في بنغازي تعرفت وقتها إلى ليبيا عن قرب، وإلى الكم الكبير من المثقفين والإعلاميين والمسرحيين، وجميعهم يجلسون مساء في أحد المقاهي البعيدة نسبياً عن مركز المدينة، وعلى خلاف المقاهي في دمشق أو بيروت أو القاهرة يجلس الجميع مع بعضهم بعضاً، كعائلة واحدة، وفي أيام العطل يلبس بعضهم اللباس الليبي التقليدي، كتكريم للتراث الذي يعتز به الليبيون، وكتكريم للآباء والأجداد .

 

في المقهى المذكور التقيت محمد ستيته الذي كان في الستينات من عمره، وكان يرتدي يومها الزي التقليدي، وجلس بقربي من دون أن أعيره كثير اهتمام معتقداً أنه لا ينتمي إلى الوسط الثقافي، وكنت على خطأ، فهذا الرجل راح يتحدث عن الفن العالمي بموسوعية كبيرة، واكتشفت أنه كان مستشاراً سابقاً للملكة فريدة الزوجة الأولى للملك فاروق للمسائل الفنية، وعلى اطلاع على حركة الفن التشكيلي في أوروبا وأمريكا والوطن العربي، واستحوذ ستيته على الجلسة بمعارفه الكبيرة، وأسلوبه المتواضع، ولاحظ الأصدقاء الليبيون دهشتي، وعرفت في ما بعد أنهم يشعرون بظلم كبير لأنهم مغمورون بين أشقائهم العرب .

 

اليوم، نستعيد ليبيا لأنها الحدث الأبرز، نستعيدها بالقليل الذي نعرفه عنها، ونتعرف من جديد إليها، كمن يكتشف فجأة أخاً له لم يكن يعلم بوجوده، أو يتعرف إلى أخيه في ظرف مغاير فيكتشف فيه ما لم يعرفه سابقاً، وهو ما يدعونا إلى التساؤل من جديد عن الهوية العربية التي تحدثنا عنها طويلاً، وعن وحدة المشترك الثقافي، وعن تعددية هذا المشترك وتنوعه، ونشعر بأننا كنا بعيدين عنها، لكن قلبها واسع مثل شاطئها الكبير والممتد، ومثل ترابها النقي الذي رواه عمر المختار والآخرون بمعاني الحرية .

 

نظارة عمر المختار بقيت، تناقلتها الأجيال، ورأت عبر عدستيها المكبرتين الواقع والمستقبل، ولم تشأ إلا أن تكون أمينة لرمزها، أمينة ببحثها عن الحرية، وعن الخروج وإسماع صوتها إلى الآخرين، والدخول إلى العصر الجديد عبر طاقاتها التي لم يعد بمقدورها أن تبقى داخل القمقم، فما نشهده اليوم في ليبيا سيجعلنا نتعرف إليها من جديد، ليس فقط عن طريق نصوص قليلة، أو بضع مسرحيات كنا نتابعها في المهرجانات، وإنما عن قرب، تماماً كما ينظر الأخ في عيني أخيه، وكما ينظر العاشق في عيني حبيبته، وكما ينظر الطفل إلى المساحات الواسعة فيشعر برغبة الاكتشاف والرهبة تسري في جسده