بعد حربين عالميتين مدمرتين اقتنعت القوى العظمى بضرورة الالتئام حول مشروع أممي يقي البشرية شر القتال. وظهرت فكرة إنشاء منظمة الأمم المتحدة في غمار الحرب بانعقاد المؤتمرات في موسكو وطهران عام 1943. اقترح الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت تسمية "الأمم المتحدة" وكان أول استعمال لهذا التعبير في 1 يناير 1942 بإعلان قيامها. في أثناء الحرب العالمية الثانية استعمل الحلفاء تعبير "الأمم المتحدة" للإشارة إلى تحالفهم فقط. من أغسطس إلى أكتوبر، اجتمع ممثلوا فرنسا، الصين، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، ليضعوا الخطط المترتبة عن مؤتمر دومبارتون أوكس وبعد المباحثات ظهرت اقتراحات تلخص مقاصد المنظمة، عضويتها وأعضاءها، بالإضافة إلى الترتيبات للمحافظة على السلم العالمي والأمن والتعاون الاقتصادي والاجتماعي الأممي. هذه الاقتراحات تم مناقشتها من قبل الحكومات والأفراد المختصين حول العالم.

يدل اسمها أنها منظمة للأمم (Nations) وليست للدول (States)، كما تدل على الاتحاد، والاتحاد مفهوم ذو شجون. واستقراء للسياق الذي ظهرت فيه الفكرة، نجد أن البلدان التي لعبت دورا أساسيا في التنظير والتأسيس هي البلدان التي اختبرت تجربة الاتحاد على مستواها المحلي: المملكة المتحدة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي فضلا عن فرنسا والصين.

ولأن المنظمة تخص الأمم وليس الدول، فهل كان أعضاؤها المؤسسون يتوفرون على صفة الأمة؟ وهل كانوا يمثلون أُمماً أم كانوا مجرد دول لا ترقى الواحدة منها إلى الأمة التي تنطق باسمها؟

بعد حوالي نصف قرن من نشأة الأمم المتحدة تفكك الاتحاد السوفييتي وحلّت محله روسيا الاتحادية التي مازالت تتأرجح بين ثقل ماضيها الإمبراطوري الأورثوذوكسي من جهة، والتحدي الغربي من جهة ثانية، وحلمها الأوراسي من جهة ثالثة. أما فرنسا فقد وجدت نفسها تنخرط في تجربة اتحادية محلية جديدة رفقة ألمانيا في تأسيسهما للاتحاد الأوروبي الذي ما زال يبحث عن حلول لعوائقه الأيديولجية البنيوية. بريطانيا التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973 قررت الانسحاب منه تحت ضغط تيار البريكست.

أما الصين أحد مؤسسي منظمة الأمم المتحدة، وإن كانت نجحت مع مطلع القرن العشرين في لملمة شملها والانضمام إلى نادي الأقوياء غير أن الصين (جمهورية الصين الشعبية) التي تسيطر سيطرة إدارية فعلية على 22 مقاطعة، مازالت تنظر إلى تايوان  باعتبارها المقاطعة الثالثة والعشرين، مع أن تايوان(اسمها الحقيقي جمهورية الصين) تعدّ دولة بحد ذاتها. هناك أيضًا خمس مناطق ذاتية الحكم، في كل منها أقلية بارزة؛ وهناك أيضًا أربع جهات، واثنتان من المناطق الإدارية الخاصة التي تتمتع بقدر من الحكم الذاتي. المقاطعات الاثنتان والعشرون والخمس مناطق ذاتية الحكم والبلديات الأربع يشار إليها مجتمعة باسم "بر الصين الرئيسي" وهو التعبير الذي يستبعد عادة هونغ كونغ وماكاو.

يبدو أن أمريكا أبرز المؤسسين لهذه الهيئة العالمية، كانت تمثل الاستثناء بوصفها كيانا لا يحمل صفة الدولة (State) بل بوصفها كيانا فيدراليا اتّحَدتْ فيه عدة دول (United States of America)، وأن هذا الكيان الاتحادي الذي نشأ نهاية القرن الثامن عشر تجاوز مؤسسوه مفهوم الدولة-الأمة من خلال تطويرهم لمفهوم الدولة ومفهوم الأمة على حد سواء، وقادتهم تجربتهم إلى بلورة مفهوم مدني للأمة يتسع إلى كل منتم إليها، وأن هذه الأمة المدنية متعددة الدول تمثلها حكومة فيدرالية على المستوى الأممي في حين تمثل حكوماتُها المحلية شؤونَ مواطنيها على المستوى الداخلي للدولة التي تمثلها.

هذا هو الوضع الراهن للبلدان المؤسسة للأمم المتحدة، وهي الأعضاء الدائمة لمجلس الأمن التي تملك حق الفيتو وتقرر في مصير البشرية. وهذه الكيانات كلها تنطوي على قابلية التغيّر: قابلية التقلص عبر التفكك إلى وحدات سياسية منفصلة أو متنازعة؛ أو قابلية الاتساع عبر احتواء كيانات مجاورة؛ أو عبر الاندماج في كيان أكبر.

واتضح أن أغلب الكيانات التي انضمت إلى الأمم المتحدة لم تستوعب فلسفة هذه المنظمة، وأغلب الكيانات العربية لم تكن قيمة مضافة في رصيد هذه المنظمة، ولاسيما الدول المغاربية التي مازالت تعاني من عوامل الفشل السياسي. ويبقى السؤال المطروح هو: هل دولنا المغاربية تمثل أُمماً؟ أم تمثل أمة مغاربية واحدة؟ هناك خمس دول أعضاء بالأمم المتحدة، كانت ليبيا أول دولة انضمت إلى هذه المنظمة وكانت الجزائر آخر دولة، وبدل أن تبحث هذه الدول عما يوحدها في تناغم مع مبادئ العصر انصرفت بشكل صبياني إلى الاضطلاع بأدوار بطولية بشكل كاريكاتوري مثير للشفقة.

كل المعطيات الجيوسياسية، والتاريخية والثقافية واللسانية تفيد أن هذه الأمة أمة مغاربية واحدة تفتقد إلى شرطها السياسي الحديث، ولن تقوم لهذه الأمة قائمة ما لم تستوعب هذا الشرط ليس بحثا عن قوة مضادة للتكتلات الأخرى أو تعبيرا عن نزعة توسعية إمبريالية، ولكن خدمة لقضايا شعوبها، وتحقيقا للأمن والسلم والتنمية على الصعيدين المحلي والعالمي. هل هذا ممكن؟

هذه الكيانات التي ظلت شعوبها تحلم بغد أفضل، لم تفلح في بناء اتحادها على أسس صلبة وعلى فلسفة سياسية محايثة للعصر. السياسات المغاربية بمختلف مرجعياتها كانت مخيبة لأفق انتظارات شعوبها. تلك الكيانات التي ضلت طريقها إلى السلام مازالت ترزح تحت قوى معادية للتغيير، قوى متحجرة أيديولوجياً يعشش في أحضانها الفاسدون وسماسرة الحروب والجهلة ومحترفو الكذب.

يبقى الوصول إلى الاتحاد المغاربي صعبا وشاقا، يحتاج إلى بُناةِ مهرة يتوفرون على العدّة العلمية والتصميم الواضح والإرادة الطيبة، وفق مقاصد إنسانية وسلمية توفر للشعوب شروط حياة كريمة، وليس بهدف تخويف الأمم الأخرى أو التعالي عليها، مثلما يحلو لبعض الحالمين باتحاد مغاربي يخيف الغرب.




*المقال يعبّر عن وجهة نظر الكاتب