حميد لشهب باحث ومترجم وكاتب مغربي مقيم في النمسا، له عدة كتب وابحاث حول عدة قضايا فلسفية ودينية منها حفريات مهاجر وتفاعل الحضارات : دور الفينومينولجيا الواقعية في حوار الحضارات والديانات والله كبرهان على وجود الله : إعادة تأسيس فينومينولوجي للبرهان الأنطولوجي ونقد الفلسفة الكانطية وموسم العودة إلى الجنوب. يتحدث في هذا الحوار عن معاني رمضان وعن الشهر المبارك في المهجر وعن ذكرياته في اول صيام له :
هلَّ علينا شهر رمضان المبارك بخصوصياته ويومياته الخاصة جدا، كيف تعيش هذه اللحظة أو هذا الموسم الديني؟
- رمضان عندي منذ بضعة سنوات أكثر من طقس وأكثر من "الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها". إنه فرصة فريدة من نوعها على مدار العام للرجوع إلى "النفس الخبيثة"، الأمارة بالإثم ضد الذات نفسها. إنه نوع من الغطس مجددا في دواخل الروح -على الرغم من صعوبة تعريف هذا المصطلح- للوصول إلى دواخل العقل. فـ "الحرمان" من ملذات الحياة، يقود -عندما يصوم المرء بطريقة صحيحة- إلى ملذات روحية وعقلية لا نصل لها في الأيام العادية. عندما نتجاوز الإحساس بالجوع، أو نعيشه بوعي كحاجز بيننا وبيننا (وتكرار كلمة بيننا هنا مقصود)، أي بين غرائزنا وحاجياتنا البيولوجية الضرورية للإستمرار في الحياة، وبين وعينا؛ فإننا نصل إلى مستوى وعي ذاتي لا يمكن وصفه بكلمات عابرة.
الصيام بصفة عامة، سواء في رمضان أو في أيام السنة الأخرى، وبغض النظر على بعده وأساسه الديني، هو نوع من رجوع الإنسان إلى "عِرْيِهْ" الوجودي وطرح نفسه محل سؤال وتأمل نمط الحياة التي اختارها واستعمال ملكة النقد فيه ليرى نفسه في مرآة الوجود على حقيقتها، بعيدا عن كل ميكانيزمات الدفاع والكبت التي يستعملها في سلوكه اليومي، ليظهر بالمظهر الذي يريد أن يراه به الآخرون. بكلمة مختصرة: فرقعة "أنا" الأنانية فيه والإقتراب أكثر من حقيقة وجوده ومن أصالته الذاتية، التي تميزه عن الآخرين.
ترافقني هذه الإعتبارات في شهر رمضان، الذي يسمح لي بالرجوع إلى ذاتي وإعادة موضعة "أناي" وربط وجودي الحقيقي بالإكراهات الوجودية التي نسبح فيها، وربط تلك العلاقة الخاصة بما هو أسمى منا، أسمى من البشر، وتأمل ما وصل له الإنسان في ماكينة العنف التي صنعها، والتي ستؤدي حتما إلى مسح البشرية إن استمر تشغيلها بهذه الطريقة، وفي هذا خيانة لائتمان مسؤولية ورث الأرض من طرف الإنسان. فالسردية الدينية تؤكد بأن الله منح الأرض للإنسان وأوصاه بها خيرا، وها نحن نرى بأنه يعيث بها فسادا، بل يدمرها يوميا، معتزا بنزعته التدميرية وعدم الوفاء بالعهد مع الرب. ومن لم يف بوعده مع الله، لن يفي أبدا بوعده مع أخيه الإنسان. وفي هذا نفحة رمضانية، نفحة صيام، فمن لم يصم على خيانة الله، فلا حاجة له من صيام رمضان، أو الإثنين والخميس في الأسبوع.
لشهر رمضان أجندته الخاصة، إذ عادة ما يتغير الروتين اليومي للكثيرين. بالنسبة لكم كيف يمر يومك الرمضاني؟
- إيقاع يومي لا يتغير كثيرا في رمضان، لأنني أشتغل عاديا وليس هناك توقيت رمضاني فيما يخص الشغل، باستثناء في الدول المسلمة. التغيير الطفيف الذي يشعر به المرء، أقصد المهاجر بصفة عامة، يخص بالتدقيق فترات الإستراحة، فاستراحة الغذاء تصبح بالفعل استراحة، في الوقت الذي يذهب فيه زملاء العمل من غير المسلمين لتناول وجبة غدائهم. وبما أن المرء يشتغل عاديا بالنظر إلى عدد ساعات العمل المطلوبة منه، فإن البعض من العياء يرافق الساعات الأخيرة من يوم العمل.
هل يؤثر رمضان على عملك وأنشطتكم اليومية؟
- نعم، لكن بطريقة إيجابية للغاية، بحيث أُصبح أكثر نشاطا على مستوى النشاط الفكري. كما أنني أستغل الليل أيضا للإنتاج، مع العلم أنني أقلل ما أمكن الأكل في الليل، بما في ذلك وقت الفطور.
لكل منا ذكريات مع أيام الصيام ألأولى أو الصيام خارج الوطن، ما هي أكثر الذكريات رسوخا في ذهنك بهذا الخصوص؟
- للسؤال شطرين، أهتم بالشطر الأول منه، أي في طفولتي، قبل أن أمر للطر الثاني، أي في أول رمضان لي في المهجر. عندما كنت صغيرا، حوالي 10 من عمري، وكان رمضان في الصيف. عزمت على الصوم اليوم كاملا بمناسبة ليلة القدر. كنا وسط البيت، المفتوح على السماء، وكان أبي رحمه الله يحدثنا عن ليلة القدر، بطريقة شعبية متداولة، ومن بين الأمور التي حكاها هو أن السماء تُفتح هذه الليلة، ومن حالفه الحظ وطلب شيئا من الله، يحققه له على التو. وبينما هو يحكي إذ بشهاب يمر في السماء، أطلقت بعده على التو بكاء مريرا، وعندما سألني أبي مذعورا، أجبته بأن السماء فُتحت ولم أطلب شيئا. هذه ذكرى جميلة لم تبارحني إلى الآن، خاصة في الصيف عندما يمكن للمرء مشاهدة الشهب في السماء ليلا.
أما الشطر الثاني فله علاقة بأول رمضان لي في المهجر: في المجمع السكني الذي كنت أقطن فيه، كان هناك مسجد صغير، أي غرفة كانت مخصصة لمن يريد الصلاة. كانت البناية مكونة من أغلبية عربية. قُبيل الفطور بدقائق فتحت باب البيت لسبب لم أعد أتذكره، فوجت في العتبة طناجر صغيرة من الحريرة. لم أفهم الأمر بتاتا، ولم أعرف حتى من وضعها هناك. تعجبت للأمر، وأخذت الطنيجرات للمطبخ. لكن بعد ذلك اعتراني وسوسا خناس مُهول، وتسائلت عن مصدر الطنيجرات. في آخر المطاف قررت أن أتخلص منها في دلو النفايات، غسلت الطنيجرات بعناية فائقة، وكتبت نفس الجملة مرات عديدة (ذكرتني في عقوبات المرحلة الإبتدائية) ووضعتها في كل طنجرة. كانت الجملة تقول: "شكرا على كرمك، إلا أنني لسوء الحظ لا أكل الحريرة". كان هذا لأتخلص من الحريرة كل مساء. في اليوم الموالي وجدت بعض الطنجرات مملوئة بشربة خضر. استسلمت للأمر وأولته بكون المانحين كانوا يريدون إرضاء الله بواسطتي.
رمضان شهر يتميز بالإقبال على القراءة. ماذا تقرأ في رمضان؟
- أعكف رمضان هذه السنة على دراسة مؤلف قيم "فلسفة الدين. بين التجربة الباطنية والتأمل النظري" للفيلسوف المغربي القيم، أستاذ الفلسفة بجامعة الرباط، د. محمد مزوز. كتاب أثار اهتمامي وأنا بالمغرب وحملته كمتاع وزاد فكري معي، بعدما اطلعت على الفهرسة، وتيقنت بأنه يستحق، ليس فقط القراءة، بل وأيضا الدراسة. عندما أنهيه منتصف رمضان إن شاء الله، لي نية تحرير قراءة نقدية له، لتعميم الفائدة. ولربما أضعه هذه القراءة رهن إشارة قراء جريدتك، إن كان هناك اهتمام بها.
شهر رمضان موسم ديني تتوحد فيه البلدان والجاليات الإسلامية عبر العالم. لكن يبقى لكل بلد أو منطقة خصوصياتها الخاصة. ماذا يميز بلدكم أو منطقتكم عن غيرها؟
- الميزة الأساسية للمنطقة التي أعيش فيها (غرب النمسا على محادات نهر الراين، ومفصل جنوب ألمانيا والشمال الشرقي لسويسرا) هي أنها تنام حالمة في طبيعة خلابة، بغابات من أشجار متعددة الأنواع، كثيفة وكثيرة، ومراعي شاسعة، وقمم ألبية (من جبال الألب) غاية في الجمال. تساعد كثيرا على التفكير والتأمل وتكون في رمضان ملجأ مسلمي المنطقة، وعددهم ضئيل جدا، للمشي قبل الفطور. باستثناء الجالية التركية الكبيرة من حيث العدد، والمنظمة في جمعيات مختلفة، ليس هناك أنشطة رمضانية خاصة بالمسلمين، لذلك لا وجود لأنشطة رمضاية تُذكر، اللهم على الصعيد الخاص. وعموما لا يمكن أن توجد أصلا، لأن المرء يفطر وينام ليستيقظ للسحور وينام من جديد قليلا قبل مغادرة البيت للعمل كل اليوم.
كلمة أخيرة
- أتمنى لقراء وقارئات الجريدة والطاقم الساهر عليها، بما فيهم حضرتكم، رمضان مبارك سعيد، مليئ بالزهد في الأكل والكثير من ملئ الخزانات الروحية والعقلية، والإقتراب أكثر من رب العالمين، ليس فقط بآداء الطقوس التي أوصانا بها، بل لحبه من أجل الحب، وليس خوفا من غضبه أو عقابه أو طمعا في جزائه. ولن يتأتى هذا الحب لله، إلا إذا تم هناك حب حقيقي بيننا، وتنازلنا طواعية على أنانياتنا وأشعلنا في ضمائرنا وقلوبنا حب الخير لبعضنا. إذ ذاك فقط نكون قد صمنا وأطعنا الله وأحببناه.