طوارقي المولد في غدامس. عربي اللغة في جبال الألب. قضى هناك على المثلث الليبي الجزائري التونسي فتوة حياته. ويقضي اليوم كهولتها في قرية صغيرة في سويسرا. بعد أن جاب دولا كثيرة تارة للدراسة وأخرى للعمل. حمل من غدامس لغة وثقافة وجينات فكرية بحسب تعبيره. واستقر في الألب ليحلق روحاً وقلماً إلى عالم فسيح من الدلالات والمفردات والإبداع الأدبي. نقل قصص الصحراء الطوارقية الليبية من حيز الأسطورة والرواية الشعبية إلى مجالات الرواية العالمية المكرمة بجوائز عدة. غزا بجيناته الأدبية وقلمه العربي العالم، تارة متأملاً وتارة مبدعاً روائياً وأخرى مفكراً وباحثاً لغوياً. كتب وألّف أكثر من سبعين كتاباً. وكلها تدور حول كتابه المفقود كما يقول بين السطور.

 

الفردوس الصحراوي

ربته الصحراء وروت له ودفنت في قلبه سرها. فحملها ساكنة فيه. فأنثاه هذه تُجسد مبدأ وحدة الكائنات. لذا اغترب فالغربة عمقٌ وإعادة تشكيل للروح ليعيد اكتشاف نفسه الباطنية. اغترب لينقل الحقيقة التي يراها رسالته. آمن بكل الديانات على اعتبارها سلسلة طويلة لا ينفي بعضها بعضاً، بل يغوص الدين السابق إلى القاع ويبقى حياً في الدين الجديد. علاقته الدينية هذه جعلت منه متصوفاً أديباً يرى أن جيناته علمته بأن الوجود بلا روح صحراء والصحراء بحضور الروح فردوس. فردوس يأمل أن روحه قادرة على بذره في جنبات الكون. عابرا ما بين الطبيعة وما وراءها من بوابة الصحراء التي يراها ركن أركان التجربة البشرية الروحية.

ربما يطبق الكُوني على نفسه ما يراه واقعا على الأشياء الحقيقية. فهذه الأخيرة تنفي نفسها لتولد في نقيضها. فهو يعمل على ألا ينقرض الطوارق ثقافة إذا ما انقرضوا جسداً. هذه نبوّته التي يراها صليباً يحمله وحده. صليب حرمه رفقة الزوج سنوات طوال. إلا أنه في الختام تزوج من طوارقية أحبت قلمه. وسكن لها وسكنت له في تلك الجبال. ربما لم تر في كتاباته عداوة المرأة كما حاولت الصحف العربية أن تُظهر. فهو من قال بأن “الخالق لا يشرك بنفسه أحداً ولا تشرك المرأة بنفسها أحداً، فكيف تجتمع المرأة وخالق المرأة في قلب واحد؟”. ولكنه يدافع عن حق الأنثى التاريخي بالربوبية التي فقدتها مع الانقلاب الذكوري المتزامن مع الرسالات السماوية التوحيدية. حيث انتقل التوحيد من حيز الوجود الملموس إلى حيز الموضوع المجرد. ومن حيز الربة الأم الوالدة لكل شي إلى حيز الرب الواحد الأحد. فاستحالت الربة الأنثى شيطاناً لا يجد مكاناً في قلب امتلأ بالله. ومخدعها إذا ما احترفه الرجل أخفق في كل شيء.

ابتعد الكُوني عن مخادع نساء الغواية وخاض معابد الأنثى الملهمة. فوَلد من جيناته المفكر الذي يظهر الوقائع والحقائق. وخلق من ذاته المبدع الذي يخفي أسرار عشيرته وأهله وذويه. فسرُ الشعوب يَقتل أصحابه إذ أفشي. هذا السر الذي حمله الكوني ويحاول الحفاظ عليه تركته الأمة العربية سراً وقيمة، أي سر الصحراء وقيمها. ولذا فالأمة اليوم في مأساة كبرى كما يرى. وتكتمل هذه المأساة مع الثورات الطامحة إلى التغيير والتي يراها الكُوني جزءاً من “الحنين إلى التغيير الموجود منذ بداية الخليقة بدليل آدم الذي سعى لتغيير واقعه لكونه حرّ الإرادة، وهذا التغيير لم يجلب له السعادة ولم يجلب له الحقيقة، بل جلب لنا نحن الأسلاف اللعنة، وأنا أبحث عن سند ديني لاغتراب التغيير والكل يسعى له رغم أنه مخيب للآمال”. هذه النظرة الفلسفية ذات المرجعية الدينية الأسطورية يسدلها الكُوني على الثورات العربية دون أي موقف سياسي مساند للديكتاتورية أو داعم لها.

 

المجوس والغرباء

ابن واحة غدامس في قلب الصحراء الأفريقية كتب عن مدينته الفاضلة في روايته “المجوس” رواية مدينة السعادة المعادلة للفردوس الضائع. هناك أعاد تشكيل قصة الخروج الأول للجد الأكبر للبشر والذي أطلق عليه اسم “مندام” من الفردوس إلى عالم الشقاء الأرضي لتلاحق اللعنة نسله. فأصبح “الموت رفيق الصحراويين، سرّ الصحراويّ أنه لا يخاف الموت. يقال إنّه نزل إلى الحياة بصحبة الموت، وعندما استنشق الهواء وأخذ أوّل نفس من فتحتي الأنف، توقّف الموت ورفض أن يدخل إلى الجوف. قال للإنسان: أنا أفضّل أن أمكث هنا وانتظر. حفر مأوى بين فتحتي الأنف والشفة العليا، في هذا الضريح يرقد الموت”.

تلك الأقوام الصحراوية القديمة التي عرفت بالطوارق “لا يطلقون على أنفسهم هذا الاسم فهم كأمم كثيرة يطلقون على أنفسهم اسماً آخر مستعاراً من تراثهم وتاريخهم وتجربتهم ولغتهم وهو “إيموهاغ” وهو جمع لمفردة “أماهغ” الذي يعني الغريب أو النبيل أو الضائع أو المحروب المغلوب على أمره، حتى أنهم يرددون في أمثالهم عبارة تقول “إيماهوغ أمهيغن” أي الطوارق مفقودون أو مسلوبون، تعبيراً عن إحساسهم العميق بضياعهم لا في المتاهة التي تمثلها الصحراء الكبرى وحسب ولكن تعبيراً عن إحساسهم التراجيدي بالضياع في الوجود الإنساني” هكذا يقدم الكُوني أهله وعشيرته في مقدمة كتابه بيان في لغة اللاهوت الذي يشرح فيه اللغة البدئية التي هي برأيه اللغة الدينية الأولى وهي وليدة لغة الطوارق التي كانت أول اللغات الساكنة التي يمثل فيها كل حرف كلمة.

 

الله والشيطان

ويتابع الكُوني في هذه الموسوعة التي تُعتبر خلاصة جهده الفكري بمسألة اللغات التي يربطها بتاريخ قبيلته وقومه. قوم اشتهروا بلثام يغطي كامل الرأس وبالذات الفم. هذا اللثام الحارس يقع ضمن تفسيرات اللغة البدئية، “يبدو أن ما يقال عن الفم كتعويذة لاحتوائها على عضلة سحرية هي اللسان، يمكن أن يقال عن الأسد كحارس لهذا الحَرم”. لفظة “آهر” الطارقية التي تعني بالعربية “أهرة” أي الباطن، هي لفظة مزدوجة الدلالة تعني أسداً من ناحية، وتعني الغطاء أو الغلق، من ناحية أخرى.

لم تلق موسوعة اللغة البدئية عظيم اهتمام في العالم العربي. رغم أنها كشفت برأي الكوني الكثير من الدلالات اللغوية وبينت أن كلمة الله لفظ الجلالة على سبيل المثال هي الحامل للحرف السري “اللم” وهو الحرف الدلالة لله. وفي حديث آخر بالجزء الثالث من الموسوعة حضر مفهوم الشيطان الذي تطور عن لفظة طارقية هي “ست” ويقول الكُوني هنا “يُخضع قاموس الطوارق تحريماً صارماً على الدم والرماد ويضعهما في نفس المستوى من التابو، فيحترس المسافر من المبيت في دِمَنِ البيوت، أو الأمكنة التي خلفت فيها الأقوام رماداً أو دارت فيها معارك أسفرت عن سفك دماء ليقين أهل الصحراء بوجود الأرواح الشريرة في كليهما”، والمفارقة أن كلمة رماد تعني “إست في البدئية التي ما تزال تجري على لسان الطوارق إلى اليوم”، ومع تطور الكلمة استبدلت اللهجات السين شينًا في لهجة طوارق “آير” فأصبحت “شظ” التي باتت تعني قبيحا وشريرا، “شظ أو شث” تطورت في لغات الوحي في المراحل التاريخية التالية ليصير مبدأً عالمياً للشر في اسم شيطان (Satan).

تستمر الموسوعة بسرد وتفسير الحروف مروراً بحرف الباء الذي يسميه الكُوني بباء الروح. حرف جُبل في اللسان البدئي على مبدأ الثبات بل إن كلمة “ثبت” العربية ما هي في الحقيقة إلا هذه الباء البدئية إذا جردناها من حرف التاء كأداة تأنيث. ذات التاء يراها الكُوني تاء الخلق الأنثوي، وفي الجيم الخلق، وفي الدال الدين أو أعجوبة الطين، والزّاي هي الكيان المقدس، وفي الكاف الحضور المقدس أي الجذور، والفاء هي النور، والهاء السكينة، والواو الوجود أو الميلاد.

 

قلمه

كتب الكُوني “ثورات الصحراء الكبرى” عام 1970، وبذات العام أتبعه بكتاب “نقد ندوة الفكر الثوري” التي عقدها القذافي، وبعدها خاض مخاضات الأدب وابتعد عن السياسة المباشرة فكتب “الصلاة خارج الأوقات الخمسة” عام 1974، وفي ذات العام كتب “ملاحظات على جبين الغربة”، لينقطع قرابة عشرة أعوام ويعود للكتابة عام 1986 في “شجرة الرتم” لتليها عام 1989 رباعية “الخسوف من بئرها إلى الواحة فأخبار الطوفان الثاني” ليختمها بـ”نداء الوقواق”، وفي عام 1990 كتب روايتي “التبر” و”نزيف الحجر” و”قصص القفص” والجزء الأول من رواية “المجوس” وفي العام التالي صدر الجزء الثاني وهذه الرواية نالت الجائزة الكبرى في سويسرا عام 2012، وفي عام 1991 أصدر “قصص ديوان النثر البري” و”قصص وطن الرؤى السماوية” و”الخروج الأول إلى وطن الرؤى السماوية”، وفي العام التالي كتب “الوقائع المفقودة من سيرة المجوس” و”الربة الحجرية ونصوص أخرى” وفي العام 1993 كتب “جرعة من دم” وفي العام التالي كتب “خريف الدرويش” ورواية “الفم” والجزء الأول من رواية “السحرة” والجزء الثاني صدر عام 1995، وبذات العام صدر له أيضا “فتنة الزؤان” وهي الرواية الأولى من ثنائية “خضراء الدمن” وفي عام 1997 كتب “بر الخيتعور”ورواية “واو الصغرى”، و”عشب الليل” وفي العام التالي كتب رواية “الدمية” ونصوص “صحرائي الكبرى” ورواية “الفزاعة” ونصوص “الناموس – بحثا عن ناموس ل(واو)” وفي العام التالي كتب “في طلب الناموس المفقود” وملحمة “سأسير بأمري لخلاني الفصول” بثلاث أجزاء وبذات العام كتب نصوص “أمثال الزمان” ونصوص “وصايا الزمان” و”نصوص الخلق” و”ديوان البر والبحر”، وفي عام 2000 كتب رواية “الدنيا أيام ثلاثة” ونصوص “نزيف الروح” و”أبيات” و”بيت في الدنيا وبيت في الحنين” وفي العام التالي كتب “رسالة الروح” وبدأ بنشر موسوعته اللافتة التي تحمل عنوان “بيان في لغة اللاهوت” فصدر منها سبعة أجزاء فقط، وفي العام 2002 كتب متون “المحدود واللامحدود” ورواية “لون في مديح مولانا الماء” وفي العام التالي كتب “منازل الحقيقة” و”أسطورة حبّ إلى سويسرا” و”البحث عن المكان الضائع”، وفي عام 2004 كتب رواية “أنوبيس” وأساطير ومتون “الصحف الأولى” و”مراثي أوليس” وفي العام التالي كتب متون “صحف إبراهيم”، وفي العام 2005 كتب رواية “ملكوت طفلة الربّ” و”لون اللعنة” وفي العام التالي كتب متون “هكذا تأمّلت الكاهنة ميم” ورواية “نداء ما كان بعيداً” و”في مكانٍ نسكنه..في زمانٍ يسكننا”، وفي عام 2007 كتب رواية “يعقوب وأبناؤه” و”قابيل.. أين أخوك هابيل؟!” وفي العام التالي كتب روايتي “الورم” و”يوسف بلا إخوته” وفي العام 2009 كتب روايتي “من أنت أيها الملاك؟” و”رسول السماوات السبع″، وفي العام التالي كتب متون “وطني صحراء كبرى” وفي العام 2011 كتب روايتي “جنوب غرب طروادة جنوب شرق قرطاجة” و”فرسان الأحلام القتيلة”، وفي العام التالي كتب متون “ثوبٌ لم يدنَّس بسمّ الخِياط” وبدأ بكتابة مذكرات تحت عنوان “عدوس السُّرَى” وفي العام 2013 كتب الجزء الثاني منها.

ونال هذا القلم جوائز عدة كانت أولها جائزة الدولة السويسرية على روايته “نزيف الحجر” عام 1995، ومن ثم جائزة الدولة في ليبيا، على مجمل الأعمال عام 1996، وفي العام التالي حصد جائزة اللجنة اليابانية للترجمة، على رواية “التبر”، وفي عام 2002 نال جائزة التضامن الفرنسية مع الشعوب الأجنبية، على رواية “واو الصغرى”، وعاد ليحصد جائزة الدولة السويسرية الاستثنائية الكبرى، على مجمل الأعمال المترجمة إلى الألمانية عام 2005، وبذات العام نال جائزة الرواية العربية في المغرب، وبذات العام نال جائزة رواية الصحراء (جامعة سبها – ليبيا)، وفي عام 2006 قلد وسام الفروسية الفرنسي للفنون والآداب، ونال جائزة (الكلمة الذهبية) من اللجنة الفرنكفونية التابعة لليونسكو، وفي العام 2010 نال جائزة ملتقى القاهرة الدولي الخامس للإبداع الروائي العربي التي أهداها إلى أطفال الطوارق.

 

كاتب للغد

صاحب هذا التاريخ الطويل في الكتابة والرواية والفكر ولد في غدامس بليبيا عام 1948، اختارته مجلة “لير” الفرنسية بين خمسين روائياً من العالم سمتهم “خمسون كاتباً للغد”. أنهى دراسته الابتدائية بغدامس، والإعدادية بسبها، والثانوية بموسكو، حصل على الليسانس ثم الماجستير في العلوم الأدبيّة والنقدية من معهد غوركى للأدب بموسكو عام 1977.

يجيد تسع لغات، نشر إنتاجه الأدبي بجريدة فزان والبلاد، والفجر الجديد، والحرية والميدان والحقيقة والأسبوع الثقافي وطرابلس الغرب ومجلة المرأة وليبيا الحديثة والكفاح العربيّ والصداقة البولونية.

تقلد مناصب مختلفة منها في وزارة الشؤون الاجتماعية في سبها ثم وزارة الإعلام والثقافة، وعمل مراسلا لوكالة الأنباء الليبية بموسكو عام 1975، ومندوب جمعية الصداقة الليبية البولندية بوارسو عام 1978، ومستشارا إعلاميا بالسفارة الليبية بموسكو 1987 ومستشارا إعلاميا بالسفارة الليبية بسويسرا عام 1982.

 

 

*نقلا عن العرب اللندنية