عندما غنى محمد حسن قبل حوالي 20 عاما على مسرح مملوء على آخره في قرطاج بتونس، كنت صغيرا حتى ذائقتي الفنية مازالت مبتدئة والفهم الموسيقي والفني كان بسيطا ومازال. وقتها لم تكن عندي أمنيات كبيرة. كانت أمنيتي في ذلك اليوم أن أكون في المسرح أمام هرم كبير من أهرامات الفن العربي. كانت تعوزني السن والمسافة والمادة. لكن خلال تلك السنوات لم تعزني سيارة والدي القديمة لكي أشتري خفية عنه أشرطة محمد حسن وأسمعها فيها.
تعلقي بمحمد حسن وأغانيه ربما لم يساوه أي تعلق بفنان عربي آخر مهما كانت قيمة فنه، بمن فيهم فنانو بلدي تونس. كنّا جيلا كاملا منبهرا بسفير الأغنية الليبية. بطبعنا في جنوب البلاد كانت تربطنا علاقة خاصة بليبيا، لكن الفنان الراحل عمق تلك العلاقة. وإضافة إلى قيمته عندنا فقد صنع لنا نجمة تونسية هي ذكرى محمد التي كانت سفيرة هي الأخرى لنا في ليبيا بفضل الملاحم الكبيرة التي لحنها لها الموسيقار الكبير الذي منحها شهرة لا تقل عن شهرته هو.
لا أعتقد بيتا في جنوب تونس خلال كامل فترة التسعينات من القرن الماضي تغيب عنه أشرطة محمد حسن. كنا نحس، وهذا ليس استنقاصا من أغانينا التونسية، أن الفن الليبي هو المعبر الحقيقي عنّا وعن ذائقتنا الفنية. ربما القرب الجغرافي، ربما القرب في الطباع واللهجة والثقافة الاجتماعية، ربما الكلمات الجميلة التي تخرج من صوت جميل بلحن جميل، بل ربما كل تلك الأشياء مجتمعة. بفضله أحببنا ليبيا الثورة التي غنى لها وكان وفيا صادقا ولم يتراجع أو يخن مثلما فعل كثيرون غيره، جَاحِدو نعمة ونَاكِرو معروف.
ما ميّزه عن غيره أنه غنى لنا أبناء الأرياف بالكلام الذي نريد، بالكلام الذي أحسسنا أنه يمثلنا ويعبّر عنّا، كلماته كانت من تراث البوادي ونحن أبناء بادية. كان يخاطبنا بلغة الخِيام والفرسان والملاحم التي يعيشها أهل الصحراء. والتحدّي في كل ذلك أنه غناه في قلب كبرى مدن العالم، المدن التي كانت تسمع فيها إلا أغاني الطبقات الأرستقراطية. أن تنصب خيمة في قلب باريس أو لندن أو قرطاج وأنت تلبس "الحولي الليبي" فذلك في حد ذاته اختراق من البادية للمدينة التي كانت تعتبر نفسها دائما متعالية، قليلون من فعلوا ذلك ومحمد حسن منهم.
خلال 10 سنوات من نضجنا العمري والعقلي، كنا نستمع إلى محمد حسن، ومعه كنا نسمع عمالقة كبارا مثل عبدالوهاب أو أم كلثوم أو غيرهما، لكن المؤكد أن حسن أحب إلينا وأقرب إلى قلوبنا، والرجل بالفعل في قيمتهم وأكبر رغم الحظوة الإعلامية التي نالوها هم ولم ينلها هو باستثناء بلده. خلال كل تلك السنوات كنا نجلس آخر الليل أمام التلفزيون الليبي لنسمع شيئا من أغانيه الجميلة التي لم تكن تستحق كثير صناعة لتُحَب، كانت تصل بسهولة إلى آذاننا وقلوبنا.
كنا جيلا كاملا من الشباب يسمع بحماسة إلى "تحية عربية" و"يا قايد ثورتنا" و"أرسم وطنا"، فعلمنا أن نحب هذا الوطن المجروح من محيطه إلى خليجه. علمنا أن نرسم فلسطين، ليس على خرائط ورقية بل في قلوبنا كأننا نُدخِلُ حبا جديدا ونكون له أوفياء. علمنا كيف يكون الإنسان عربيا بالأغنية. في لحظة غياب الكرامة العربية حضرت أغاني محمد حسن لتعيد لنا شيئا منها.
أحببنا "يسلم عليك العقل" و"تجرح في" و"ليش بطا" و"عقلي دليلي"، وكنا نصنع لأنفسنا قصص عشق جميلة لكي تعبّر عنها أغاني محمد حسن، الرجل كان كتلة من العواطف التي تعبّر عن مشاعر كل من يسمعه يغني، ساعَدَتْهُ في ذلك كلمات راقية تنطق حكمة وصورا جميلة، بفضل شعراء كبار، لكن تبقى قيمته هو محفوظة بفضل قدرته الكبيرة على اختيار كلماته وإخراج أغانيه ذلك الإخراج المميّز.
هذا هو محمد حسن الفنان الإنسان الذي أحببناه، الفنان المتواضع بشهادة كل من عاصره وعرفه عن قرب، الفنان الذي إذا ذكرت ليبيا ذكر معها وعرف بها وعرفت به. يرحل عنا جسدا، لكن يبقى معنا تاريخا فنيا ناصعا تردده الأجيال القادمة في ليبيا وخارجها. كانت موتته منتظَرة بعد أن أنهكه المرض، وكانت لوعته منتظَرة أيضا. فقدنا أبا رمزيا أحببناه بصدق وربما أحبنا هو أيضا بصدق، لكن عزاءنا فيه أنه ترك لنا إرثا غنائيا ثريا نتذكره به. رحم الله محمد حسن الفنان الإنسان. كلنا عائلته التي افتقدته.
"يسلّم عليك العڨل" محمد حسن