اعتاد الليبيون وقبل أي استحقاق وطني، ارتفاع وتيرة المطالبة بتحقيق المصالحة الوطنية وفق تسوية وطنية تنقل ليبيا من حال إلى حال، كما يرددها اليوم أقطاب السلطة الجديدة في ليبيا. والحديث عن التسوية الوطنية واشتراطات تحقيقها ينبغي أن نحدد إطارها العام ومن المستهدف منها، وكيفية تحقيقها، ومن الذي يضمن أن لا تكون كسابقاتها التي لم ترَ النور؟ ونضيف: هل أركان السلطة الجديدة في ليبيا ومعها الطبقة السياسية بكل مسمياتها، وصلت إلى قناعة بأن الحل لتجنيب ليبيا المزيد من الإخفاقات هو الطريق إلى التوافق المجتمعي؟ وحتى نكون واقعيين ونقرب الصورة بشكل أوضح في رؤيتنا لأفق نجاح المبادرة، ينبغي أن يبادر إلى طمأنة المشمولين بالتسوية السياسية ومن هم الذين أضاعوا فرص الحل والمبادرات لتجنب ليبيا ويلات جديدة. وهنا نتوقف عند قناعة وموقف السلطة الجديدة في ليبيا، بالانفتاح على مؤيدي نظام حكم القذافي، وإشراكهم في الحكم، حتى نصل بالتسوية إلى آفاقها المنشودة، رغم أن واقع الحال المعاش لا يتطابق مع الأمنيات، ولا يساعد على تحقيق التسوية والوحدة الوطنية، والسبب أن بعض هذه القوى الأخوانية التي تتلقى تعليماتها من تركيا، تتصرف وفق نظرية الغالب والمغلوب، وهذه القناعة تضع مشروع التسوية والوحدة الوطنية، على مسار سابقاتها.

لقد بات واضحا أن الإطار العام للتسوية والوحدة الوطنية ـ مثار البحث ـ يتطلب قرارات حقيقية وتاريخية، في مقدمتها التخلي عن إقصاء أنصار القذافي، والاعتراف بشراكتهم ودورهم في صياغة مستقبل ليبيا وفق مبدأ التوافق والقرار الجماعي. وحتى لا نكون كالذي يحرث في الماء، فقد اعتبرت ستيفاني وليامز، القائمة السابقة بأعمال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، في حديث نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الاثنين الماضي، أن قرارات العزل السياسي التي اتخذها "ثوار فبراير" لاستبعاد مؤيدي نظام القذافي، ومنع مسؤولي النظام السابق من تولي مسؤوليات في الحكومات المتعاقبة، أدت إلى عدم القدرة على إدارة الدولة... ما أدى إلى الصراع والعجز عن حصر السلاح بيد الدولة بطريقة ما، وانتشار الميليشيات"، واصفة ذلك بـ"الكوكتيل القاتل".

قد نعترف أن تناولَ ما يجري من أحداثٍ في ليبيا قد يبدو عملياً أشبهَ بعبورِ حقل ألغام، ويستحق الكثير من العنايةِ والتدقيق لا وجهاتَ نظرٍ شخصية مسبقة ولا حتى لأيديولوجيات قد تبدو كمن يكرّرُ اتهامات لا طائلَ منها، بل علينا الإجابةِ عن التساؤل الآتي: لماذا عدم إشراك أنصار النظام الليبي السابق وتيار سيف الإسلام القذافي في العملية السياسية؟ ربما كثر ممن يتعاطونَ مع المجريات في ليبيا يتجاهلونَ الحديث عن الهدف الأساس لهكذا منع، من أولئك الذين دخلوا ليبيا على ظهرِ دبابات حلف الناتو، وما زالوا يمارسونَ فسادهم الإداري والمالي بحقّ الشعب الليبي حتى يومنا هذا. وهذه العقلية هي من نتاج الصراعات الهوياتية، التي تحيل الأفكار والسياسة والقضايا إلى "أديان" أخرى، ينجم عنها ثنائيات الحلال والحرام، والمقدس والمدنس، والتكفير والتخوين، بدلاً من التواصل والتفاعل والانفتاح والتكامل، التي هي نتاج العقلانية والسياسة.

بعد الإطاحة بنظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وبعد تسلم ''ثوار فبراير'' مقاليد حكم البلاد والعباد، زج بعدد من الأبرياء من النظام السابق في السجون دون محاكمات، وقد أدى توسيع رقعة العزل على هوى الأحقاد وتصريف الإنتقام إلى عديد المظالم، واستسلمت السلطة الجديدة إلى ما يسمى بنبض الشارع وإلى الكتائب المسلحة المحيطة بمقرات الوزارات أو إلى إرادة ميليشيات فوضوية تتصرف حسب إشاعات الفيسبوك، فساد الانتقام و تفشي التشفي والرمي بمجرد الظن...
''ثوار فبراير'' صادرت أملاك معمر القذافي وعائلته، وأقربائه ورموز حكمه، ومناصريه... فور صعودهم للحكم بدلا من أن يعدلوا فهو أقرب إلى التقوى، تملكت منهم غريزة الانتقام، وبدأ مخطط تقسيم ليبيا باستبعاد قبيلة القذاذفة أحد مكونات القبائل الرئيسية، وما عقب ذلك من حقبة مظلمة تاريخية، جعلت ليبيا رهينة هذه الحرب الطاحنة الدائرة منذ 2011 وحتى الآن، والتي حصدت أرواح الآلاف، لم تزهق أرواحهم في فترة حكم الراحل العقيد معمر القذافي، أو في أي من مراحل تاريخ ليبيا في العصر الحديث. فلم يبق لليبيا لا جيش قوي منضبط ولا إدارة ناجعة فعالة ولا جامعات علمية ولا متاحف ولا مشافي ولا نفط يضخ الخير على الناس. فكان عزل أنصار النظام السابق في ليبيا عزلة لليبيا، وإلى يومنا هذا لم تقم للدولة قائمة، حيث انقسمت ليبيا إلى قبائل، وهاجر من بلد المجاهد عمر المختار، مآت الآلاف، بينما تنتج أرضهم جميع الخيرات من النفط إلى الزراعة إلى الصناعة إلى أعلى نسبة في إبداع الفكر و طباعة الكتب.

للأسف الشديد، ليبيا اليوم تتصدر قائمة الدول التي تعاني من ظاهرة العزل السياسي والاستهداف والانتقام والاجتثاث لمكون سياسي وأساسي، الأمر الذي أدى إلى إيقاع أفدح الخسائر المادية والبشرية والإنسانية بمآت الآلاف، ما أثار قلق منظمات حقوق الإنسان التي عدت ما يتعرض له أنصار النظام السابق، المشمولون بالعزل السياسي بأنهم ضحايا لسياسة ممنهجة تستند إلى الكراهية والانتقام على خلفية سياسية تهدف إلى حرمان هؤلاء من حقوقهم المدنية التي كفلتها القوانين. لقد تعرضت مجاميع كبيرة من نخب ليبيا وعلمائه من شرائح مختلفة بعد ''ثورة ثوار فبراير'' تعرضت هذه المجاميع لحملة ممنهجة من قتل وتهجير واجتثاث وفصل تعسفي من وظائفهم والرمي بهم بغياهب السجون دون محاكمات، وهي أكبر عملية إقصاء تعسفي في التاريخ الحديث بسبب فكرهم السياسي وانتمائهم... إنّ الكفاءات الليبية المناضلة التي عزلت وسجنت وعذبت وهجرت وأهينت وفعل بها الأفاعيل... ذنبها أنها خدمت الدولة لا القذافي، وحافظت على مصالح ليبيا لا مصالح سيف الإسلام.

إنّ الشروع بحملة وطنية ودولية باتت ضرورية لإنصاف المتضررين من قوانين الاجتثاث والعزل والانتقام لرفع غبن القوانين وآثارها التدميرية على المجتمع وحقوق الإنسان الليبي، في محاولة لتعطيل هذه القوانين وتداعياتها التي تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المشمولين بهذه القرارات لأن السكوت على هذه الممارسات الانتقامية سيشجع القائمين على تنفيذها لتوقع أفدح الخسائر بشرائح أخرى... وليس بمعزل عن ذلك، يحق القول إن العزل السياسي بالنسخة التي طبقتها حكومة ''الوفاق الأخوانية'' يمثل خرقًا للمعايير الاجتماعية، إذا أخذنا بحقائق الأمور التي تشير إلى أن أغلبها يتحرك بمضامين من الأغراض الشخصية الخالصة، أو بدافع المناكدة والإزاحة خوفًا من المنافسة مع إضافة بعض (المقبلات) المصنوعة من الافتراءات والتلفيق ليس إلا.

إن أرضية التسوية والمصالحة الوطنية، في ظل السلطة الجديدة، هي الآن صالحة لتحقيق ما يصبو إليه الليبيون؛ لأنهم وصلوا إلى قناعة أن المستقبل مرهون بوحدتهم وعبورهم حائط التخندق الأيديولوجي والحزبي، لأنهم خبروا سنوات العنف الماضي وويلاته، وباتوا على قناعة أن من يصنع المستقبل والحياة الحرة هو من يؤمن بوحدة ليبيا ودولة مدنية تسودها العدالة، ويحكمها القانون، وتضمن حقوق الآخرين بالحياة الحرة الكريمة. وحتى نقترب من تحقيق هذه الآمال لا بد من بداية حقيقية لأي تسوية سياسية أو وطنية تتطلب الإقلاع عن الانشغال بالماضي، وتكريسه سلعة متداولة للحاضر، لأن مخاطر هذا الانشغال والركون إليه سيدمر ليبيا، ويفشل أي محاولة جادة لأي مخرج سياسي لأزمات ليبيا. من هنا يمكن أن نراهن على مشروع التسوية الوطنية وأفقها العابر للحزب والأيديولوديا والقبيلة، لأنها أصبحت الملاذ الآمن الذي يحقق لليبيين الاستقرار وتطلعاتهم بوطن يحكمه الجميع من دون خوف وقلق على مستقبلهم.
خلاصة الكلام: إن من يتحدث عن مستقبل ليبيا، والتسوية السياسية والوحدة الوطنية والأمن المجتمعي، عليه أن يوقف مسلسل الثأر والعزل السياسي ومفاعيل الإجراءات الانتقامية التي طالت ملايين الليبيين قبل أية خطوة باتجاه المصالحة المجتمعية والتسوية الوطنية. وقطعاً لا يمكن حدوث ذلك إلا عبر حوار واسع ومجتمعي في الداخل الليبي، حوار لا يستثني أو يقصي أي من المكونات الليبية، وأقصد إشراك أنصار النظام الليبي السابق وتيار سيف الإسلام القذافي... ودون تحقيق ذلك، سيكون معناه صعوبة بل استحالة التئام اللحمة الوطنية الليبية في البلد المنهك الذي بلغ البؤس فيه مدى بعيداً وخطيراً.
كاتب صحفي من المغرب.