يذهب البعض إلى تلخيص مسألة فوز الإسلاميين في الانتخابات التي تلت ”الربيع العربي”، في عدم امتلاك الجماهير العربية لثقافة سياسية تمكنها من فرز الأحزاب على أساس خطابها وبرامجها. ثم إن تعامل تلك الجماهير مع الأحزاب الإسلامية كان تعاملا مشوبا بالخوف، “وكأنها قبور أولياء صالحين يجب التبرك بها عبر انتخابها”. لكن عوامل أخرى ربما خفيت عن الناظر، تكمن أساسا في انحسار التقدميين والأحزاب اليسارية لعدة أسباب. ولمزيد التعمق في دوافع نجاح الإسلاميين، قدمت الباحثة التونسية لطيفة الكرعاوي قراءة في الموضوع، متضمنة في دراستها “الإسلاميون في تجربة الحكم”.

ذهب في ظن الكثيرين أن القوى الإسلاميّة كانت الأكثر تنظيما على الساحة السياسيّة، فنجحت في ملء الفراغ السياسي، ولكن الواقع أن ظروفا عديدة ساعدت إلى حد كبير الإسلاميين على تشكيل كتلة سياسية وازنة ومؤثرة، مما مهد الطريق إلى فوزهم في الانتخابات.

 

استغلال الجهل السياسي

ليست للشعب العربي تقاليد مع الانتخابات، فهو يفتقد إلى ثقافة سياسية. ففي ظل استبداد الحزب الواحد دائما والتنكيل بالمعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ظلّت ثقافة المواطن السياسيّة محدودة، إن لم نقل منعدمة في أحيان عديدة، وحتى مؤسّسات المجتمع المدني ودورها المهم في تثقيف المواطن كانت السلطة دائما لها بالمرصاد، إمّا بإقصائها أو بتحديد مهامها ومراقبتها بشكل مستمر أو باحتوائها، والمتضرّر الوحيد في كلّ هذا هو المواطن. لهذا، حينما توجه هذا الأخير إلى مكاتب الاقتراع في 23 أكتوبر (في تونس مثلا) كان حتى وإن حدّد مسبقا من سينتخب، على جهل بالغاية التي على أساسها فضل هذا الحزب على ذاك. ولعل أكثر الانطباعات المسجلة في تلك المرحلة هو أنّ المواطن كان دائما يردّد عبارة: “سأنتخب من يخاف من الله".

من المؤكد أن الدعاية السياسيّة والدينيّة والمال السياسي أسهما إلى حد كبير في ترجيح هذا الحزب عن ذلك. وقد فاز الإسلاميون في السياق ذاته بحكم ما لهم من الإرث الثقافي والديني في البيئة التي يتحركون فيها وينشطون وبالقياس إلى غيرهم من أحزاب سياسية أخرى، وهذا ما يمكنهم من اختراق الواقع في العمق. فقد نجحوا بحكم مراكمتهم التاريخية الطويلة التي أكسبتهم قدرات تنظيميّة ومالية ضخمة، من تعبئة سهلة لأنصارهم وقواعدهم.

وقد سهل وجود أزمة سياسية تاريخية بلغتها الدول الوطنية الناشئة عن حركات التحرّر الوطني بسبب بلوغ مشاريعها وتجاربها التنمويّة حدودها القصوى، فأصبحت مفلسة سياسيا. فمنذ أربعينات إلى ستينات القرن الماضي، شهدت الدول العربيّة تحررا من الاستعمار الأوروبي، رافقته روح وطنيّة وقوميّة، مما أدى إلى استقطاب جماهيري. لكن تلك القوميات تصدعت، فأورثت الشعب العربي الإسلامي إحساسا بأنها ليست سوى دكتاتوريات، خاصة أنها عجزت عن تحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحفاظ على الأمن والعدالة والحريّة من ناحية، وكونها حاربت الإسلام السياسي (تجربة الإخوان المسلمين في مصر مثلا) من ناحية أخرى. ولم يبق في أرشيف ذاكرة الشعوب العربية الأثر الطيب لتلك الحكومات خاصة في ظل محدوديّة دورها في الصراع العربي الإسرائيلي فاستغل الإخوان المسلمين هذه النقطة لدعياتهم.

التطرف والتكفير ودور إيران

 

تنامى الفكر الجهادي في الحياة السياسية العربية منذ السبعينات من القرن العشرين، وبلغ أَوجه بانتصار الجهاديين الأفغان على الاتحاد السوفييتي. وشكل ذلك حدثا دعائيا مهما، “وفخرا” للدعوة الجهادية السلفية. وهو ما يعني نصرا لدعوة إسلامية مقابل هزيمة خصم شيوعي “كافر”، وهو أيضا هزيمة لفكر وضعي أمام نظام إلهي، الأمر الذي يعزز مكانته ويستقطب المزيد من الأنصار وهذا أيضا تم توظيفه من قبل الإخوان في خطابهم.

وفضلا عن ذلك، كان لانتصار “الثورة” الإسلامية الإيرانية على نظام شاه إيران دور في تعزيز قناعات الفكر الجهادي، إلى جانب تمكن الحكم الإسلامي في السودان وسقوط أنظمة دول أوروبا الشرقية. كل هذه الأحداث التاريخية، خلقت، وبنسب متفاوتة، مناخا دعائيا مهما لتقبل أفكار جديدة تتبنى الأنموذج الإسلامي. ورغم انحسار المد الجهادي بعد الهزيمة السوفياتية وتواصل الحرب بين الجهاديين الأفغان أنفسهم في صراعهم على السلطة، والصعوبات والتقلبات التي مرت بها الثورة الإيرانية في تحقيق الأحلام والطموحات (حربها مع العراق مثلا)، فإن ذلك لم يؤثر في شعبية الدعوات الجهادية، ولم يمنع من العمل على إحياء الأنموذج الإسلامي.

 

فشل اليسار في المواجهة

نأتي الآن، ودائما في إطار ذكر أهم العوامل التي كانت وراء فوز الإسلاميين في الانتخابات، إلى اليسار العربي. ففي البدء يمكن القول، إن ثمّة تنافرا بين العروبة والشيوعية، إذ العروبة مرتبطة في الأذهان بالإسلام، إضافة إلى ذلك ورغم نضال اليسار العربي الطويل ضد السلطة، ورغم التصفيات الجسدية لرموزه وتعذيبهم في السجون والتنكيل بهم، ورغم أنه يتبنى دائما قضايا الشعب الاجتماعية من فقر وبؤس وبطالة وتنمية وعدالة ومساواة وغيرها من المسائل، فإن شعبيته، وهذا من المفارقات، ظلّت محدودة، ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب عديدة.

فدلالة اليسار في ذهن معظم الجماهير العربية المسلِمة إذن مشحونة بدلالات سلبية، فصفات من قبيل: اشتراكي، شيوعي، ماركسي (إذا ما أضفنا إليها طبعا صفتي علماني ولائكي) وكلمة “رفيق” جميعها تخلق “حساسيّة” في ذهن المسلم عن هؤلاء، فهي مرادفة للكفر في المتخيل الجمعي الإسلامي.

وبما أنهم وفقا لهذا التصور (الذي روجت الأحزاب الدينية في حربها على اليسار) لا يؤمنون بالله، فإن الشعب المؤمن لن يثق بهم، فالعرب في غالبيتهم مسلمون. هذا فضلا عن أن شعارات اليسار ارتبطت بالثورة السوفياتية في عهد لينين، وبأفكار بعض المفكرين مثل ماركس أو أنغلز أو لينين، وهؤلاء لا يحضون بكثير احترام لدى المسلمين.

كما أننا عند دراسة تاريخ الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، وما يتعلّق بنشأتها وتطورها، نجد أنه تاريخ متوتر ومثير للريبة من عدة وجوه، فلا يُطمأّن إليه في الغالب. أولا، تأسيس الحزب الشيوعي في مصر أو في فلسطين مثلا، ارتبط ببعض الأسماء اليهودية، وثانيا، طُرحت قضايا عديدة عن علاقة الكثير من الشيوعيين اليهود بالصهيونية ومسألة مصادر تمويل الأحزاب وغموض حياة بعض الأشخاص الفاعلين في تلك الأحزاب، وثالثا، موقف الأحزاب الشيوعية العربية بشكل عام من سلخ لواء الإسكندرون عن سوريا ومن قرار تقسيم فلسطين الذي أجمعت عليه معظم الأحزاب الشيوعية العربية.

هذا فضلا على أن اليهود المؤسسين للأحزاب الشيوعية، وإن كان منهم من يناهض الصهيونية، فإنه لم يكن بإمكانه النضال إلى جانب العرب، بل إن البعض تبنى مسألة الهجرة إلى فلسطين.

كل هذه العناصر لعبت عليها أحزاب الإسلام السياسي، لتحشرها جميعا في خطاب واحد يتميز بالأحادية و”المانوية”. أي أن الإسلاميين هم الخير المطلق (وقد أثبتت التجربة عكس ذلك) وأن الآخرين هم الشر المطلق.

 

*نقلا عن العرب الللندنية