يوم الثلاثين من أغسطس 2008، إعتذرت الحكومة الايطالية عن فترة الاحتلال الايطالي في ليبيا ، ايذانا بفتح صفحة جديدة بين الليبيين والطليان الذين قبلوا ذات يوم تحت ضغط من القذافي ، الاعتذار عن حقبة سوداء من تاريخ بلادهم في بلاد عمر المختار.
ورغم أن عديد الدول التي عاشت حقبة إستعمارية أكثر من ليبيا سبقت في مطالبة المستعمر القديم بالاعتذار والتعويض وتصفية الإرث الاستعماري، إلا أن الجماهيرية الليبية نجحت فى إجبار رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق سيلفيو برلسكوني، على تقديم الاعتذار والتعويض عن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الإيطالي ضد الشعب الليبي أوائل القرن الماضي.
فمطلب القذافي كان واضحا فى السر والعلن، وهو "الاعتذار والتعويض"، الأمر الذي جعل إيطاليا تتعامل بجدية مع هذا الخطاب باعتباره حقيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها وتقرر توقيع الوثيقة التاريخية للشعب الليبي والاعتذار عما فعلته إيطاليا الملكية والفاشية من احتلال وتدمير وقتل وتشريد.
حيث كان المستعمر الإيطالي فى بداية الاحتلال (1911 - 1943) قد مارس ألوانا من حملات الإبادة ضد المدن والأحياء الليبية التى قاومته وقتل أهاليها، ومارس الاغتصاب ضد النساء وأعدم المواشى والأبقار والخيول والجمال ودمر آبار مياه الشرب والشجر والزرع وأحرق البيوت.
وتشير بعض الوثائق الليبية إلى سقوط 7000 ليبي خلال 3 أيام فى "المنشية" شرقى طرابلس الغرب، وسقوط 4000 ليبى فى مجزرة "شارع الشط" ونفي آلاف الليبيين إلى الجزر الإيطالية المعزولة ولايزال مصير 5000 مواطن مجهولا حتى اليوم.
وفي حفل التوقيع على معاهدة الصداقة بين البلدين في قصر كان يوما ما مقر مسؤول بارز بالحكومة الايطالية أثناء الحكم الاستعماري بين عامي 1911 و1943، قال القذافي إن الاتفاق يفتح الباب للتعاون المستقبلي والشراكة بين البلدين.
وأضاف أن إيطاليا تعتذر في هذه الوثيقة التاريخية عن القتل والدمار والظلم ضد الليبيين أثناء الحكم الاستعماري.
من جهته، قال برلسكوني إن الاتفاق ينهي أربعين عاماً من "سوء التفاهم"، مضيفاً "إنه إقرار كامل وأخلاقي بالأضرار التي لحقت بليبيا على يد إيطاليا في عهد الاستعمار".
ووفق نص نشره موقع الحكومة الإيطالية على الإنترنت، قال برلسكوني "أشعر بواجب الاعتذار والإعراب عن الألم لما حدث منذ سنوات عديدة مضت والذي أثر على الكثير من أسركم".
وأوضح برلسكوني أن إيطاليا ستستثمر مائتي مليون دولار سنوياً في الجماهيرية الليبية على مدى 25 عاماً.
وخلال توقيع المعاهدة التاريخية فى روما نقلت شاشات الفضائيات، كيف تقدم برلسكونى مقبلاً يد الحاج محمد عمر المختار ابن الشهيد عمر المختار الذى رافق القذافى فى زيارته التاريخية تلك، وهو الأمر الذى كان بمثابة تعويض معنوي كبير لأبناء الشهداء والشعب الليبى كله.
ويقول الحاج محمد "إن الشعب الإيطالي خاصة الشباب يحس بالخزي أمام ما فعلته إيطاليا بالشعب الليبي، لكن القذافي أعاد الكرامة إلى الشعب الليبى وجعل من ليبيا بلدا يتبوأ مكانة مهمة على الصعيد الدولي".
وولد محمد عمر المختار سنة 1921 بمنطقة العويلية شرق مدينة المرج الليبية وعاش مع والدته ونيسة عبد الله الجيلاني، ومنذ نعومة أظفاره بدأ محمد عمر المختار سلسلة رحلات قبل استشهاد والده سنة 1931.
رحل مع عائلته الى منطقة زاوية القصور ثم الى منطقة الخروبة (على بعد 60 كلم من بنغازي) وفي أواخر عام 1927 هاجر مع العديد من الأسر الليبية الى مصر.
وبدأ الطفل محمد سلسلة رحلات أخرى داخل مصر فاستقر في البداية في منطقة سيدي براني ومكث فيها عدة سنوات الى أن وصل الى عائلته نبأ استشهاد والده في ليبيا.
وكان محمد يبلغ من العمر 10 سنوات فقط وقتها ولكن حادث استشهاد والده أثر فيها كثيرا، ويذكر محمد، وهو ما قاله في حديث صحفي أن أهالي النجع أسقطوا كل أوتاد البيوت حتى صارت البيوت العربية على الارض حزنا على عمر المختار وهو يذكر أيضا أن معظم القبائل الليبية قامت بواجب العزاء.
بعد ذلك رحلت عائلة محمد الى منطقة الحمام القريبة من الاسكندرية حيث توفيت والدته لاحقا.
ودخل محمد جيش التحرير عام 1935 وتزوج عام 1942 وانتقل الى الاقامة في محافظة البحيرة ثم رجع مع عمه الى ليبيا (1943) وأقام في البداية في منطقة زاوية القصور ثم في جردس (في العهد الملكي) وتم نقله مجددا الى المرج (وفيها حضر زلزال المرج الشهير) وانتقل بعد ذلك الى بنغازي حيث أقام في مسكن شعبي منحه إياه وزير الاسكان (عام 1964).
ولم يستقر محمد ويضع حدا لحياة الترحال إلا حين أمر الزعيم الراحل معمر القذافي بمنحه قطعة أرض كبيرة وبنى له قصرا.
القذافي منحه أيضا راتبا محترما ورتبة عميد و قد صحبه القذافي معه في رحلته التاريخية إلى ايطاليا واعاده الى السفر والترحال.
وفي رحلته إلى إيطاليا جعل محمد عمر المختار لنفسه هدفا خاصا هو العثور على نظارة والده بعد أن أكدت التقارير ان القائد الإيطالي غراتسياني الذي أشرف على اعدام شيخ الشهداء قد يكون احتفظ بنظارة الشهيد.
وشهدت رحلته الى ايطاليا حدثين هامين له ولبلده على حد سواء فقد اعتذرت ايطاليا رسميا لليبيا وانحنى رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني أمامه وقبل يده.
وغيب الموت في 12 يوليو من السنة الماضية محمد نجل {شيخ المجاهدين} الليبي عمر المختار عن 97 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض، ونعت ليبيا الراحل على كل المستويات السياسية والشعبية.
في سياق متصل، أجمع الرأي العام العربي على أن اعتذار إيطاليا عن الجرائم الهمجية التى اقترفتها فى ليبيا خلال فترة الاستعمار، مثل انتصارا معنوياً كبيراً للقائد معمر القذافي وللشعب الليبى، أمام التعويضات المادية التى لا تتعدى 5 مليارات دولار مبرمجة على 20 عاما.
وكرر القذافى أكثر من مرة أن لا شيء يعوض الشعب الليبي المظلوم الآمن فى دياره، المهم أن إيطاليا محت من على جبينها الصفحة المشينة التى رسمها حكامها منذ 1911 حتى الحرب العالمية الثانية بالنسبة لليبيا.
فضلا عن البعد الرمزي للإعتذار، يرى مراقبون أن معاهدة الصداقة والشراكة والتعاون الليبية ـ الايطالية حققت مكاسب ثنائية للطرفين سواء تعلق الأمر بالشأن الاقتصادي أو السياسي، إلا أن البعض يرى أن هذه المعاهدة لم تكن منسجمة مع سنوات الاستعمار الإيطالي لليبيا، وربما هذا يعود إلى أنه حتى الآن لا توجد هيئة دولية قادرة على تحديد حجم التعويضات بالنسبة للدول الاستعمارية سواء تعلق الأمر بإيطاليا أو بفرنسا أو بريطانيا أو غيرها.