مع اندلاع الأزمة الليبية في العام 2011، سارعت الأمم المتحدة للتدخل منذ البداية لحل النزاع الدائر في البلاد. ففي سبتمبر/أيلول من نفس العام، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره الذي حمل رقم 2009 والذي نص على إنشاء بعثة للدعم في ليبيا، وإقرار أن تفويض تلك اللجنة هو مساعدة الليبيين في استعادة الأمن العام والنظام، وتحسين دور القانون، وتشجيع المصالحة الوطنية، وتوسيع سلطة الدولة، واستعادة الخدمات العامة، وحماية حقوق الإنسان وتحسينها، واتخاذ الخطوات اللازمة لتعافي الوضع الاقتصادي.

وسعت البعثة الأممية في فترة الدكتور طارق متري إلى جمع الإطراف الليبية في حوار سياسي قبل انتخابات مجلس النواب ولكنها لم توفق، وانتهت مهمتها بضرورة جلائها عن الأراضي الليبية وتوقف عملها في تموز يوليو 2014. وفي معرض شرحه للأسباب التي أدّت لإيقاف مهمته بليبيا قال المبعوث الأممي خلال محاضرة حول الشأن الليبي الانتقالي التي استضافتها الجامعة الأميركية في بيروت يوم 22 أبريل 2015 "غادرت حين أصبحت مهمتي مستحيلة وفشلت في إقناع النخب السياسيّة بالتسوية. وطالتنا كبعثة التهديدات بالقتل أخيرًا". 

وفي ظروف صعبة احتدم فيها الصراع بين الأطراف الليبية، تم تعيين برناردينو ليون، خلفا للدكتور طارق متري، على رأس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وأستلم مهمته في 1 سبتمبر 2014. تمكن ليون من إقناع برلمانيين من المؤتمر الوطني المنتهية ولايته والمحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، وبرلمان طبرق بالاجتماع في غدامس في أقصى الغرب الليبي، وكانت أولى جلسات الأطراف المتناحرة. وأعلن أنه لا يمكن لليبيا أن تتجاوز مشاكلها إلا عبر الحوار، وأن مهمة الأمم المتحدة هي العمل على توفير الظروف الملائمة له، وحاول جمع الأطراف في أكثر من مكان وعلى أكثر من مسار. 

ورغم هذا فقد فشلت البعثة الأممية في إقناع أطراف النزاع في ليبيا بالتوصل إلى اتفاق سلام، وتعرضت لانتقادات كبيرة بسبب محاولة فرض أسماء للحكومة وللمجلس الرئاسى دون تشاور كافٍ مع كل الأطراف الليبية. فى الوقت الذى مارس فيه المنتظم الدولى كافة الضغوطات، وصلت حد التهديد بفرض عقوبات على الأطراف غير الملتزمة بما فيها مجلس النواب، لقبول مقترحات "ليون"، مما أوصل العملية السياسية إلى طريق مسدود. 

وعقب ذلك، جاء الاتفاق، الذي يعتبر أهم إنجاز قامت به البعثة خلال سبع سنوات في ليبيا، وقد تم توقيعه في مدينة الصخيرات المغربية بتاريخ 17 ديسمبر 2015 بإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر لإنهاء الحرب الأهلية الليبية الثانية المندلعة منذ 2014 وقد بدأ العمل به من معظم القوى الموافقة عليه في 6 أبريل 2016.

وكان أهم ما تضمنه الاتفاق: منح صلاحيات رئيس الحكومة لمجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني الذي يترأسه رئيس الحكومة نفسه (فائز السراج) وبدء مرحلة انتقال جديدة تستمر 18 شهر وفي حال عدم انتهاء الحكومة من مهامها قد يتم تمديد المدة 6 أشهر إضافية ونص الاتفاق أيضاً على تشكيل المجلس الأعلى للدولة من أعضاء المؤتمر الوطني العام السابق والإبقاء على مجلس النواب الليبي المنتخب في يونيو 2014. وقد تم العمل بالإتفاق منذ عامين في ليبيا في محاولة لوقف الأزمة والانقسام السياسي القائم في البلاد. 

ورغم أن اتفاق الصخيرات قد حضي بدعم إقليمي ودولي، إلا أنه بدا بحسب المراقبين مبتورا، بسبب عدم الموافقة عليه من قبل فاعلين سياسيين وميدانيين، سواء في المنطقة الشرقية أو المنطقة الغربية على حدّ السواء. ولعلّ المؤشر الأساسي البيّن حول محدودية التوافق الوطني لاتفاق الصخيرات والحكومة المنبثقة عنه، هو عدم قدرة رئيس حكومتها على كسب ثقة مجلس النواب. 

ووجدت سياسة البعثة الأممية برئاسة مارتن كوبلر، انتقادات واسعة من قبل مراقبين وحتى مسؤولين في الدولة الليبية. وشر كثيرون إلى أن الأمم المتحدة اتخذت منهجا خاطئا لحل الأزمة الليبية من خلال سعيها لتشكيل مجلس رئاسي وحكومة منبثقة عنه، متجاهلة في المقابل الصراعات القبلية والجهوية وطبيعة المجتمع الليبي الذي مازالت قطاعات كبيرة منه إلى اليوم تتخذ من القبيلة سلطة ومرجعا لكل تحركاته السياسية وحتى العسكرية.

وفشل كوبلر بحسب المراقبين في أن يكون على مسافة واحدة بين الفرقاء، حيث انحاز بشكل واضح ومكشوف إلى طرف دون آخر، الأمر الذي عقد مهمته في إيجاد تفاهمات تنهي الصراع السياسي والعسكري الذي تشهده ليبيا. وتسبب هذا الانحياز في ارتفاع الأصوات التي تطالب برحيل كوبلر، كما خرجت العديد من المظاهرات الرافضة له في مختلف المناطق والجهات الليبية. 

وبتسلم غسان سلامة المهمة من مارتن كوبلر في ظل عدد من المتغيرات في السياق السياسي الليبي داخليًا وإقليميًا، كان من المتوقع أن يكون نمط أداء البعثة مختلفًا عما سبق حيث بات الوضع أكثر مرونة بعد تنسيق الرؤى بين كل دول الوار، وهي الأطراف القادرة على التواصل مع أكبر عدد من الفاعلين في الداخل الليبي. وهو ما أشار إليه غسان سلامة حين أكد على حرصه على التواصل معهم نظرًا لما يحملونه من ثقل سياسي في سياق الأزمة الليبية. 

وانخرط غسان سلامة، في لقاءات ومشاورات داخلية وخارجية، انتهت بإعلانه وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، خارطة عرفت باسم "الخطة الأممية" في 20 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تستوعب في جزء منها الاتفاق السياسي، لكنها في الوقت نفسه تتجاوزه في مسائل أخرى، في إعلان ضمني بفشل اتفاق الصخيرات. 

وبدا واضحًا من تفاصيل الخطة الأممية أن غسان سلامة يسعى لتقديم تصور في شكل خطوات عملية، ويرتكن على مسارات ثلاث أساسية، هي: تعديل الاتفاق، والمصالحة الوطنية، ثم العملية السياسية مُمثلة في الاستفتاء على الدستور وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في المرحلة الأخيرة. وقد صرح سلامة أن الخارطة الأممية التي تقدم بها ما هي إلا تأطير لمطالب الأطراف الليبية ووضعها في جدول زمني محدد، كمان أكد أنه لم يكن ليعرض خطته دون الحصول على الضوء الأخضر من كل اللاعبين الأساسيين، داخليًا، وإقليميًا، ودوليًا. 

وأكد المراقبون، أن الحرص على التواصل مع كافة الأطراف دونما تمييز، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، يعد أحد أهم التغيرات في نمط عمل البعثة الأممية لليبيا في ظل ولاية غسان سلامة، خاصة بعد تواصل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مع أطراف تم إقصاؤها من جولات الحوار السابقة كأنصار النظام السابق، وهو ما يشير لمحاولة إعادة صياغة دور الأمم المتحدة في ليبيا.

وفي يناير 2018، أكدت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في بيان لها، أن خطة العمل من أجل ليبيا التي أُعلنت في سبتمبر 2017، تهدف إلى إعادة إطلاق العملية السياسية الليبية بدعم من الأمم المتحدة وقيادتها، مؤكدة، أنه "منذ إطلاق الخطة التي أعادت إحياء العملية السياسية التي تعثرت في السابق، يسعى غسان سلامة وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للعمل على جميع عناصر الخطة بشكل متزامن". وأكمل البيان، "أن بعض المنجزات التي تحققت بموجب خطة العمل خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة، التي تمثلت في: تعديل الاتفاق السياسي، وانعقاد الملتقى الوطني والاستعداد للانتخابات، والمساعدات الإنسانية.

ورغم أن الخطة الأممية تعمل على عدة محاور أهمها محاولة تعديل الاتفاق السياسي الليبي بين الفصائل الليبية في مدينة الصخيرات المغربية 2015، إلا ان سلامة فاجأ الجميع بتصريح نشره موقع أخبار الأمم المتحدة بأن خطة عمله لا تعتمد بشكل أساسي على تلك التعديلات، وأنه كلما اقتربت ليبيا من إجراء الانتخابات، أصبحت تعديلات الاتفاق السياسي أقل أهمية، مؤكدا أن العمل من أجل إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية قبل نهاية العام، يتصدر أولويات الأمم المتحدة.

وأثر التنافس بين القوى الدولية، وخاصة الصراع الإيطالي-الفرنسي، على البعثة الأممية بشكل كبير، وأكد مراقبون أن البعثة الأممية في ليبيا ضعيفة، أمام تجاذبات القوى الدولية ذات المصالح في الملف الليبي وكذلك أمام أطماع الأطراف المختلفة في الداخل. واعتبر الكثيرون أن تعيين ستيفاني ويليامز، نائبا لغسان سلامة مطلع يوليو الماضي، محاولة أميركية لتخفيض حدة التنافس الفرنسي الإيطالي على ليبيا، والذي صعب مهمة البعثة الأممية لإيجاد تسوية للأزمة العاصفة بالبلاد. 

وفي 13 سبتمبر/أيلول 2018، جدد مجلس الأمن الدولي ولاية البعثة الأممية إلى ليبيا برئاسة غسان سلامة، عقب تصويت بين أعضاء المجلس، وهو ما أثار التساؤلات عن أسباب هذا التجديد وعن ماذا قدمت في سبيل الخروج من الأزمة؟ خاصة مع ما ورد في تقرير لجنة الخبراء المقدم إلى رئيس مجلس الأمن بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول 2018، الذي يبين إلى أي حد وصل الفساد والفوضى في ليبيا، مع استمرار الاشتباكات، وعدم نجاح بعثة الأمم المتحدة في تنفيذ مخططاتها للحل السلمي في البلاد. 

ومثلت الاشتباكات المسلحة التي اندلعت بداية من ليل الأحد 26 أغسطس/آب الماضي، في العاصمة الليبية طرابلس، بين الميليشيات المسلحة والتي اعتبرت بحسب المراقبين الأعنف منذ سنوات، اختبارا حقيقيا للبعثة الأممية ومدى قدرتها على حل الأزمات والصراعات الدائرة في هذا البلد الممزق. 

ورغم أن أطراف القتال وقعت في الرابع من أيلول/ سبتبمر، اتفاقا على وقف إطلاق النار، وآليات تثبيت عدم انتهاك الهدنة وحماية المدنيين ومؤسسات الدولة، برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. إلا أن هذه الهدنة التي وصفت بالهشة سرعان ما تهاوت مع تجدد القتال في ظل استمرار انتشار الميليشيات المسلحة

وقد أقر مبعوث الأمم المتحدة الى ليبيا غسان سلامة في وقت سابق، بوقوع 14 انتهاكا للهدنة سجلتها المنظمة الأممية. ولاقت البعثة انتقادات لاذعة جراء عجزها أمام الميليشيات وتساؤلات عن دورها الفعلي وهو ما أشار إليه محمد المبشر، رئيس "مجلس الأعيان" الليبي في تصريح صحفي عقب قرار التجديد للبعثة الأممية، أن البعثة تجاوزت المهام المكلفة بها، مشيرًا إلى أن ذلك بسبب تراجع الدور الليبي الداخلي لحل الأزمة. 

ونقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية، عن المبشر قوله أن تراجع الدور الليبي-الليبي في مسألة المصالحة والإجراءات السياسة والدستورية أدى إلى تدخل البعثة الأممية في أمور ليست من اختصاصها، وأن اللوم في مثل هذه المواقف يوجه إلى الليبيين لعدم قدرتهم على التحاور أو حل الأزمة. مؤكدًا أن الاتفاق الذي توصلت إليه البعثة لوقف إطلاق النار في طرابلس لا توجد ضمانة لاستمراره، غير "حل الميليشيات"، وتمكين القوات المسلحة والشرطة من زمام الأمور، قائلا:"إن توحيد المؤسسة العسكرية بات ضروريًّا لإنهاء الوضع الراهن،  في ظل عدم توافق المجتمع الدولي بشأن حل الأزمة في ليبيا". 

ومع تواصل الفوضى الأمنية في طرابلس، أعلنت بعثة الأمم المتحدة لدى ليبيا، أنها تعد لائحة بأسماء منتهكي القانون الإنساني الدولي من قادة المليشيات المسلحة بالعاصمة الليبية ستقدمها إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات عليهم ومقاضاتهم كما فعلت ضد إبراهيم الجضران. وشددت البعثة الأممية، في بيان لها نشرته على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، الإثنين 24 سبتمبر/أيلول 2018،  أن العدالة لا يمكن أن تتحقق بالثأر، مقدمة تعازيها إلى أسر الضحايا الذين قتلوا جراء الاشتباكات الدائرة جنوبي العاصمة طرابلس. 

وكانت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، قد صعدت من نبرتها الحادة تجاه الميليشيات المسلحة المتصارعة في العاصمة طرابلس، ووجهت، في أغسطس الماضي، للمرة الأولى اتهاماً علنياً ونادراً لحكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فائز السراج بالتواطؤ عبر وزارة داخليتها مع هذه الميليشيات. لكن الكثير من المتابعين للشأن الليبي، يرون أن هذه الخطوة متأخرة للغاية، وكان الأفضل أن تتم مبكرا لمنع الفوضى التي تسود طرابلس بسبب إرهاب المليشيات المسلحة للمدنيين الأبرياء. 

ولا تزال البعثة الأممية في ليبيا تواصل مهامها من خلال الدفع نحو تفعيل نقاط الاتفاق السياسي، وإنهاء الترتيبات الأمنية وحزمة الاصلاحات الاقتصادية المتفق عليها بين الفرقاء الليبيين، كما ترعى حوارا آخرا سمي بالمؤتمر الوطني الليبي الجامع الذي يضم مختلف أطياف الشعب الليبي سياسيا واجتماعيا بما فيهم أنصار النظام الليبي السابق الذين تم استثناؤهم من كافة الحوارات السابقة. 

وبعد سنوات طويلة، لم يجد الليبيون توازنهم النهائي بعد، مع توصل مأساة الصراع المسلح التي تزيد الأمور تعقيدا وصعوبة يوما بعد يوم فيما يتواصل العجز عن الوصول الى حلول توافقية تنهي الأزمة المستعرة. ويخشى العديدون ان يقتصر دور البعثة الأممية في ليبيا على استبدال مندوب بآخر في تكرار لمشهد العجز والفشل والاخفاق.