على امتداد السنوات العشر الماضية، ومنذ أن تم إسقاط حكم العقيد الليبي معمر القذافي في ليبيا بتدخل مباشر من جانب قوات حلف الناتو عام 2011، تحولت ليبيا إلى جرح مفتوح ونازف في الجسد العربي، ليس فقط لأن حلف الناتو والولايات المتحدة والدول الأوروبية تركت الساحة الليبية لتفاعلات قواها الداخلية المنقسمة والمتنافرة، ولكن أيضا لأن القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح في ليبيا أخذت تسعى بشكل فردي وراء مصالحها الخاصة والمباشرة لهذا استعصى الحل على الأطياف الليبية، مما فسح المجال لدول عربية وإسلامية وأوروبية للتدخل في الشأن الليبي، بعضها لإنقاذ الشعب الليبي من محنته وآخر لإغراقه. ووسط هذا التهافت الدولي يبرز اسم الجزائر، كأحد الفاعلين في المشهد الليبي المعقد.


منذ تسلم القذافي سدة الحكم عام 1969، لم تكن العلاقات الجزائرية ـ الليبية في أحسن حالاتها، فقد طبعها التوتر على العموم والتنافس الإقليمي في أفريقيا، رغم أنّ البلدين لم يظهرا صراعاتهما إلى العلن، بل ظلت الخطابات السياسية تؤكد الأخوة العربية والمغاربية، كما استمرتا في توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية واللقاءات السياسية الثنائية، لذلك فمن الخطأ الاعتقاد أنّ القذافي كان حليفاً للنظام الجزائري بل العكس، فلطالما كان العقيد الليبي مصدر إزعاج وإحراج للجزائر. 


وبعد إسقاط النظام في ليبيا وعلى إثر هذا التحول إنهارت المنظومة الأمنية الليبية على الحدود بين الجزائر وليبيا والتي تصل مساحتها 1000كلم، ومع ذلك الإنهيار بدأت حالة اضطراب أمنية كبيرة تضمنت عمليات تهريب للأسلحة والمخدرات وتدفق للاجئين، لم تنتهي بالهجوم الذي استهدف مجمع للغاز تديره شركة سوناطرك الجزائرية وأسفر عن مقتل 40 موظفاً على يد جماعات مسلحة "إرهابية" تنشط في منطقة الحدود عام 2013، وذكرت السلطات الجزائرية آنذاك، أن منفذي الهجوم تسللوا من الأراضي الليبية، هذه الحادثة كانت كفيلة بإفاقة المنظومة الأمنية الجزائرية التي كانت تعيش في أوج صراع على السلطة بعد أن ثبت عجز الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن القيام بمهامه، واستمرت تتخذ موقفاً محايداً اتجاه الأزمة الليبية التي أضحت مستنقع مليء بالجماعات المسلحة وأجهزة المخابرات الدولية. بالتزامن مع الحراك الذي تسبب بإستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في إبريل2019، كانت ليبيا تشهد مرحلة جديدة من الصراع بدأت عبر محاولة القائد العسكري خليفة حفتر بإقتحام العاصمة طرابلس لإنهاء وجود حكومة فايز السراج وحسم المعركة لصالحه لإنهاء الصراع المتواصل منذ سنوات حول الهيمنة على نظام الحكم في ليبيا. 


ورغم أن تلك الأحداث كانت فارقة بالنسبة للأمن القومي الجزائري إلا أن النظام أيضاً كان منشغلاً في تثبيت أركانه بتشريع الانتخابات التي أفرزت تنصيب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وترتيب المنظومة الأمنية بكاملها لاسيما عقب خطوة تمت في ذروة مرض بوتفليقة كشفت عن صراع كبير بين سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس السابق، وجنرالات الجيش برعاية رئيس الأركان الراحل أحمد قايد صالح، أسفرت عن إقالة رئيس المخابرات الفريق محمد مدين الملقب بــ"الجنرال توفيق" في اكتوبر2015، لكن ذلك الصراع لم يهدأ إلا عقب إقدام الرئيس تبون على إقالة أكثر من 80 في المائة من قيادات الأجهزة الأمنية، وكان النصيب الأكبر من تلك الإقالات تستهدف بالدرجة الأولى جهاز المخابرات العامة، وإعادة هيكلته بالكامل وإلحاقه بوزارة الدفاع.


وضعت الأزمة الليبية مبادىء السياسة الخارجية الجزائرية، القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعقيدتها الأمنية والعسكرية المرتكزة على عدم مشاركة الجيش الجزائري في عمليات عسكرية خارج حدود الوطن، في امتحان صعب. فالأزمة الليبية خلفت بيئة إقليمية غير مستقرة كانت شديدة الوطأة على الأمن الجزائري، وفي ظل سعي الجزائر للمساهمة حلّ هذه الأزمة وقعت في مأزق، يتمثل بالتوفيق بين المستلزم الأخلاقي، بمعنى الحفاظ على مبادئها الأساسية في سياساتها الخارجية وعقيدتها الأمنية، وبين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة عموما. منذ استقلال الجزائر عام 1962، تضافرت عوامل عديدة لتبلور مبادىء للسياسة الخارجية الجزائرية، وتحدد عقيدتها الأمنية والدفاعية. وهي: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي للحلول السياسية للازمات الدولية، ورفض أي نوع من أنواع التدخل الأجنبي، وعدم مشاركة الجيش الوطني الشعبي في عمليات عسكرية خارج حدود الجزائر. 


وقد تطورت هذه المبادىء لتتحول مع مرور الزمن إلى ثوابت مدسترة. فقد نصت المادة 29 من الدستور "تمتنع الجزائر عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحريتها، وتبذل جهدها لتسوبة الخلافات الدولية بالوسائل السلمية". فأحد أهم مبادىء السياسة الخارجية الجزائرية هي، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، منذ اندلاع الثورة الليبية، حاولت الجزائر جاهدة التمسك بهذا المبدأ، غير أن الأحداث الدامية في ليبيا وخشيتها من انتقال عدوى الثورة إلى الداخل، أجبر نظام بوتفليقة على الميل أكثر إلى نظام القذافي، وظهر ذلك من خلال العديد من الدلائل، وهي استضافة عائلة العقيد الليبي بعد اشتداد الصراع، كما كانت هناك اتهامات (ولو أنه لا وجود لدلائل مادية على ذلك)، بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب القذافي، وقد نفت الخارجية الجزائرية ذلك بصورة قاطعة. وبعد سقوط نظام القذافي، لم تكن الجزائر بعيدة من الأحداث في ليبيا، فمع الانقسام الذي شهدته الساحة الليبية، قامت الجزائر بالدعم السياسي والديبلوماسي للحكومة الشرعية في طرابلس في مواجهة حفتر.


ومنذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى السلطة في الجزائر في ديسمبر 2019، أظهر حرصه على تقديم مشروع للحل السياسي التوافقي في ليبيا. والموقف الجزائري يتأسس على ثلاثة ثوابت أساسية لا تزال هي الإطار المحدِّد للسياسة الجزائرية في الساحة الليبية رغم تغير واجهة النظام السياسي:

الأول، منْح المؤسسة العسكرية الجزائرية الدورَ الأساسي في إدارة الملف الليبي في مقابل الأجهزة الدبلوماسية والسياسية، وينسجم هذا الموقف مع المقاربة الجزائرية التقليدية في تصور العمق الاستراتيجي للدولة الجزائرية من منظور المخاطر المترتبة أمنياً على المجالات الحدودية شرقاً وغرباً وجنوباً، وتكليف الجيش بضبط هذه المصالح الأمنية الحيوية وإدارتها بالتنسيق الحصري مع رئاسة الجمهورية. وتَصدُق المقاربة نفسها على إدارة الملفين الأهمَّين بالنسبة للدوائر الاستراتيجية الجزائرية، وهما: موضوع الصحراء في علاقته بالحدود مع المغرب وموريتانيا، وملف الإرهاب وحركات التمرد في منطقة الساحل الأفريقي في علاقته بالجارتين الأفريقيتين مالي والنيجر. الثاني، النظر إلى ليبيا بوصفها امتداداً للعمق الاستراتيجي الجزائري في مجاليه الحيويين: المشرقي والساحلي. الثالث، رفْض أي دور عسكري أجنبي في الملف الليبي، بما يفسر موقف الجزائر الرافض لتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في  2011، انسجاماً مع التصور الجزائري الثابت في العمل على إبعاد المحاور العسكرية والأمنية الدولية من المجال الأمن الحيوي الجزائري.

لقد قادت الجزائر مساع دبلوماسية في أكثر من مناسبة، بين فرقاء الأزمة الليبية، وتؤكد السلطات الجزائرية باستمرار أنها تقف على مسافة واحدة من الطرفين وترفض "كل تدخل أجنبي". وصرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مرات عدة، أن الجزائر مستعدة للعب دور الوسيط وان "كل الأطراف الليبية موافقة على المشاركة في أي مبادرة جزائرية"، وفي هذا السياق قال الباحث في معهد كلينغنديل في لاهاي لوكالة فرانس برس إن "الدبلوماسية الجزائرية تمتلك مصداقية حقيقية بصفتها بلد كبير محايد حيال ليبيا..."لكنه أضاف أن "هذا لا يعني أن الجزائر يمكنها تغيير مجرى الأحداث"، موضحا أن الدبلوماسية الجزائرية بمفردها "لا تمتلك وزنا كافيا لكبح منطق الحرب المدوّلة في ليبيا ولو قليلا". وتابع أنه "مع الجزائر أو بدونها لن تكف "تركيا عن "استخدام القوة". في المقابل "إذا شاركت قوة دبلوماسية أخرى مثل الولايات المتحدة أو روسيا بشكل وثيق في مبادرة دبلوماسية للجزائر فقد يكون لذلك تأثير ملموس".


المؤكد لدينا، أنّ التدخلات الأجنبية في ليبيا شوشت على عدة مبادرات جزائرية، وفي هذا السياق قال رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة، إن التدخل الأجنبي في ليبيا، أدى إلى ما وصفه بـ"الانفجار الحقيقي" في منطقة الساحل الأفريقي. ونقلت وسائل إعلام جزائرية، عن شنقريحة، قوله في كلمته بمؤتمر فعاليات موسكو التاسع للأمن الدولي، إن "الوضع في منطقة الساحل الأفريقي تأثر بأحداث الأزمة الليبية وعواقب التدخل الأجنبي في هذا البلد، إذ أدى التدخل الأجنبي في ليبيا إلى انفجار حقيقي، وتفاقم (تدهور) الأمن والاستقرار في أفريقيا ومنطقة الساحل". وأضاف: "أصبح انتشار الأسلحة والمخدرات وظهور الجماعات المسلحة غير الحكومية، من العوامل الخطيرة التي ساهمت في تفاقم الوضع، وبذلك أصبحت منطقة الساحل منطقة تتصاعد فيها بؤر التوتر أكثر فأكثر".

وأكد رئيس أركان الجيش الجزائري، أن "الجزائر تتابع عن كثب الأحداث التي تجري في ليبيا، وغالبا ما تقدم مبادرات تهدف إلى تحقيق تسوية سياسية للأزمة الليبية". وختم شنقريحة، كلمته بالقول أن الجزائر تواصل العمل على إعادة إرساء الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، بالأخص في ليبيا وعلى أساس عدم التدخل الأجنبي والحفاظ على الوحدة الترابية". 


وسبق للرئيس الجزائري الجديد ''عبد المجيد تبون'' أن أكد في أكثر من مرة أنه لا يمكن الحديث عن حل في ليبيا يستثني مصالح الجزائر، وفي إطار التحديات التي تواجه التحركات الجزائرية لتسوية الأزمة الليبية وفقًا لرؤيتها، من المرجح اتجاه الجزائر لاتباع المسارات التالية:

أولا: استغلال رغبة روسيا في لعب دور محوري لتسوية الأزمة الليبية للتنسيق معها في ليبيا، وتعتمد الجزائر في ذلك على اعتبارها من أقرب حلفاء روسيا بمنطقة المغرب العربي، حيث تتبنى الدولتان مواقف متطابقة تجاه الأزمتين السورية والعراقية، فضلا عن التقارب العسكري الكبير بينهما، فتسليح الجيش الجزائري يعتمد بصفة أساسية على السلاح الروسي.

ثانياً: رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني مع تونس في ليبيا لتبني مواقف مشتركة حول كيفية تسوية الأزمة الليبية، ومن ثم خلق جبهة إقليمية داعمة للرؤية الجزائرية لكيفية حل الأزمة الليبية والتي تميل إليها تونس.