تتردد جملة "ما بعد كورونا" اليوم كثيرا على ألسنة الناس، إلى درجة تشعرك، كأن هناك انتفاضة قادمة سوف تزلزل كل القناعات، وتربك كل الخطط والبرامج، وتزيل من على فوق الأرض كل العقول التي عشش فوقها الجهل والتخلف، وخيمت على مساحات التطور والنمو... وقبيل نهاية العام 2021، هاجم البشرية المتحور الجديد "أوميكرون" الذي سرعان ما أثار الرعب بين الناس، وفرض نفسه بقوة على نشرات الأخبار، وتمكن من احتلال الواجهة رغم المصائب العديدة التي تعيشها الدول، وبدخول العام 2022 يكون "كوفيد-19" قد دخل عامه الثالث في الكثير من دول العالم، والأكيد أنّ الاقتصاد العربي واجه في عام 2021 العديد من التحديات بسبب استمرار هذه الجائحة، وعدم المساواة في اللقاحات، ولكن مع ظهور متحورات جديدة من فيروس كورونا، ظهر سؤال: هل يغيّر الوباء الجديد طريقة تفكيرنا في الاقتصادات والمجتمعات؟ وكيف سيكون المشهد الاقتصادي العربي العام المقبل؟
في ظل نقص، كي لا أقول انعدام الدراسات الاستشرافية الرصينة عن الوضع العالمي بعامة والعربي بخاصة، بعد كورونا ومتحوراتها، يصعب الخوض في هذا الموضوع الشائك إلا على سبيل التكهن، فقد فوجئت المنطقة العربية في أواخر العام 2019 بتداعيات فيروس "كورونا" المسبب لمرض "كوفيد-19"، وهي مستمرة بأضرارها للاقتصاد العربي، حيث قدرت خسائر الشركات العربية في رأسمالها السوقي بنحو 420 مليار دولار، وخسارة نحو 40 مليون عربي وظائفهم، ما أسهم في ارتفاع نسبة البطالة. لقد انتشرت جائحة "كوفيد-19" في المنطقة العربية في وقتٍ ترزح فيه الاقتصادات تحت وطأة النزاعات والضغوط المالية المتزايدة، وتواجه البلدان العربية، وفق تقرير اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا) تحديات اجتماعية مثل الفقر الذي تصل نسبته إلى 32 في المائة، ليشمل 116 مليون عربي، وتحدي البطالة التي ترتفع نسبتها إلى 12.5 في المائة، وتوقع التقرير سيناريوهين اقتصاديين، أحدهما متفائل بتحقيق معدل نمو 3.5 في المائة خلال العام الذي نودعه، والثاني أقل تفاؤلاً بأن لا يتجاوز النمو 2.8 في المائة، على أن يتحدد المسار بناءً على قدرة البلدان على مواجهة وباء "كورونا" الذي بسببه خسرت المنطقة نحو 140 مليار دولار في العام 2020، ولوحظ أن توقعات "الإسكوا" قريبة من توقعات صندوق النقد العربي التي أشارت إلى تحقيق نمو 2.8 في المائة في العام الذي نستعد لتوديعه، ونحو 3.6 في المائة في العام المقبل، وذلك في ظل التعافي المرتقب للاقتصاد العالمي، واستمرار السياسات النقدية والمالية التوسعية، والأثر الإيجابي للإصلاحات الاقتصادية التي يجري تنفيذها في عددٍ من البلدان العربية، "التيسير النقدي"، حيث بلغت حزمة ضخ السيولة من قبل ثلاثة بلدان خليجية (السعودية وقطر والإمارات) أكثر من 63 مليار دولار، لضمان توافر مستوياتٍ كافية من النقد لدعم التعافي الاقتصادي الذي بدأ بشكلٍ تدريجي في الربع الثالث من العام الماضي.
ويقيناً فقد عجز الساسة والأطباء والعلماء والخبراء المحنكون ومراكز الأبحاث والدراسات واستشراف المستقبل عن الإجابة على أهم سؤال وهو: كيف سيكون العالم العربي ما بعد كورونا ومتحوراتها؟ وعن هذا السؤال يصعب أن نجد إجابة قاطعة وشافية، لأن الأمر يتعلق بالمستقبل من جهة، ولأن ثمة روايات عدة ومتناقضة في تفسير ظهور الفيروس، وكل واحدة من هذه الروايات تصلح أساساً لقراءة المستقبل قراءةً مختلفةً، لكننا يمكن أن نلاحظ في هذا المجال اتجاهين عامين يميل أحدهما إلى تضخيم تداعيات الجائحة وآثارها إلى حد القول بأن العالم سيشهد بعدها تغيرات دراماتيكية تقلبه رأساً على عقب، بينما يميل الاتجاه الثاني إلى التقليل من شأن هذه التغيرات المزعومة وقدرتها على إحداث انقلاب جوهري في النظام العالمي السائد... وما يزيد من صعوبة تصور الوضع العالمي ما بعد كورونا ومتحوراتها، هو أن هذه الأزمة مركبة وذات أبعاد متعددة، سياسية واقتصادية وصحية وفكرية وأخلاقية... وكل هذا يتطلب توخي أكثر ما يمكن من الحذر وتوخي أكثر ما يمكن من الموضوعية إذا أردنا أن نتحدث عما سيكون عليه العالم بعد الجائحة ومتحوراتها، لكن السؤال الذي يهمنا في عالمنا العربي: هل ستتغير الأجندات الوطنية والإستراتيجيات الدولية بعد تجاوز تبعات فيروس كورونا على دول العالم؟
سؤال مطروح ويمتلك الطرح شرعيته، من خلال ما شكله هذا الفيروس من صدمة قوية على المستوى العالمي، سواء كان ذلك في البعد السياسي أم الشعبي والجماهيري، فقد عرّى الفيروس أنظمة كثيرة، وبين درجة قصورها في مجال الصحة العامة، وتركيزها على فكرتي استحواذ المال وعسكرة العلاقات الدولية وتكريس ثقافة القوة في إدارة العلاقات الدولية، فيه تجاوز واضح لميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية والحقوق الطبيعية للدول والأفراد، وترافق ذلك كله في اعتداء على الطبيعة، تمثل في قطع الأشجار، وما نتج عنه من تصحر وحرق الغابات وتلويث البيئة عبر نفايات وأبخرة المصانع والمعامل، وعدم التقيد باتفاقية المناخ، إضافة إلى إقامة سدود عملاقة تشير الدراسات الجيولوجية بتأثيرها السلبي في حركة محور الأرض وانزياحاته، إضافة إلى التفجيرات النووية واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في الحروب... وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا إنها حالة انعدام الثقة بين دول العالم، ولاسيما بين الأقطاب الكبرى التي تجلت في المرحلة الكورونية المعولمة، والتي باتت أكثر قدرة وتأثيراً على حياة الشعوب وإلى درجة أصبحت من خلالها منظمة الصحة العالمية أكثر سلطة وأكثر قدرة ومنعة وحصانة تتجاوز من خلالها أي قيادة سياسية في وسط هذه الأزمة، في الوقت الذي لم يعد فيه من هو قادر على مخالفة تعليماتها بشكل أو بآخر، وفي الوقت الذي أصبح فيه جميع سكان قارات الأرض مطالبين بتقديم ما لديهم من معلومات بشفافية ووضوح غير مسبوقين، وإلا فإن هنالك عقوبات عالمية ستفرض من تلقاء نفسها معاقبة من يحاول خديعة الآخر، سواء أكانت هذه الخديعة عبر تقديم معلومات مغلوطة، أم كانت من خلال عدم تقديمها أيضاً.
فالأزمة الكورونية على صعيد العالم العربي، متلاصقة مع الواقع العربي المتخلف والمتشظي إلى درجة مأساوية، الأمر الذي جعلها تأخذ بعدا آخر على الصعيد السياسي العربي المشتبك مع ذاته، لتصبح أزمة الفيروس الذي لا يعرف هوية أو عقيدة، ميداناً لتراشق الاتهامات والجدل العبثي الساذج، والمتصفح للواقع العربي يكتشف حجم المأساة التي يعاني منها العرب على خلفية الأزمة الكورونية الكارثية، مما يؤكد هشاشة وهزال التعاطي السياسي العربي مع وباء ينتشر بسرعة دون تمييز بين حاضن عربي وحاضن غير عربي، ودون أن يقف عند حدود آمنة لأي دولة عربية، ولا حتى عند حدود الوطن العربي وغيره من الحدود الأخرى، لأنه لا يتطلب في تنقله تأشيرة سفر، ولا استمزاجا أمنيا لدخوله. لقد تركت الجائحة تراكمات وتداعيات كثيرة ولا يمكن تحديد طبيعة المستجد من الجائحة في عامها الثالث، لكن تجربة السنتين المنصرمتين كانت قاسية بجميع المقاييس، إذ ضربت أعماق المجتمعات العربية، وتسببت بأنماط حياتية جديدة... ومن باب الاستشراف، فالعالم العربي يستشرف أمالا كبرى مع كل محطة كونية كجائحة كورونا ومتحوراتها، وهذا الاستشراف هو الذي يكبر في مخيلتها حلم التغيير، وحلم التبدل من حال إلى حال، وحلم تحقيق الأماني التي غيبتها أطماع الإنسان المستقوي على من يمثلون الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية، من الضعفاء والفقراء والمساكين...
ولذلك فجملة "ما بعد كورونا" لم تأت من فراغ الذاكرة، وإنما تأتي من حمولة معاناة تعيشها الذاكرة الجمعية طوال مسيرتها الحياتية، التي لم تستفق فيها في يوم من الأيام على محطة تتيح لها فرصة الحلم بأن يوما قادم سيغير من مجرى التأريخ الإنساني المحمل بالمآسي، ويفضي على الإنسانية أمنا ورخاء، وإذا كانت هناك دروس مستفادة يجب أن نستخلصها من أزمة كورونا الكاشفة، فهي أولاً وقبل كلّ شيء دروس يجب أن تعيد الاعتبار لكرامة الإنسان وللمنظومات القيمية والأخلاقية التي تعزّز سيادة الدول وكرامتها، وأن تنتزع القدسيّة عن الإعلام الغربيّ الذي ينشر الأوهام عن النظم الليبرالية الغربية، والتي برهنت خلال هذه المحنة أنها لا تُتقن إلّا فنّ صناعة الثروات، وأنّ البشر والذين هم خلائف الله على الأرض يقعون في أدنى سلّم اهتماماتها... وفي هذا الإطار تبدو الحاجة ماسّة لتعاون دولي غير مسبوق يناقش كلّ هذه المعطيات والمستجدات، ويرسم خارطة طريق لتعاون دولي مستقبلي يستند إلى الرّكائز الواقعية التي أفرزها زمن كورونا بعيداً عن الإعلام الغربيّ المضلّل، وادّعاءات الديمقراطيات الليبرالية الغربيّة، التي استنزفت أسباب وجودها، وأصبحت الحاجة ملحّة اليوم لاجتراح نظام عالمي جديد تسوده الحكمة والإنسانية، وليس المال والثروات المادّية. ولما كان غلق الأبواب على الخصوصية الداخلية لبلدان العالم سيكون مآله الفشل، فإن الأمر سيؤدي إلى تقبل هذه البلدان انخفاض ما يسمى استحقاق السيادة الوطني لصالح استحقاق السيادة الإنساني، وهذا يعني أن من مصلحة هذه الدول غرباً وشرقاً شمالاً وجنوباً، أن تتعرف على كيفية إدارة مصالحها، والتي لن تقتصر على مصالح دولة بعينها دون الأخذ بمصالح الدول الأخرى، بمعنى أن عالم ما بعد كورونا، سيكون عالماً مترابطاً دولياً من أجل تنفيذ برامج واسعة تساهم في تحسين الصحة الإنسانية، وهي متفقة إلى أي مدى سيذهب بعضها مع البعض الآخر على حساب ما يتمتع به من حرية...
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو: إلى أي مدى ستبقى دول العالم متكاتفة وهي تخوض المعارك السياسية والعلمية وعلى كافة الجبهات في مواجهة هذا الفيروس المدمر؟ وهل سيبقى مثل هذا التكاتف قائماً في المستقبل؟ ليكون الجواب لا، لأن الشكوك ستبقى هي المتحكمة وليست الثقة، إنها الطبيعة البشرية القلقة المتجهة نحو التطور، والتي تقرع باستمرار أبواب العالم مستمدة زخمها من الفيروس المستجد نفسه مهما كانت نوعية هذا الفيروس، للانتقال بالنظام السياسي العالمي من حالة موبوءة إلى حالة سليمة، و كيف يكون هذا الانتقال إلا من خلال القلق الحضاري وما رأته البشرية من خلال تفشي وباء كورونا، الذي ترك انطباعاً سياسياً مضمونه ضرورة تفكك النظام الدولي القائم بسبب فشله في معالجة ما يجري من خروقات قد تؤدي إلى تدمير الحياة على سطح هذا الكوكب.
إن العالم العربي ما بعد كورونا يستدعي بشكل ضروري تغييراً في السياسات والأجندات الوطنية وطبيعة العلاقات الدولية، وإن كان بشكل تدريجي وليس دراماتيكياً، وذلك بالتركيز على قضايا الصحة العامة، والتعليم ومحاربة الفقر، ورفع مستويات الوعي، ووضع الإنسان العربي في المقام الأول، والاهتمام بقضايا البيئة، والتربية الأركيولوجية، أي الصداقة مع البيئة وعدم العبث بمكوناتها وعناصرها، وليس الكسب المادي وزيادة ترسانات التسلح، على حساب الدور الرعوي للدولة بوصفها أداة لإدارة مصالح المجتمع وحمايته واستقراره وأمنه، وليس وسيلة وأداة صلبة بأيدي قوى رأس المال وذراعاً عسكرية واقتصادية وسياسية لها، وهذه مع الأسف الفلسفة السياسية لقوى رأسمال المعولمة والمتوحشة التي تقدم وهج الثروة على وهج الفكر والقيم الإنسانية النبيلة. وعليه، يمكن القول إن تغيير المستقبل هو إحدى النتائج الرئيسية للوباء، ويمكن أن يتخذ هذا المستقبل مسارات متعددة، وأن تتكشف الأحداث في ظل سيناريوهات مختلفة وتحقق مجموعة كبيرة ومتنوعة من النتائج واسعة النطاق.
كاتب صحفي من المغرب.