بعد مرور نحو ثلاث أعوام على اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير يواجه الاقتصاد المصري تحدياتٍ مُثبطة. فمصر التي تشهد من الناحية الفنية حالة ركود، عانت فترةً مطوّلةً من نموٍ اقتصادي بطيء، وعجزٍ كبيرٍ في الموازنة، وتراجعٍ في احتياطي العملات الأجنبية، وثغرةٍ متوسّعة في ميزان المدفوعات. إلى ذلك، يرزح الجنيه المصري تحت وطأة ضغوطٍ شديدة. وفي هذه الأثناء، ينزلق المزيد من الناس في أنحاء البلاد إلى مادون خط الفقر، فيما يغرق أولائك الذين يعيشون أصلاً تحت هذا الخط، أكثر فأكثر في لجة الحرمان.

إنّ النقاش حول كيفية التعامل مع الأزمة يزداد حدّةً، خاصةً مع التصاعد المتزايد لمطالب القوى العاملة والتي لاتمتلك مصر حالياً الموارد اللازمة لتلبيتها. وفي غياب رؤيةٍ شاملة حول كيفية معالجة الأزمة، تجهد الأطراف المعنية بشكلٍ محمومٍ لإيجاد حلٍّ، لكن، من دون أن تلقى جهودها نجاحاً يذكر. ونظراً إلى هذا الواقع، يبدو أنّ معجزة وحدها قادرة على إنقاذ الاقتصاد المصري، وفي الحقيقة المجتمع، من المستقبل القاتم الذي يواجهه.
بيد أنّ التاريخ يشي بأنّ المعجزات لاتقع هكذا، بل تُصنَع عن سابق تصوّر وتصميم. ففي العديد من "المعجزات" المهمة، كان ثمة رؤية. فمصر في عهد محمد علي، وفترة مييجي في اليابان، وتعافي الولايات المتحدة وأوروبا في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، والمعجزة الآسيوية التي انتشلت الملايين من الفقر في وقتٍ قياسيٍّ، وبروز مجموعة البريكس كقوة اقتصادية عالمية، كانت هذه جميعها معجزات مخطط لها. 
ويُفترض بمصر أن تحذو حذو هذه الدول وتسعى إلى إرساء رؤية خاصة بها، على أن تأخذ هذه الرؤية بعين الاعتبار حقائق النظام الاقتصادي في البلاد، أي بتعبيرٍ آخر، أوضاعه الأولية وتأثير الانتفاضات الكبرى الأخيرة في كلّ أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتبدلات الاقتصادية التي تجري حالياً على المستوى العالمي. كذلك، لابد لمصر أن تسعى إلى معالجة مجموعة من القضايا التي يمكن أن تضمن انتقالاً اقتصادياً ناجحاً وتوفّر حلولاً ملموسةً على المدى القصير (الأشهر الاثني عشر المقبلة) والمدى المتوسط (من الآن حتى العام 2020). ولابد لها أيضاً من أن تركّز على توفير فرص عمل وأن تطوّر قوى عاملة ماهرة لتعزيز النمو وتقليص الفقر ومنح البلاد القدرة على المنافسة عالمياً.

الرابط بين النمو والعمالة والفقر :

لايمكن الخروج من الأزمة الحالية مالَم تتم أولاً إعادة الاقتصاد المصري إلى سكّة النمو وتُخفَّض معدلات الفقر والبطالة. الأرقام القياسية التي حققتها البلاد في مرحلة ماقبل الثورة، ملفتة إذا مانظرنا فقط إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي. فقبل العام 2011، كان الاقتصاد المصري ينمو بنسبة 7.2% سنوياً. وفي الفترة بين 2000 و2010، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي من 100 مليار دولار إلى 200 مليار دولار، في حين ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد من 1600 دولار إلى 2800 دولار.

بيد أنّ ثمار هذا النمو لم "تتسرّب" إلى المجموعات ذات الدخل الأدنى. فبين عامي 2000 و2010، كانت نسبة 20% من السكان مادون خط الفقر المطلق (1845 جنيهاً أو حوالى 304 دولارات سنوياً العام 2008)، في حين كان 22% منهم مهدداً بالهبوط إلى مستويات أدنى في حال وقوع أي صدمات اقتصادية داخلية أو خارجية. وفي الوقت الراهن، يبلغ معدل البطالة 12.6% من مجمل القوى العاملة، لكنّه يرتفع إلى 25% بالنسبة إلى فئة الشباب. وهذا الأمر هو بمثابة قنبلة زمنية اجتماعية-اقتصادية حقيقية.
يتمثّل التحدي المطروح على مستوى السياسة العامة، في كيفية تصميم وتطبيق ثقافة نمو واسعة النطاق وقادرة على خفض معدل الفقر؛ وتكمن الإجابة هنا في تطوير استراتيجية نمو تركّز إلى حد كبير على العمالة وتوليد الطلب. وفي هذا الإطار مجدداً، يمكن لتجارب دول أخرى أن تنير الطريق. ومن بين هذه التجارب، منها صيغة جون مينارد كينز للنهوض بالاقتصاديات من فترة الكساد الكبير بين 1929 و1932، والذي استخدم أموال القطاع العام لتحفيز الاقتصاد واستقطاب القطاع الخاص. 

ثمّ جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008 لتعزز وجهة نظره هذه. وفي الآونة الأخيرة، في 17 أيلول/سبتمبر 2012 تحديداً، طرح لاري سامرز، وزير الخزانة الأميركي السابق في عهد الرئيس بيل كلينتون، خطة عمل في صحيفة فاينانشال تايمز، ومصممة لمساعدة بريطانيا على الخروج من الأزمة. ومن خلال اتخاذه موقفاً ضد الإجراءات التقشفية في المملكة المتحدة، ركّز على توليد الطلب، فيما كان الخبير الاقتصادي بول كروغمان من جامعة برينستون، يدافع عن مقاربة مماثلة في الولايات المتحدة.
يتعينّ أن تكون نقطة الإنطلاق بالنسبة إلى مصر، هي توليد الطلب من خلال زيادة فرص العمل. فبحلول العام 2020، سيبلغ عدد سكان مصر 100 مليون نسمة، منهم 33 مليوناً من قوة العمل.1 لذا، ومن أجل توفير فرص عمل لهذا العدد الأكبر من اليد العاملة، يحتاج الاقتصاد لأن ينمو بنسبة 7% على أساس سنوي لفترة ممتدة (تتجاوز السنوات العشر)، الأمر الذي قد يستدعي زيادة الاستثمارات عن مستواها الحالي المتثمل بنسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 25%. وتحقيقاً لهذه الغاية، ثمة حاجة إلى تطوير استراتيجية لحشد الموارد على المستويين المحلي والدولي، ولابد للحكومة أن تبدأ فوراً بتطبيق رزمة تحفيز مهمة للاستثمار في قطاعات لاتساهم بالتضخم، على غرار البنى التحتية والتعليم والصحة والاسكان الاجتماعي. هذا ولابد أن يتم تحفيز القطاع الخاص أيضاً للمشاركة في العملية.

لكن، ليس واضحاً كيف يمكن تمويل رزمة الحفز، نظراً إلى العجز الكبير في الموازنة المصرية والمقدّر بنحو 22 مليار دولار (135 مليار جنيه مصري) أو 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أنّ الدين القومي المحلي مرتفع أيضاً، ويبلغ نحو 197 مليار دولار (1.2 تريليون جنيه مصري) أو 70% من الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا، تضطلع الموارد الخارجية المتراوحة قيمتها بين 10 مليارات و12 مليار دولار بدورٍ مهمٍ في سد الفجوة المالية.2 والوضع الأمثل أن تزيد دول مجلس التعاون الخليجي زخم مساعداتها، لكن، وعلى المدى القصير، يتعيّن على مصر أن تحصل على قروضٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويُذكر أن مصر أصبحت عضواً في الصندوق منذ كانون الأول/ديسمبر 1945 ولها الحق بالاقتراض على أساس مساهماتها. 
بيد أنه ينبغي على مصر أن تضع أيضاً برنامجاً ذاتياً يقوم على سياسات مالية ونقدية واضحة لتفادي وصمة المشروطية التي تترافق ومثل هذه القروض. فضلاً عن ذلك، حان الوقت للتخلّي عن نظام الدعم غير العادل للغاية الذي يُخصص بمعظمه للوقود ويبتلع 30 بالمئة من إجمالي نفقات الميزانية. وعلى مصر قبل كل شيء أن تُطلِق حملةً لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية، التي تراجعت من 13 مليار دولار في العام 2012 إلى مستوى ضئيل يبلغ 300 مليون دولار هذه السنة.

يجب أن تستكمل هذه المقاربات بسياسات تستند إلى القطاعات. فمستقبل مصر يعتمد على إطلاق مرحلة جديدة من التصنيع تستند إلى قدرة تنافسية أعلى، تتيح لمصر المشاركة في سلاسل الإنتاج العالمية. والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكّل محفّزاً مثالياً لهذا التغيير. في الماضي، كَثُر الكلام وقلَّ الفعل لدعم هذه المؤسسات، مع أنها تمتلك إمكانات هائلة بما فيها القدرة على استيعاب مايزيد على 40 بالمئة من القوة العاملة قبل العام 2020. ولذلك، يجب أن تنتقل مصر انتقالاً نوعياً إلى ترقية روح مبادرة تنظيم المشاريع، عبر إنشاء هيئة فريدة تعمل على دعم هذا النوع من الأعمال، على غرار ماحصل مع الهيئة الماليزية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

بالطبع، أيّ من هذه التغييرات لن يؤتي أكله إذا لم يُستعاد الاستقرار السياسي إلى مصر. فغياب الاستقرار السياسي مسؤول إلى حدّ كبير عن تراجع تصنيف مصر على صعيد الأعمال، وذلك وفقاً لتقرير التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2011.

تعزيز مهارات القوى العاملة:

على مصر أيضاً أن تعزز مهارات القوى العاملة فيها، لاسيما وأنّ 42% من 22 مليون عامل، هم إما أميين وإما شبه أميين. ويمكن تصنيف غالبيتهم بأنهم "فقراء عاملون" تجمّدت أجورهم الفعلية على مدى العقود الثلاثة الماضية ويعيشون تحت خطر الفقر الرسمي. ولعلّ هذه العوامل تفسّر سبب تدني وتراجع إنتاجية العامل المصري المتدنية وتراجعها. وبحسب تقرير التنافسية العالمية، إنّ الكفاءة المتدنية لسوق العمل هي أحد العوامل الرئيسة الكامنة وراء خفض تصنيف مرتبة مصر في مؤشر التنافسية العالمية. ففي 2011-2012، كانت مصر تحتل المرتبة 94 من أصل 142، بالمقارنة مع المرتبة 81 في العام السابق. والأخطر من ذلك، التصنيف الحالي لفعالية سوق العمل المصري على المؤشر، حيث تحتلّ مصر المرتبة الـ141 من أصل 142.
يعكس هذا الوضع تأثير سمتين مهمتين يتصف بهما سوق العمل المصري. أولهما، نقصٌ مزمنٌ في الطلب على العمالة، وهذا نتيجة فشل الاقتصاد عن توفير فرص عمل كافية لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل – وبالتالي ارتفاع معدل البطالة، لاسيما في أوساط الشباب. وثانيهما يتعلق بجهة العرض، حيث أنّ المؤسسات التعليمية وبرامج التدريب في مصر لاتعطي طلابها المهارات التي يطلبها أصحاب العمل المحليين والدوليين. ونتيجة ذلك، يظل هؤلاء الأشخاص من دون عمل، لابل ويعتبرون غير قابلين للتوظيف، الأمر الذي بات اليوم عقبةً كأداء في طريق تعزيز الإنتاجية والتنافسية.

هذه كلّها ليست تطورات جديدة، إذ يرقى الجدال حول إصلاح قطاع التعليم إلى السبعينيات على الأقل. وبحسب تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية، تعدّ القوى العاملة المصرية التي لم تلقَ تعليماً ملائماً، عاملاً مهماً وراء تصنيف البلاد المتدني. فعلى مؤشر كفاءة التعليم، احتلت مصر المرتبة 110 من أصل 182، وأفضل مايمكنها القيام به من أجل تخطي هذه الاحصائيات هو السعي بقوة إلى تطبيق برنامج توظيفٍ وطنيٍّ يتجاوز الدعوة المبهمة والمتكررة غالباً إلى "إصلاح قطاع التعليم".

إلى ذلك، ومن أجل إصلاح أنظمة التدريب والتعليم في مصر، والابتعاد عن سياسات العرض التي اعتُمدت في الماضي لمصلحة المقاربات التي تستند إلى الطلب، لابدّ من بذل جهودٍ كبيرةٍ تشمل إرساء شراكةٍ حقيقيةٍ بين القطاعين العام والخاص. وفي هذا السياق، من المفترض إعادة النظر بطريقة صارمة في صندوق التدريب الوارد ذكره في قانون العمل المصري للعام 2003، وذلك من أجل إنشاء مؤسسة مستقلة ذاتياً تكون مسؤولة عن بناء القدرات في كل أنحاء البلاد. كما من المفترض بمصر أيضاً أن تعيد النظر ملياً بهيكلية الأجور البالية، وتحديد المهن بشكلٍ أوضح، واستبدال سياسة الأجور غير المنظمة اليوم بأخرى تربط الأجور بالإنتاجية.

الربط بين الرؤية والواقع:

في إطار اقتصادٍ عالمي متعولم، يعتمد الازدهار النسبي للأمم على الأسلوب الذي تعتمده هذه الأخيرة للإندماج في هذا الاقتصاد، وعلى شروط هذا الدمج. ونظراً إلى السياسات العامة الاقتصادية الملغوطة والقوى العاملة غير الماهرة في مصر، تسيطر السلع الأساسية الأولية والمنتجات ذات التقنية البسيطة على الهيكلية الحالية للصادرات المصرية. وفي غضون ذلك، زادت دول على غرار تركيا وماليزيا والبرازيل والصين حصتها في التجارة العالمية من خلال ارتقاء السلم وتصدير منتجات ذات تقنية عالية ومتوسطة. وقد استندت هذه الدول في نجاحها إلى عملية تحسين مستمرة وإلى تعزيز قدرتها التنافسية؛ والاستراتيجية التنافسية المصرية التي وضعها المجلس الوطني المصري للتنافسية، توفّر خريطة طريق واضحة تساعد على اللحاق بهذه الدول في هذا المجال.
لكن، في خاتمة المطاف، ينبغي على إطار العمل الاقتصادي السياسي في مصر أن يكون مصدر تغيير. وعلى البلاد أن تحدّد بوضوح الأدوار النسبية التي يضطلع بها كل من الدولة والقطاع الخاص. وفي حين يُفترض بالقطاع الخاص أن يقود دفة النمو، يتعيّن أن يأخذ القطاع العام على عاتقه دور الضابط والمنظم ويتولى حفز الاستثمارات – ولاسيما خلال مرحلة التعافي على المدى القصير، على أن يكون إطار العمل القانوني لهذه الأدوار على قدرٍ من الاستقرار وقادر على تجنّب الهزات المتكررة.

على مصر أيضاً أن تتذكر دوماً أنّ إطار عمل مؤسساتي ضعيف يؤكد في الغالب أنّه الحلقة المفقودة بين الرؤية وبين الواقع. فوجود مؤسسات مستقرة قادرة على تنفيذ العقود وحماية الملكيات ومحاربة الفساد، أمر لاغنى عنه لإنجاح المرحلة الإنتقالية. وعلى المصريين العمل لتغيير العقليات المترسخة والخاضعة للقيم التقليدية التي تميل إلى عرقة التقدم والإنتاجية. فكما يظهر التاريخ، فإنّ حواراً حقيقياً ضمن إطارٍ ديمقراطي هو الطريقة الأكثر فعاليةً لتغيير مواقف الناس.