أثرت الأزمة المستعرة منذ سنوات في ليبيا على جميع القطاعات الحيوية في ظل غياب الدولة وسيطرة الميليشيات على القرار.ويأتي الإعلام في طليعة القطاعات المتضررة من حالة الفوضى تلك، باعتبار قربه الطبيعي من دوائر القرار في عملية بحثه عن المعلومة من مصدرها، وباعتباره الوسيلة المثلى للتأثير في الجماهير.

وما فتئ الإعلاميون في ليبيا يدفعون ضريبة باهظة منذ العام 2011، ليس فقط بسبب غياب الأمن وانتشار السلاح الذي حول البلاد إلى بؤرة للعصابات المسلحة بمختلف توجهاتها، وإنما لأنهم مستهدفون بالإسم لحساسية دورهم، الذي يتطلب التقيد بضوابط المهنة، وخاصة منهم مَن رفضوا الدوران في فلك الميليشيات.

هذه الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الإعلاميون جعلت ليبيا في تراجع مطرد في حرية الإعلام والتعبير.وظهر هذا جليا في ترتيب دول المغرب العربي في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي أصدرته "منظمة مراسلون بلا حدود" في أفريل 2018، حيث حلّت ليبيا في المرتبة 162، متقدمة درجة واحدة على سلم الترتيب عن العام الماضي.

ووفق تصنيف المنظمة ما تزال ليبيا مصنفة ضمن فئة البلدان ذات الوضع السيئ جدا، وفق درجات حرية الصحافة والتي تشمل 5 فئات.وأرجع تصنيف مراسلون بلا حدود الترتيب المتدني لليبيا إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني والصراع المفتوح الذي دفع بالصحفيين إلى الفرار من البلاد خشية العمليات الانتقامية، إضافة إلى أن أطراف الصراع في البلاد تفرض مزيدا من القيود على حرية الصحافة وفق المنظمة.

وفي واقع مرير تعيشه ليبيا في ظل إنتشار الميليشيات المسلحة ذات الولاءات المتعددة وخاصة في العاصمة الليبية، انتشرت حالات الاختطاف والتعذيب والاعتقال التعسفي في أوساط الاعلاميين.وقد وثقت وحدة الرصد والتوثيق مابين يناير عام 2012 وديسمبر عام 2015، 384 جريمة واعتداء جسيم تعرض له الصحفيون ووسائل إعلام عدة مابين القتل العمد والشروع بالقتل أو الاختطاف والتعذيب والاعتقال التعسفي والاعتداء بالضرب فضلاً عن الملاحقات القضائية الجائرة بقوانين باهتة.

وعانت مهنة الاعلام وممتهنوها خلال سنوات الأزمة الماضية عمليات تضييق متصاعدة وممنهجة، وبات الصحفيون يئنون تحت تهديد حراب البنادق، وطالتهم عمليات الاغتيال والخطف والتغييب القسري، مما أجبر الكثير منهم على الانسحاب من المشهد.وفي فبراير الماضي، اعتبرت منظمة "مراسلون بلا حدود"، أن حرية الإعلام في ليبيا تشهد "أزمة غير مسبوقة"، معبرة عن مخاوفها من مغادرة الصحافيين البلاد.

وقالت المنظمة في بيان، إن "حرية الصحافة الوليدة في ليبيا تترنح منذ عام 2011، بسبب الوضع الأمني الذي تعيشه البلاد، وما يصاحبه من أزمة سياسية خانقة".وأدانت "ما ينعم به مرتكبو الانتهاكات ضد الصحافيين من إفلات تام من العقاب، وسط مناخ يدفع نحو إخلاء البلاد من صحافييها"، مشددة على أن "وضع الصحافيين ووسائل الإعلام لا يطاق في ليبيا".

ويتعرض الإعلاميون في ليبيا الى إنتهاكات جسيمة على يد المليشيات المسلحة التي تمارس القمع وتكميم الأفواه بشتى الطرق، تجاه من يرفض تبنى إيديولوجيتها والعمل تحت مظلتها.وفي تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان، في يوليو 2017، أفاد بتعرض ناشطين وحقوقيين للاعتداء الجسدي والاحتجاز والمضايقات والإخفاء على يد مجموعات مسلّحة بعضها ينتمي إلى السلطات الحكومية، في طرابلس ‏وفي أماكن أخرى غرب البلاد.

وقالت المديرة التنفيذية بالمنظمة لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في تقرير نشره موقع المنظمة الرسمي، إن ثمة ميليشيات ومجموعات مسلحة تعمل بعقلية "إمّا معنا أو ضدّنا"، تلاحق الناشطين والمدونين والإعلاميين ودفعت بعديد منهم إلى مغادرة البلاد وأسكتت الآخرين، وفق قولها.وطالبت المنظمة على لسان المديرة التنفيذية بالشرق الأوسط، حكومة الوفاق الوطني بمحاسبة المجموعات المسلحة وتحديدا تلك التابعة لها في حال هددت ناشطين أو ضايقتهم أو اعتدت عليهم.

وقال ناشطون في المركز الليبي لحرية الصحافة، لـ "هيومن رايتس ووتش" إن العاملين في وسائل الإعلام لا يثقون بالشرطة أو القضاء ويمارسون الرقابة الذاتية.ووفقا للتقرير السنوي للمركز لعام 2016، هاجمت الجماعات المسلحة 107 من العاملين في وسائط الإعلام في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الاعتداءات البدنية وقتل صحفيين اثنين. ووفقا للمركز، لقي تسعة صحفيين مصرعهم أثناء أداء واجبهم فى ليبيا منذ عام 2014.

وفي مايو 2017، رصد قسم شئون الصحافة والإعلام وقسم تقصى الحقائق والرصد والتوثيق باللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا منذ بداية عام 2017 وقوع 32 حالة اعتداء وانتهاكات بحق الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية فى ليبيا تباينت بين الاختطاف والاعتقال القسرى ووقف بث الوسائل الإعلام المسموعة والاعتداءات على مقر قنوات فضائية وراديو مسموعة وتهديدات بالقتل والاختطاف لصحفيين وإعلاميين.

وفي ظل فشل الحكومات الموجودة، سواء عن قصد أو عن عجز، على حماية الإعلاميين وتتبع الأطراف المتورطة في جرائم ضدهم، تصاعدت وتيرة الإنتهاكات مع غياب الرادع.وفي مايو 2018، أشارت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا في بيان لها، إلى تصاعد الاعتداءات والانتهاكات بحق الصحفيين الليبيين من جرائم الاختطاف والاعتقال والإخفاء ألقسري من قبل الجماعات والتشكيلات المسلحة بعموم البلاد في ظل استمرار حالة الإفلات من العقاب نتيجة انهيار الأجهزة الأمنية وضعف منظومة العدالة واستمرار حالة الإفلات من العقاب التي باتت عاجزة عن ملاحقة الجُناة ومحاسبتهم.

وأعربت اللجنة "عن تضامنها الكبير مع الصحفيين والإعلاميين الضحايا والمتضررين جراء هذه الجرائم والانتهاكات البشعة التي ارتكبت بحقهم". مطالبة "جميع السلطات الأمنية والعسكرية بعموم البلاد بضرورة بالالتزام بالقوانين والأعراف والمواثيق والإعلانات الدولية الضامنة لحرية الصحافة والإعلام، ووقف جميع أشكال الممارسات والانتهاكات التي تمس بشكل مباشر حرية الصحافة والإعلام وحرية الصحفيين والإعلاميين في ليبيا، وكذلك وقف ممارسة سياسة تكميم الأفواه أو تقييد العمل الصحفي والإعلامي في ليبيا". 

على صعيد آخر، إتجهت العديد من المنابر الإعلامية، للتموقع تحت مظلة الميليشيات وتبنت الدفاع عن أفكارها المتطرفة.وأبرز هذه المنابر، مؤسسة التناصح للدعوة والثقافة والإعلام في ليبيا، التي سعت الى تقديم جميع أشكال الدعم للجماعات الإرهابية.وقد إستخدمت منبرها للدعوة للانضمام للمجموعات الإرهابية والخروج على مؤسسات الدولة وشن الهجمات على الجيش الليبي.

أما وكالة بشرى الاخبارية، فتعتبر الذراع الإعلامي لسرايا الدفاع عن بنغازي الإرهابية، التى تعد ثمرة التحالف بين القاعدة والإخوان في ليبيا.وقد حرصت الوكالة على بث الأخبار الخاصة بهذا التنظيم ومحاولة تلميع صورته والدعوة للإنظمام إليه في قتال الجيش الليبي.

من جهتها، تعتبر قناة "النبأ" الإخبارية، إحدى المنابر الإعلامية المحسوبة على التيارات المتطرفة.وتعود ملكيتها لرجل قطر الأول في ليبيا الإرهابي عبد الحكيم بلحاج القيادي في الجماعة الليبية المقاتلة.ومنذ إنطلاق البث الرسمي لها في اغسطس 2013، تبنت القناة مسارا واضحا في التحريض على العنف وتمليع صورة الجماعات الإرهابية كتنظيم القاعدة وأنصار الشريعة وغيرها.

هذا التوجه الذي تبنته هذه المنابر الإعلامية، جعلها في مرمى الإنتقادات محليا ودوليا، ففي سبتمبر 2016 ، أدانت النقابة المستقلة للإعلاميين حالات التشهير والتحريض على العنف والكراهية التي تبث على قناة النبأ.وفي ابريل من العام 2017، أظهر تقرير المركز الليبي لحرية الصحافة حول خطاب التحريض والكراهية في الإعلام الليبي أن قناة النبأ تصدرت القنوات التليفزيوية، في بث خطاب التحريض والكراهية.

ومن باب التأكيد على خطورة "الآلة الاعلامية" في نشر التطرف والفتن ودورها في تهديد الاستقرار الاقليمي والدولي، قامت الدول العربية الأربعة، مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين، بإدراج منابر إعلامية في القوائم التي ضمت كيانات وشخصيات إرهابية مدعومة قطرياً.

وبينما تتواصل المفاوضات بين مختلف الأطراف الليبية بهدف التوصل إلى اتفاق وحدة وطنية تحت إشراف الأمم المتحدة منذ بداية عام 2015، تستمر المعارك العنيفة يومياً على الأراضي الليبية وتتوسع معها دائرة العنف التي تطال الجميع. وأمام هذه الفوضى العارمة، يدفع الإعلاميون الثمن غالياً بين التعرض للإنتهاكات أو الهروب إلى المنفى، ويرى مراقبون أن الإعلام في ليبيا في زمن المليشيات ينطوي على مخاطر جسيمة ويبدو مهمة مستحيلة.