بعد أعوام من التدهور السياسي وتتالي الحكومات على البلاد التونسية، تعتبر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تونس نتيجة حتمية تشدّد بدورها الخناق على مشروع الرئيس التونسي قيس سعيّد وأهم التحديات أمام الإستفتاء على الدستور الجديد الذي بدوره لم يحدّد ملامح وتفاصيل واضحة لعلاج الأزمة الاقتصادية "المستعصية إلى حد ما.
إن قياس الأزمة الاقتصادية في تونس يستند إلى 4 عناصر هامة وأساسية هي عجز ميزانها التجاري، ارتفاع مديونيتها، تدهور المقدرة الشرائية لمواطنيها وزيادة معدلات الفقر وأخيرا مشاورات"متعثرة" مع صندوق النقد الدولي رغم التصريحات الإيجابية لطرفي المفاوضات، النقد الدولي والحكومة التونسية، لأن المعارضة الداخلية، لمقترح الحكومة المقدم، من عديد الأطراف أهمها الإتحاد العام التونسي، القوة الإجتماعية الراسخة في تونس إضافة إلى التوترات السياسية تجعل من آفاق المشاورات مفتوح الفرضيات.
قال محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي في آخر تصريحاته أنّه "من المتوقع اتساع عجز الميزانية إلى 9.7% من الناتج الإجمالي المحلي هذا العام مقابل توقعات سابقة أعلنت عنها وزيرة المالية سهام نمصية أواخر العام أن تبلغ 6.9 %. أما بخصوص حجم الدين العمومي المقدر لسنة 2022، فقد أفادت وزيرة المالية التونسية أنه من المقدر أن يبلغ 114142 مليون دينار وهو ما يمثل 82.6% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 85.6% مقارنة بقانون المالية التعديلي لسنة 2021. كما تحدثت في سياق متصل كتلة الأجور التي ضبطت في قانون مالية 2022 ستكون في حدود 21573 مليون دينار بعد أن كانت 20345 مليون دينار سنة 2021 أي بزيادة قدرها 1228 مليون دينار.
ولفتت وزيرة المالية الى أنّ هذه التوازنات تتطلب حاجيات تمويل تقدر بـ 18673 مليون دينار وحاجيات خزينة تقدر بـ 1310 مليون دينار، وهو ما يستدعي تعبئة حاجات الاقتراض في حدود 19983 مليون دينار، وتتوزع بين 12562 مليون دينار اقتراض خارجي و73331 مليون دينار اقتراض داخلي. من جانبه أوضح العباسي أنّ ذلك يرجع إلى تزايد قوة الدولار والارتفاع الحاد في أسعار الحبوب والطاقة وتبعات الحرب الأوكرانية، التي قال العباسي إنّها أوجدت احتياجات تمويلية إضافية حجمها 1.6 مليار دولار.
في منتصف الشهر الحالي نشرت وكالة بلومبرغ الامريكية المتخصصة في الدراسات والتقييمات الاقتصادية في العالم تصنيفا للخمسة وعشرين دولة الاشد عرضة في العالم لمخاطر التعثر المالي لتحتل تونس المرتبة الأولى عالميا والثالثة عربيا من حيث العجز عن تسديد ديونها.
من جهته وفي أواخر الثلاثية الثانية من العام الحالي، حذّر أحد اكبر البنوك الاستثمارية في العالم وهو بنك "مورغان ستانلي" من توجه تونس نحو التخلف عن سداد ديونها إذا استمر التدهور في ماليتها العمومية. وقال البنك "في سيناريو يستمر معه المعدل الحالي لتدهور المالية العمومية، من المحتمل أن تتخلف تونس عن سداد ديونها" مرجحا أن يحدث ذلك العام القادم ما لم تتوصل البلاد سريعا إلى برنامح مع صندوق النقد الدولي وتجري تخفيضات كبيرة في الإنفاق.
تصنيفات ومؤشرات اقتصادية تنضاف إلى جملة من المؤشرات السلبية التي نشرتها عديد الجهات المحلية والعالمية حول الأزمة الاقتصادية الحادة التي تثقل كاهل الدولة التونسية منذ بداية العام الحالي، خاصة بعد انهيار الدينار في قفزة تاريخية إلى أدنى مستواتها مقابل الدولار بقيمة 3.18.
وفي مقال نشر بمدونة البنك الدولي تحت عنوان "ارتفاع معدل التضخم وأثره على أوضاع الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" أوضح البنك أنه "إذا استمر ارتفاع الأسعار العالمية في الأشهر المتبقية من عام 2022 بنفس الوتيرة التي كانت عليها في أشهره الأولى، واستمر الدعم قائماً، فإن معدل الفقر سيزداد بمقدار 2.2 نقطة مئوية في تونس، كما ستتفاقم مستويات التفاوت وعدم المساواة إلى حدّ ما، إذ سيرتفع مؤشر "جيني" من 32.82 إلى 32.9،"
أما نسبة التضخم واصلت منحاها التصاعدي خلال شهر جوان 2022، لتبلغ 8،1 بالمائة بعد تسجيل نسبة 7،8 بالمائة خلال شهر ماي و7،5 بالمائة خلال شهر أفريل و7،2 بالمائة خلال مارس 2022، بحسب أحدث معطيات أوردها المعهد الوطني للإحصاء. وفسر المعهد ارتفاع نسبة التضخم بالأساس بتسارع نسق زيادة أسعار مجموعة التغذية والمشروبات، من 8،2 بالمائة في شهر ماي الى 9،5 بالمائة خلال شهر جوان 2022.
ربما لا يبدو أفق الأزمة الاقتصادية قاتما إلى ذاك الحد خاصة بعد تصريحات بعثة خبراء صندوق النقد الدولي التي زارت تونس مؤخرا خلال الفترة الممتدة من 4 إلى 18 جويلية/ يوليو الجاري 2022 لمناقشة الدعم المالي المحتمل من صندوق النقد الدولي لبرنامج السياسات والإصلاحات الاقتصادية الذي وضعته السلطات. حيث أكّدت البعثة أن المناقشات كانت مثمرة بشأن اتفاق جديد في إطار "تسهيل الصندوق الممدد" لدعم السياسات والإصلاحات الاقتصادية للسلطات وأنها ترحب بانفتاح الحكومة التونسية والشركاء الاجتماعيين تجاه الحوار البناء بشأن تنفيذ برنامج إصلاحي مراع للاعتبارات الاجتماعية وداعم للنمو.
وفي بيان للنقد الدولي على ضوء هذه الزيارة قال " ان السلطات تحرز تقدما مهما في جدول أعمالها الاقتصادي، مع مراعاة التنسيق الجيد بين الوزارات والهيئات على أساس رؤية مشتركة سليمة ومن الضروري الآن إسراع وتيرة تنفيذه". موضّحا أن الاقتصاد التونسي يعاني من التأثير الاقتصادي للحرب في أوكرانيا التي تمثل صدمة خارجية كبيرة تضاف إلى جائحة كوفيد-19 وان هذه الضغوط تزيد من مواطن الضعف الهيكلية الأساسية القائمة في الاقتصاد.
كما لاحظ وجود تحديات تكتنف آفاق المدى القريب في ظل ترجيح تباطئ النمو بينما يؤدي ارتفاع الأسعار الدولية للطاقة والغذاء إلى زيادة التضخم المرتفع من الأساس وزيادة العجز المالي والخارجي فضلا عن الديون مما يؤكد الحاجة لاتخاذ تدابير عاجلة بغية تقليص هذه الاختلالات. واكد روتر في البيان أن "خبراء الصندوق يدعمون أولويات برنامج السلطات للسياسات والإصلاحات الاقتصادي ومن المهم البِناء على التقدم الذي تحقق مؤخرا في تحسين العدالة الضريبية وتوسيع نطاق تغطية شبكات الأمان الاجتماعي ، وتحقيق تحول في أداء المؤسسات العامة التي تتكبد خسائر، واحتواء النفقات العامة الجارية".
و أشار رئيس بعثة النقد الدولي بيورن روتر، في هذا السياق، أن البنك المركزي التونسي بدأ تشديد سياسته النقدية لحماية القدرة الشرائية للمواطنين في مواجهة التضخم المرتفع والمتسارع. وقال"نحن نؤيد ضرورة استمرار هذا الإجراء في الفترة المقبلة."
فمع تواصل المشاورات "الإيجابية" مع النقد الدولي والنقلة السياسية الجديدة التي تعيشها تونس بعد الإعلان عن النتائج الأولية للاستفتاء والتي تقضي بتمرير الدستور الجديد ومرور تونس إلى مرحلة "بناء جديدة" لقاعدتها السياسية يفيد الخبراء أن تونس قادرة على تجاوز أزمتها الاقتصادية رغم الأضرار الفادحة المتراكمة.