تتكشف يوماً إثر آخر حقائق مرعبة عما يحصل في ليبيا من اشتباكات مسلحة وتدمير وتخريب ممنهج، ومدروسٍ، ولا تزال الفوضى الأمنية تجتاح المشهد الليبي وتتحكم بكل مفرداته وتفاصيله، بصفتها اللاعب الأبرز الذي يعتبر الوريث الشرعي للتدخل الأجنبي الذي لا يزال هو الآخر يعبث بالساحة الليبية على مختلف الأصعدة السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية، ليبقى الشعب الليبي ضحية الطرفين وأسيرهما على أمل الخلاص والتحرر منهما... وعندما يتعدد وجود الميليشيات بليبيا، يتعين الوقوف عندها كثيرا باعتبارها واحدة من علامات المشهد العصيب المعاصر في ليبيا، والأكيد أنّ ظهور الميليشيات وانتشارها في ليبيا هو الوجه الآخر لغياب الدولة، ومن واقع التجارب التاريخية فإن ظهور الميليشيات ارتبط بعجز القوات النظامية في أي دولة عن تسوية الصراعات المجتمعية بطريقة سلمية تحقق الرضا بين الفرقاء وتعيد الاستقرار، ومن ثم إتاحة المجال لظهور قوى مسلحة غير نظامية تدافع عن مصالح كل طرف، ولكن المقترب الأكثر شيوعا لتفسير الظاهرة هو الذي يربط بينها وبين اندلاع الحروب الأهلية، فذلك هو الظرف الأكثر ملائمة لانتشارها. 

وبكل أمانة، فأوضاع ليبيا اليوم، تدعو للخوف والمستقبل غامض، وأسباب هذا الخوف عديدة ومتنوعة: أمنية وسياسية وسيادية...، وليس من سبيل إلى تغطيتها بأكاذيب قنوات الفتنة أو بكتابات مأجورة، أو بترديد القول أن النظام السياسي الحالي في ليبيا ـ قطعاً ـ أفضل من النظام السابق! والمقطوع به أن العنوان العريض للمشهد الليبي اليوم، هو الترابط العضوي بين الانفلات الأمني و العامل الخارجي المتواصل والمستمر، ولتأكيد المؤكد، فقد عادت الاشتباكات بين المجموعات المسلحة، في العاصمة الليبية طرابلس، إلى الواجهة مرة أخرى، وسط تحذيرات بتأثيرها على الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وشهدت العاصمة الليبية طرابلس الخميس 06/01/2022 اشتباكات وقعت بين مسلحين من طرابلس ومصراته بالقرب من طريق جزيرة الفحم في مشروع الهضبة غربي العاصمة الليبية، وأسفرت عن مقتل عنصرين وإصابة عدد من المتقاتلين حسب وسائل إعلامية محلية، ووقعت الاشتباكات بين جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي الليبي الذي يقوده الميليشياوي عبد الغني الككلي الشهير بـ"غنيوة"، وكتيبة 301 التابعة لرئاسة أركان حكومة الوحدة الوطنية، ويقودها المصراتي عبد السلام الزوبي.

الثابت اليوم، أنّ الانفلات الأمني الكبير يرى بصورة واضحة من خلال الوضع الأمني المهلهل والمفكك الذي خلقته الميليشيات والمجموعات المسلحة، حيث دخل بعضها في نزاعات قبلية وصراعات نفوذ وزعامات... ما يضع هذه المجموعات في دائرة الضوء بسبب تلك الأدوار المريبة التي تقوم بها، والتي تثير الكثير من الشكوك والتساؤلات حول مدى وحدود ارتباط تلك المجموعات بالعامل الخارجي، الذي يسعى للحفاظ على مكتسباته في ليبيا، من خلال إبقاء الوضع يراوح في مكانه أسيراً للفوضى الأمنية وللصراعات الأهلية، التي تلتهم نيرانها الأخضر واليابس، والتي ليست في النهاية إلا تنفيذاً لأجندات خارجية مرتبطة بمشاريع ومخططات استعمارية محضة.‏ فالسلاح الموجود في ليبيا أكبر بكثير من أي توقع و مليارات المليارات صرفت على هذه الأسلحة المنتشرة في ليبيا، أما وزارة الداخلية فغير قادرة على احتوائه وكذلك وزارة الدفاع...‏ كما يلعب الوضع السياسي الهش الذي لا يزال في أطوار تشكله دوراً أساسياً في تغذية واستمرارية الفوضى الأمنية التي ترقى إلى حدود الأزمة الحقيقية التي تعصف في ليبيا منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، حيث لا تزال صراعات السلطة بين السياسيين الليبيين تتنامى وتتضخم بشكل مضطرد.

وفي التحليل فإن ثمة ما هو أبعد بكثير مما يجري في طرابلس، حيث لا تزال الخلافات والاختلافات المتصاعدة بين أطراف الإرهاب وأدواته تدفع بأحمالها وأثقالها وأوزارها إلى السطح كانعكاس صارخ لتباين وتناقض وتضارب المواقف والمكاسب والمصالح والاستراتيجيات بشكل أشمل وأوسع، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج الصراعات التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، وهذا أيضا يؤدي بدوره إلى توتر وتعثر وتخبط في الأداء والسلوك والمواقف، ما يجعل من الذهاب إلى التصعيد وامتطاء خيارات الحماقة والمغامرة والأوراق المحروقة أمرا عاديا، بل ومتوقعا من تلك الأطراف، لأن ذلك يشكل لها على الأقل متنفساً ضرورياً، من الضغوطات المتراكمة والمتدحرجة بشدة في هذه المرحلة العصيبة، التي تعصف بتلك الأطراف، وبذات الوقت يعتبر هروباً من مواجهة الواقع الجديد المرتسم على الأرض والذي ترفض الميليشيات والجماعات المسلحة ومستنسخاتها حتى اللحظة الاعتراف به.‏ 

إن مقاربة الأمور بهذه الطريقة لا تسهل علينا فهم الكثير مما يجري في طرابلس فحسب، بل تسهل علينا فهم واستشراف ما يدور ويحاك خلف الكواليس أيضاً، وصولاً نحو فك طلاسم وشيفرات كل المواقف والسياسات التركية والأمريكية والغربية... فالنظام التركي ومن تحت سيطرته، تقود إلى تعزيز مواقع المتقاتلين بصورة ما، تركيا "العقدة والحل" وتشي مجريات الأحداث الأخيرة في ليبيا بأن محاولة إعادة إنتاج شكل الدولة الليبية يمر عبر رحى نزاع داخلي بين مختلف المكونات، وسلّم أولويات خارجي يتنوع بين ما تريده أطراف إقليمية ورغبة أوروبية وأمريكية في سد الثغرة التي تم تجاهلها لأكثر من عشرة أعوام ونتيجتها مفاقمة قضية اللاجئين والتنظيمات الارهابية واحتمال تواجد روسي مستدام في جنوب المتوسط.

نحن أمام مشهد لا يكتمل بهذه التفصيلات، لأن الليبيين ليسوا وحدهم في الميدان، وليسوا وحدهم في الأزمة، وليسوا وحدهم من سيتوصل إلى الحلول، على الرغم من أن المنطق والدعوات والادعاءات والتصريحات والبيانات تقول بأنهم وحدهم من ينبغي أن يتوصل إلى الحلول! ذلك لأن على الأرض الليبية اليوم دول وسياسات ومحاور وقوى وتيارات فكرية ودينية وقبائل تتقاتل، وعلى أرضها مقاتلون وأجهزة استخبارات وإرادات... وفي تربتها السياسية أياد كثيرة، مرئية وخفية، تطبخ الطبخة المرة التي مادتها وآكلها والمتأثر بكل ما فيها من سموم وأدواء هو الشعب الليبي... 

نعم إنها رؤية سوداء وكم كنا نتمنى أن تكون عكس ذلك... والسبب فيما نذهب إليه أننا نشهد منذ الاتفاق على إجراء الانتخابات الليبية في 24 كانون الأول الماضي وتأجيله... نشهد بداية أزمة مناورات وخدعاً وتوجهات نحو إشعال المنطقة وليس ليبيا فقط. في ليبيا لم يعد الكلام يتصل بحكومة وخيارات سياسية، وحتى بحلول سياسية جادة تتبناها كل الأطراف الدولية، وينفذها الليبيون باستقلالية تامة... ولم يعد الكلام عن الانتخابات الرئاسية المقبلة... بل عن طبخة مسمومة تكثر الأيادي فيها، ومذاقها مواجهة وحشية، فيها تركيا وبعض الدول الغربية على رأسهم أمريكا، داخل معادلة العسكرة والاقتتال، فهم طرف... وقد لا تغير المعطيات الجديدة والمستجدة من مواقف أصحاب المواقف السابقة منهم لأن أكثرهم لا يملكون إلا أن يدخلوا اللعبة الدامية سواء لأغراض في أنفسهم أو تنفيذاً لسياسات من يهمهم أن ينالوا رضاهم... أما القوات والمليشيات والمرتزقة من الجماعات الأخوانية، ممن هم في حكم الأصوات والأتباع، فسيبقون على ما هم عليه، أصواتاً وأتباعاً وأدوات، وسوف يلتمسون لأنفسهم أعذاراً، ويبقون في أماكنهم التي يلوذون بها، وتستمر لهم الأعطيات ثمناً لدم أهليهم وذويهم وأمتهم التي كانت تؤويهم؟!

إنّ الوضع في ظل جيوش الميليشيات والجماعات المسلحة، حرج جداً ومأساوي في ليبيا، والشعب الليبي المسكين قلق جداً حيال مستقبله الغامض، وانعدام الرؤية لدى سلطات "الدبيبة" المفككة، وللأسف المأسوف على شبابه، فإنّ واقع ليبيا اليوم أصبح يشبه واقع العراق، مع فوارق التعدد الطائفي في العراق، لكن المشكلة واحدة هي بناء الدولة بكل مؤسساتها وتقاسم السلطة بين كل مكونات المجتمع الذي هو في ليبيا قبلي إلى حدّ كبير. إنها ليبيا الجديدة كما أرادها الغرب تماماً، دولة صراعات لا تنتهي، تَغرق وتُغرق معها ما يريده هذا الغرب، فمستقبل قرار الدولة الليبية أصبح بيد أمريكا وحلفائها، حيث يُأخذ على حكومة "الدبيبة" إفساح المجال للولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب وتركيا وغيرها، بالتدخل في تفاصيل الأوضاع الداخلية الليبية، ورسم مستقبل ليبيا ! والمراقبون للساحة الليبية يرون بأن حكومة "الدبيبة" لا حول لها ولا قوة للتصدي لظاهرة الميليشيات والجماعات المسلحة... حيث أنّ الحكومة ملزمة بدفع ضريبة كبيرة للدول التي ساعدتهم للإطاحة بنظام القذافي، من ضمنها تنفيذ أجندات هذه الدول المشبوهة في دول أخرى، ولذلك فإن الإبقاء على حال الاقتتال المسلح بين الليبيين مرشح للاستمرار والتصاعد،‏ وهو الأمر الذي يتناغم مع أجندات الدول التي قامت بتدمير ليبيا وبناها التحتية، لأن هذه القوى لا يهمها بأي حال من الأحوال ما ستؤول إليه حالة الشعب الليبي بقدر ما يعنيها سرقة مقدراته ونفطه، ولذلك فإن دعوات التقسيم سوف تتزايد في المرحلة القادمة وستشهد ليبيا المزيد من الشروخات والتأزم، والأوضاع الحالية في ليبيا كانت متوقعة وهي ليست بالغريبة بل هي نتيجة منطقية لما حدث من تدخل غربي...

أيها السادة: ليبيا... قضية وطن سرق وتسرق أمواله ومقدراته في ثاني أكبر عملية سطو في التاريخ بعد عملية السطو على العراق والتي نفذها الأمريكيون، لكن من باب التذكير، فكثيرون مروا في ليبيا، ثم رحلوا ولم يبق سوى أهلها الذين اختاروا أهليتهم الوطنية، فيما انتهى كل عبث بمقدرات البلاد وأهلها إلى الزوال، ولو أنها مرحلة مرت بكوارث وفواجع. وليبيا ليس جديدا عليها أن تقارع وتحارب، أن تجتث وتستأصل، أن ترفض كل تجربة لا تؤذي الحاضر فقط بل المستقبل بالتحديد. المليشيات والجماعات الإرهابية، هي العنوان الذي يؤهله صانعه لمسح الحاضر، من أجل صناعة قيم مختلفة في كل مناحي الحياة من السياسة إلى الفكر والثقافة والفن والاجتماع والاقتصاد، ثم والأهم إلى تقسيم ليبيا. يقول المناضل العربي الشهير شيخ المجاهدين عمر المختار (1858 ـ 1931): إنني أؤمن بحقي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح. ولكن حينما أقاتل كي أغتصب وأنهب لأعيش أكون غير جدير بحمل صفة إنسان ولا بالدفاع عن حقي في الحياة. تلك هي تبعات المعادلة التي تنطبق اليوم على غزاة ليبيا فرداً فرداً...

كاتب صحفي من المغرب.