في ليبيا بعد أحداث العام 2011، من بين الأشياء التي يمكن ملاحظتها إلى جانب الفوضى الأمنية والصراع السياسي، هو الانتشار الملفت لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة في مشهد أصبح أشبه بالانفلات الذي لا تحكمه ضوابط وفي ظل غياب تام لأي مؤسسات منظمة لقطاع الإعلام. فعلى كامل خريطة البلاد وحتى خارجها خرجت إلى المشهد الإعلامي الليبي إذاعات وفضائيات مختلفة التوجهات كلّ منها يغرّد لصالح سربه، رغم ما سببه ذلك من توتير للأجواء في بلد أحوج ما يكون لخطاب التهدئة والحوار.

ليس خافيا على أحد أن ليبيا تعتبر منذ الإطاحة بنظام القذافي ساحة حرب حقيقية. حرب بالسلاح وحرب حول المال وبالمال، وطبيعي إذن أن تكون حربا حقيقية أيضا بالإعلام باعتباره سلاحا مهما في المعارك بما يملكه من تأثير كبير في توجيه الرأي العام كل حسب قدرته وإمكانياته.

بالنسبة إلى الإذاعات فإنها تعتبر الأكثر عددا والأكثر توزعا بين مناطق البلاد. ومعلوم أن الكلفة المالية للعمل والإنتاج الإذاعيين غير مكلفة ومتاحة حتى لمن لا يملكون أموالا كثيرة، وهذا سهل بشكل كبير انتشار تلك الإذاعات وجعلها صوتا محليا للعديد من الفئات، رغم أن ذلك لا ينفي وجود البعض منها في السنوات الأخيرة يتخذ مقرا خارج البلاد يعبر منه عن مواقفه واختار أن يكون ذا توجهات إقليمية معينة الأمر الذي فرض إيقاف البث من طرف المسؤولين بناء على تشكيات المواطنين على اعتبار أنها كانت منصات لبث الفتنة بين أبناء الشعب الواحد. ومن حسن حظ الليبيين أنها جاءت في فترة استعادت فيها الدولة وإن بشكل جزئي بعضا من مؤسساتها.

الإشكال الآخر في مستوى بث الإذاعات المحلية، هو ضبط الخطاب، حيث يشير مراقبون إلى عدّة انفلاتات تقع إما عن غير وعي من المشرفين عليها بخطورة بعض الخطابات على السلم الأهلي، أو أن هناك نوايا في تأجيج الوضع من خلال بث خطابات الكراهية والعنف، بل أحيانا حتى خطابات إرهابية، وهذا حصل خاصة بين سنوات 2012 و2016، التي تعتبر "سنوات الجمر" بالنسبة إلى الليبيين نظرا لوقوع جزء من أراضي البلاد تحت سيطرة تنظيمات جهادية أسست لنفسها مؤسسات إعلامية، إذاعية بالأساس، تصدّر من خلالها خطابها، لأنها تدرك قيمة الصوت الإذاعي محليا في نشر الخبر والمعلومة التي كانت خلال تلك السنوات جزءا من سلاح داعش ومثيلاتها في ليبيا. وقد ذكرت مصادر إعلامية ليبية وأجنبية مقتل المدير المشرف على إذاعة داعش في سرت عبدالهادي زرقون عبر هجوم شنته قوات البنيان المرصوص في يونيو 2016. والإذاعة كانت تبث في سرت وضواحيها واتسمت خطاباتها في أغلبها بالعنف، مع قليل من خطابات الترغيب في إطار عملية الاستقطاب التي كانت تستهدف بالأساس الشباب.

ورغم أن البث الإذاعي كان جزءا من الصراع الدائر في ليبيا، إلا أنه يبقى ذا تأثير أقل مقارنة بالقنوات الفضائية، التي تعتبر ملفا كبيرا يحتاج إلى عمليات بحث واستقصاء في الأطراف التي تقف وراءها والتمويلات التي تتلقاها، من عدة أطراف أجنبية أدخلت نفسها في الصراع الليبي منذ سنواته الأولى.

تتوزع الفضائيات الليبية اليوم على أكثر منطقة وأكثر من بلد، وتعتبر محط نظر الليبيين، كل حسب توجهاته ومواقفه السياسية، حيث تتوفر لكل الأطراف فضائياتها التي تقدّم لها الخطاب الذي تريد. وليس خافيا أن جل القنوات الليبية تقف وراءها أطراف سياسية تدعمها بالمال لكي تضمن حدا أدنى من النجاح الذي يجعلها مساندا لها في الصراع الدائر، لكن الأمر الملفت هو الفضائيات المدعومة من جماعات الإسلام السياسي، بل من دول الإسلام السياسي. فيكفي أن تتواجد فضائيات في بلد معيّن لنفهم التوجه العام لها، وهذا حال القنوات الليبية في تركيا التي تمتلك إمكانيات ضخمة تجعلها دائما محافظة على توازنها بل يجعلها قادرة على استقطاب أكثر ما يمكن من إعلاميين في إطار عملية الإغراء المالي. ووجودها خارج البلاد كان ضرورة لها باعتبارها تعرف أنها تفقد أي مشروعية لها في الداخل، وقد سبق لبعض تلك المؤسسات أن تعرض للاقتحام في طرابلس نظرا لحالة التوتير التي اعتمدتها في بث الفرقة بين الليبيين. والمشكل في هذه القنوات التي تلقى الرضى أساسا من أطراف معرفة في غرب البلاد، أنها اختارت التمركز في الخارج لبث خطابها الداعم للتنظيمات التكفيرية الأمر الذي جعل إيقافها عن تجاوزاتها صعبا.

شرق البلاد أيضا برزت فيه قنوات فضائية مختلفة في مشروعها مع حركات الإسلام السياسي واختارت الاصطفاف إلى جانب الجيش الليبي في معركته ضد الإرهاب، ورغم أن فارق الإمكانيات واضح في أطراف الدعم حيث تعتبر الدوحة وأنقرة مخزنيْن كبيرين لفائدة قنوات الإخوان والمقربين منهم، إلا المؤسسات الإعلامية شرق البلاد تخوض معركة حقيقية انتصارا لمبادئ الليبيين في رفض الجماعات الإرهابية، ويعتبر كثيرون أن نجحت في ذلك إلى حد كبير الأمر الذي جعلها قريبة منهم.

لا يمكن الحديث في ليبيا اليوم عن مشهد إعلامي سليم مهما كانت درجة تطوره ومحاولة مسايرته لما هو موجود في المنطقة والعالم، فحالة الصراع السياسي مازالت قائمة، والتوتر الأمني مازال يسود بعض المناطق، الأمر الذي يجعل وسائل الإعلام الليبية مسموعها ومرئييها أمام قوى النفوذ الكثيرة التي تحاول توجيهها أينما وكيفما أرادت.