تجاوزات عديدة في مختلف المجالات الاقتصادية قبل أحداث فبراير وبعدها، في ظل غياب تام للاستقرار الأمني والاقتصادي، فليبيا اليوم تعيش المرحلة الأصعب في ملفات الفساد في كل نواحيه، حيث بات حديث الليبيين عن "جرائم نهب المال العام" منذ الإطاحة بالرئيس الراحل معمر القذافي عام2011، هو الأعلى صوتاً، بداعي الخوف على مستقبل البلد الذي تضربه الفوضى وتقسمه الخلافات السياسية.

مؤشرات خطيرة

لا زالت ليبيا تعاني في تصنيف مؤشر مُدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 والذي أكد على وجود علاقة وثيقة بين ارتفاع معدل الفساد وتدني حرية الصحافة وقمعها. وجاءت ليبيا هذا العام في المركز 171 على العالم متراجعةً مركزاً واحداً مقارنة بالعام الماضي، وذلك من أصل 180 دولة شملها التصنيف.

بين العام 2012 و2017 تاريخ آخر مؤشر تصدره المنظمة المذكورة لم تخرج ليبيا عن العشرين دولة الأكثر فسادا في العالم، بل كانت في أغلب هذه السنوات في العشر مراتب الأخيرة. وحسب متخصصين ليبيين تحدثوا إلى "الشرق الأوسط"، فإن الفساد في ليبيا لا يتوقف على قطاع بعينه، ولا يختلف في شرق البلاد عن غربها، معتبرين أنه يتمدد ابتداءً من نهب احتياطي العملة الصعبة عن طريق الاعتمادات والعمل بالسفارات، والتزوير وتهريب الأموال، وأنه تسبب في أوضاع كارثية.

وفي أحدث تقرير له، وجّه ديوان المحاسبة الليبي في العاصمة اتهامات صريحة لأشخاص وجهات لم يسمها، بـ"الفساد والخيانة"، ورصد وقائع فساد في قطاعات عدة، وقال "إن ليبيا لا تزال تعاني من (دواعش) الاعتمادات والتحويلات الخارجية من مصرفيين فاسدين، وتجار خونة لم يراعوا حاجة المواطن البسيط في الغذاء، وهم حتى الآن يستمرون في نهش ما تبقى من مقدرات الوطن، مستغلين ما تمر به الدولة من تشتت وصراعات".

أكد الخبير الاقتصادي مختار الجديد "ان حجم الفساد في ليبيا لا يمكن ان يحتويه تقرير لديوان المحاسبة (الرقابة المالية)، بالرغم من ان صفحات التقرير تعدت الـ900 صفحة، مشيرا إلى أن ما جاء في التقرير  نقطة من بحر الفساد في ليبيا". وأوضح الجديد في تصريحات مرئية، ان الفساد في ليبيا مستشري بشكل كبير ولا يمكن احتوائه بتقرير واحد ولا حتى بـ2000 صفحة، حسب قوله.

معاناة المواطن

الليبيون يقفون طوابير طويلة لساعات من أجل استلام نحو 500 دينار أو أقل من رواتبهم الشهرية، أو من أجل شراء سلع غذائية مدعومة، والتزود بالغاز المنزلي بينما يظهر تقرير ديوان المحاسبة حسب محللين اقتصاديين "إسرافا في هدر المال العام". وقال رئيس ديوان المحاسبة، خالد شكشك، إن " البنك المركزي صرف حوالي مليار و200 مليون دينار لصالح صندوق موازنة الأسعار لاستيراد سلع غذائية لكن الصندوق لم يقم بعمله". ولفت شكشك في تصريحات إعلامية إلى أن ديوان المحاسبة أوقف تعاقدات بقيمة مليار و600 مليون كانت ستدفع لشركات أجنبية "دون وجه حق"، مؤكدا في الوقت ذاته على أنه "إذا لم تتخذ قرارات خلال هذه الفترة لمنع إهدار المال العام سيكون الوضع أسوأ في عام 2018".

وقال المحلل الاقتصادي، وحيد الجبو، إن التقرير يبين خطورة الفساد المالي والإداري على مستقبل الدولة الليبية، و"يتضح أن الفساد مستشري في مفاصل الدولة وأركانها". وأردف الجبو، في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، قائلا "الآن تقع المسؤولية على الأجهزة الرقابية لمتابعة مواقع الخلل، والكشف عن الفساد، وإحالة المتورطين إلى مكتب النائب العام".

ويرى مراقبون أن انتشار الفساد يتسبب بعدم تكافؤ الفرص بين الجميع، بسبب انتشار المحسوبية، وقد ينتهي بالمجتمع إلى حالة من الإحباط والسلبية، بسبب حالة الغبن والظلم، مما يعرقل مشروعات التنمية. وحتى لا يسيطر المنتفعون من الفساد، فلا بد من البدء في معالجة مسببات الفساد، حتى لا يتحول إلى واقع يومي يتعايش معه المجتمع.

ردود فعل دولية

في 22 أكتوبر 2017، قالت قناة «بي بي سي» البريطانية: "إن النائب العام الإيطالي أصدر مذكرات توقيف بحق تسعة أشخاص، وتمكنت الشرطة الإيطالية من اعتقال ستة منهم، هم ليبيان وإيطاليان ومالطيان، على خلفية تهريب وقود ليبي بقيمة 35 مليون دولار، من مصفاة الزاوية لتكرير النفط (غرب العاصمة)، وبيعه في أسواق دول أوروبية".

وقالت الشرطة الإيطالية إنها "رصدت 30 رحلة من ليبيا إلى صقلية، وقد وصلت كميات من الديزل المهرب إلى إسبانيا وفرنسا". فيما كشف الرئيس السابق لوكالة مكافحة الفساد في المملكة المتحدة، جوناثان بينتون، في حوار لراديو «بي بي سي»، أنه رأى مئات الملايين من اليوروات تنقل من ليبيا إلى حسابات شركات خاصة في مالطا... وفي إحدى المرات "تم نقل 100 مليون يورو إلى شركة خاصة في مدينة فاليتا، ووضعت في حسابات ببنوك خاصة، وتم تجهيزها لغسلها في بريطانيا".

وكشف اعتقال هذه المجموعة إلى أي مدى تمددت رقعة الفساد، لتضم أيضاً قطاع النفط، في البلد الذي تضربه الفوضى منذ إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، ما دفع السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت إلى القول إن "هذه إحدى أشهر الجرائم في ليبيا، فجزء كبير من موازنة البلاد الخاصة بالدعم يصرف على الجريمة المنظمة".

وأوضح ميليت في مقالة نشرها على مدونة الخارجية البريطانية، في الثامن من نوفمبر الجاري، أن "الليبيين يتمتعون بأرخص وقود في العالم، بفضل دعم حكومي بلغت قيمته هذا العام فقط 4.3 مليار دينار ليبي؛ لكن معظم هذا الوقود يجري تهريبه خارج البلاد عبر شاحنات ليباع في أماكن أخرى من أجل الربح". كما ذكر السفير أن "الفساد هو الوباء الذي سقطت ضحية له دول تحاول النهوض من الفقر، وهناك سياسيون ومسؤولون حول العالم يضعون أيديهم في خزائن المال العام لسرقة ثروات بلدانهم، وتصرفاتهم هذه تعود بالنفع فقط على نخبة ضيقة ومتنفذة، عبر السماح لهم بالحصول على الأموال والمزايا، وتقديم مصالح أصدقائهم وأسرهم وزملائهم في الجريمة".