في الحي الإسلامي، وهو حي فقير في غرب طرابلس، تبدأ مواجهة بين مجموعتين من الأطفال. يقود المجموعة الأولى طفل يبلغ من العمر 10 سنوات ويحمل قطعة من البلاستيك على شكل عصاة، وعلى بعد حوالي 30 متراً في نفس الشارع غير المعبد الذي يكسوه التراب، يقبع منافسوهم المسلحون بعصي خشبية.
هذه هي الطريقة التي يلعب بها الأطفال هنا بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على قيام ثورة شعبية مسلحة في ليبيا أطاحت بحكم الزعيم السابق معمر القذافي، وحتى النساء لا تعرنهم التفاتاً أثناء مغادرتهن للمحلات التجارية القريبة؛ فقد أصبح هذا مشهداً عادياً. بل إنه مذكور في إعلان خدمة عامة تبثه وزارة الثقافة والمجتمع المدني لتحذير الآباء من مخاطر انتشار ثقافة العنف بين أطفالهم.
لقد أدت الحرب الأهلية التي نشبت في عام 2011 بين أنصار القذافي والثوار الذين كانوا يحاولون الاطاحة به من السلطة إلى مقتل ما يقرب من 25,000 شخص وجرح أكثر من 50,000 آخرين، وفقاً لتقديرات المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان بمثابة الهيئة الحكومية المؤقتة السابقة. وفي خضم هذه العملية، خلف الصراع - وعقود القمع التي سبقته - ندوباً نفسية بدأ السكان لتوهم يتماثلون للشفاء منها.
وفي حين يعاني بعض الليبيين من حالات صحية خطيرة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب الذي يؤدي إلى الانتحار، أصبحت المشاكل النفسية والاجتماعية الأكثر شيوعاً والأقل وضوحاً هي الأوسع انتشاراً بكثير في هذا المجتمع الممزق.
أعراض متزايدة
ولا توجد سوى إحصاءات قليلة عن انتشار اضطراب ما بعد الصدمة في ليبيا؛ إذ لا تزال مناقشة المشاكل النفسية من المحظورات هنا، ولكن أحد المؤشرات ذات الصلة هو العدد المتزايد من المرضى الذين يدخلون مستشفى الأمراض النفسية في طرابلس.
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال عبد الرؤوف إدريس، وهو طبيب نفسي في المستشفى: "قبل الحرب، كنا نرى ما بين 7 و10 مرضى جدد يومياً، أما الآن، فإننا نستقبل عدداً أكبر يتراوح بين 20 و30 مريضاً".
وقد هدأت الأعراض إلى حد ما عن ما كانت عليه إبان الفترة التالية للحرب مباشرة، عندما كانت الأفكار الانتحارية شائعة، لاسيما بين المقاتلين السابقين، بحسب تصريحات الأخصائية النفسية تاتيانا ناصر، التي تعمل في مركز ليبيا للشباب (LYC). بدلاً من ذلك، تظهر الآن على عدد أكبر من الناس أعراض أقل عنفاً لاضطراب ما بعد الصدمة، وقالت ناصر أن الأطفال يعانون من نقص الثقة بالنفس والخجل أو النشاط المفرط وهوس نتف الشعر (النتف القهري للشعر من قبل المريض نفسه).
ومن بين المؤشرات الأخرى، ارتكاب الجرائم وتعاطي المخدرات.
من جانبه، أعلن محمد السويسي مدير أمن طرابلس هذا الشهر أن معدلات الجريمة زادت إلى 3,597 جريمة في النصف الأول من عام 2013 (لكنه لم يحدد نسبة الزيادة).
وأفاد عبد الله الفنار، نائب مدير المستشفى، أنه لاحظ وجود عدد أكبر من مدمني المخدرات منذ نهاية الثورة، مضيفاً أنهم من الثوار السابقين الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة.
ويرى إدريس أن "الأسرة، التي تعتبر نواة المجتمع الليبي، قد تم تدميرها بعد الحرب. ولقي الشبان الذين كانوا يكسبون المال مصرعهم، أو لم يعودوا قادرين على العمل بسبب اضطراب ما بعد الصدمة أو تعاطي المخدرات. إنهم لا يدمرون أنفسهم فقط، بل يدمرون أسرهم بأكملها. إنها حلقة مفرغة".
وأضاف إدريس أن عمر المرضى مدمني المخدرات قد انخفض من العشرينات إلى 14 أو15 سنة. "هؤلاء المرضى الصغار يروون لي نفس القصة: 'بعد الحرب، أصبحت ليبيا حرة، ولذلك تركت المدرسة وجربت تناول الكحول، ثم الحشيش، ثم الحبوب [خاصة الترامادول].' يمكنني أن أتنبأ بأن هذا الجيل سيعاني من مشاكل نفسية وخيمة بعد 10 سنوات، مثل السلوكيات الوهمية أو الهوس".
وفي السياق نفسه، لا تشعر ناصر بالقلق على هذا الجيل فحسب، بل على الجيل التالي أيضاً. وأكدت أن "اضطراب ما بعد الصدمة يؤثر على المقاتلين في المرحلة الأولى، ثم على الأجيال التالية،" مضيفة أن عدوانية المراهقين والأطفال ترتبط بحالة الفوضى السائدة في أعقاب الحرب".
العودة إلى الحياة الطبيعية؟
ومن دون سلطة مركزية قوية، ستظل ليبيا رهينة للميليشيات المسلحة المتناحرة دون رادع. فقد أغلقوا مرافق إنتاج النفط، واستولوا على الوزارات الحكومية، احتجزوا حتى رئيس الوزراء لفترة مؤقتة. كما أن الهجمات التي يشنها مسلحون وحالات إطلاق النار عند نقاط التفتيش شائعة. وقد تسببت الحرب الأهلية وما تلاها من تعطيل الثوار لصادرات النفط - المصدر الوحيد للدخل في ليبيا - في "انهيار كامل" للاقتصاد.
وبالإضافة إلى عدم قدرتهم على العودة إلى الحياة الطبيعية، اضطر الليبيون إلى التكيف مع مجتمع جديد أكثر انفتاحاً، بعد 42 عاماً من الديكتاتورية التي لم تتح للسكان سوى فرصاً محدودة للتواصل مع العالم الخارجي.
أُلقي القبض على علي العكرمي عندما كان يبلغ 22 عاماً بسبب عضويته في حزب سياسي إسلامي. وأمضى 29 عاماً و5 أشهر في سجن أبو سليم، مما جعله ثاني أقدم سجين سياسي في تاريخ ليبيا.
وأخبر شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أنه بعد خروجه من السجن "كان من الصعب أن أفهم العالم الجديد الزاخر بكل هذه التقنيات الجديدة، مثل [الهاتف] المحمول والإنترنت، ولكن [أصعب جزء] كان وضع الرجل الأعزب الذي يبلغ من العمر حوالي 50 سنة. كيف يمكن أن يجد مكاناً له في المجتمع الليبي من دون أطفال أو زوجة؟"
وكان العكرمي، الذي يبلغ من العمر الآن 63 عاماً، محظوظاً، فقد تزوج بعد الإفراج عنه في عام 2002، ووجد ضالته في إنشاء الجمعية الليبية لسجناء الرأي.
وأضاف قائلاً: "لا أريد فقط أن أشرح للأطفال ما حدث خلال عهد القذافي، بل أريد أيضاً أن أوضح أن الحل ليس الانتقام والإقصاء".
الروابط الاجتماعية
وفي حين يعاني ما بين 2 و3 بالمائة من السكان من مشاكل نفسية نتيجة للصراع، يعاني عدد أكبر من عدم وجود "روابط اجتماعية"، وفق ما ذكره ماركو غاغلياتو، مدير البرنامج النفسي والاجتماعي في مركز دعم نفسي واجتماعي تديره المنظمة الدولية للهجرة (IOM).
ويوفر المركز مساحة للطوائف العرقية المختلفة في ليبيا لتبادل الثقافات مع بعضها البعض، وهو نشاط كان ممنوعاً إلى حد كبير في العهد السابق.
ففي فبراير الماضي، على سبيل المثال، تم توجيه الدعوة لمجموعة أمازيغية من منطقة طمزين في إقليم جبل نفوسة لزيارة المركز.
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال محمد مسعود، وهو أمازيغي من طمزين: "هذا مهم جداً بالنسبة لنا. كان القذافي يمنعنا من زيارة طرابلس، وهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها شيوخنا عاصمة بلادهم".
قبل الحرب، كنا نرى ما بين 7 و10 مرضى جدد يومياً، أما الآن، فإننا نستقبل عدداً أكبر يتراوح بين 20 و30 مريضاً
ويحاول آخرون المساعدة في تضميد الجراح من خلال المسرح والرياضة والموسيقى ورياضة الكابويرا وغيرها من الأنشطة. وهذه هي الطريقة التي يلجأ إليها مركز ليبيا للشباب لمساعدة 750 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 6 و25 عاماً على التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. كما ينفذ برنامجاً بعنوان "من أنا وماذا أريد؟" تديره منظمة هيلفسفرك النمسا الدولية بتمويل من شركة النفط النمساوية أو إم في (OMV).
مع ذلك، فإن البعض يسعون لإيجاد وسائل عملية أكثر لمساعدة الناس على المضي قدماً في حياتهم.
على عكس العكرمي، يجد خالد الحميدي، وهو ثائر سابق لا يزال يعاني من صدمة جراء الحرب، صعوبة في التخلص من غضبه.
"إذا التقيت أحد الموالين للقذافي الذين أعرف أنهم قتلوا أو عذبوا [الناس]، فلن أقدر على مصافحته،" كما أخبر شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).
وفي محاولة لمساعدته على تجاوز مثل هذه المشاعر وإعادة الاندماج في المجتمع، عرضت عليه المنظمة الدولية للهجرة وظيفة مدير مشروع في مركز الدعم النفسي والاجتماعي التابع لها.
وقال غاغلياتو أن "إعطاء خالد مسؤوليات هو خطوة على الطريق نحو المصالحة في ليبيا".
ولكن معالجة الجروح النفسية والاجتماعية لا تزال موضوعاً حساساً في ليبيا.
ويرى أحد الأطباء النفسيين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن معالجة الآثار الطويلة الأمد للصدمة النفسية ليست من أولويات الحكومة، التي تكافح من أجل توفير الأمن واستعادة السيطرة على المنشآت النفطية المدرة للدخل من قبضة الميليشيات.
وأضاف الطبيب النفسي خلال حواره مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أن "القضايا النفسية من المحظورات، ولا أحد يريد إطلاق حملات عامة. لذا، فمن الأسهل على المسؤولين في وزارة الصحة سرقة المال من ميزانيتنا لأن أحداً لن يتقدم بشكوى. ونتيجة لذلك، تكون لدى برامجنا مرافق من دون أطباء في بعض الأحيان، والعكس في أحيان أخرى".
محظورات مستمرة
ويساعد المجلس الدولي لتأهيل ضحايا التعذيب (IRCT)، من مكتبه الذي لا يحمل علامات في طرابلس، على تحسين تعافي حوالي 10 مرضى، من بينهم سجناء تعرضوا للتعذيب المبرح وأشخاص يقفزون كلما سمعوا انفجاراً كبيراً يذكرهم بالقصف خلال الحرب.
وتشير سناء بوصبيح، وهي مديرة مشروع في المجلس الدولي لتأهيل ضحايا التعذيب، إلى أن استخدام كلمات مثل علم النفس أو الصحة النفسية أو اضطراب ما بعد الصدمة يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية.
"في المجتمع الليبي، من الصعب أن نعترف علناً بأننا نحتاج إلى دعم نفسي، خوفاً من التعرض لوصمة العار الاجتماعية،" كما أفادت.
وتصف المنظمة الدولية للهجرة مركزها بأنه مركز ترفيهي واجتماعي، بدلاً من مركز علاج نفسي (يسمى ملتقانا). وفي الوقت نفسه، لا توجد علامات مميزة على مدخل مبنى المجلس الدولي لتأهيل ضحايا التعذيب؛ كما أن العنوان يُعطى شفهياً لتجنب لفت الأنظار.
ويشكل تعزيز القدرات المحلية للاستجابة للاحتياجات النفسية والاجتماعية تحدياً آخر. وفي محاولة لتحقيق هذه الغاية، عين المجلس الدولي لتأهيل ضحايا التعذيب ممارسين عامين، وأخصائي في العلاج الطبيعي، وأخصائي أمراض نساء، وأخصائي نفسي، وجميعهم ليبيون.
بوادر نجاح
وعلى الرغم من التحديات، بدأت بوادر النجاح تظهر على بعض المشاريع.
فعلى سبيل المثال، تدير هيئة معونة الكنيسة الدنماركية، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، مشروع الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والشباب في مصراتة، وهي مدينة تأثرت بشدة من جراء الصراع، منذ نوفمبر 2011.
ومن بين الأعمال الفنية التي أنتجها الأطفال في الأونة الأخيرة، لاحظ أحد المسؤولين الميدانيين في المشروع وجود تحول "بعيداً عن صور العنف والقتال التي هيمنت على الرسومات في المدارس بعد الثورة مباشرة، إلى صور تعبر عن الأمل والتعاون ومستقبل جديد".
وفي السياق نفسه، تقوم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، بالشراكة مع وزارة الحكم المحلي والمجتمعات المحلية، بإنشاء 13 ملعباً في مناطق رمزية في جميع أنحاء ليبيا. وقد تم افتتاح الملعب الأول في شهر فبراير الماضي، بالقرب من سجن أبو سليم المغلق، والذي اكتسب سمعة سيئة جراء إساءة المعاملة المزعومة للسجناء السياسيين تحت حكم القذافي، بما في ذلك مجزرة ارتكبت داخل السجن في عام 1996 وراح ضحيتها أكثر من 1,000 شخص.
وأعلنت ماريا كاليفيس، المديرة الإقليمية لليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال حفل الافتتاح أن "ملاعب الأطفال، التي تتيح لهم الاستمتاع والتعافي من المشاكل النفسية والاجتماعية، ليست موجودة في ليبيا".
وأضاف محمد الحاج نائب وزير الحكم المحلي في بيان صحفي أن "الملاعب هي مساهمة حيوية في التنمية الصحية لأطفالنا في ليبيا".
وقد تخلى الأولاد الصغار عن ألعاب الحرب في الحديقة الجديدة، مفضلين اللعب على الأرجوحة والتزحلق على المنحدرات، في حين تتجاذب أمهاتهم أطراف الحديث.
"إنها فكرة جيدة حقاً بالنسبة للأطفال والأمهات،" كما قالت إحداهن لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، مضيفة "إننا بحاجة فقط إلى مقاعد ومقهى".