وسط تجاذبات واسعة صدر قرار الافراج عن البغدادي المحمودي آخر رئيس وزراء في عهد العقيد معمّر القذّافي، من سجن الهضبة في طرابلس، وقد صدر القرار من وزارة العدل في حكومة الوفاق بتاريخ 20 يوليو 2019، لدواع صحيّة، وهو قرار متأخر لأن قرارا سابقا صدر في مارس الماضي عن الحكومة الليبية المؤقتة للأسباب نفسها لكن دون تنفيذ. لم يكن الرجل يهتم كثيرا بخبر الإفراج بعد سنوات التعذيب النفسي وحتى الجسدي الذي طاله، والذي قد يكون سببا في الحالة الصحيّة التي وصلها.
يعتبره كثيرون خزّان أسرار الدولة الليبية قبل إسقاط النظام، وحتى بعده. الرجل الذي دخل الحياة السياسية منذ تسعينات القرن الماضي، قادما من مجال الطب والعلوم، لم تتوقف قدراته وطموحاته في السياسة إلا عند رئاسة الوزراء في البلاد (أمين اللجنة الشعبية العامة) أي الرجل الثاني تقريبا في نظام العقيد معمّر القذافي.
الطبيب الليبي المختص في أمراض النساء، والذي قادته حياته الدراسية من مدينة الجميل مركز قبيلته النوايل على حدود تونس، غرب البلاد إلى الزاوية وطرابلس ثم إلى مصر أين تخرّج طبيبا، بدأ العمل في المواقع الإدارية بالمجال الصحي منذ تخرّجه وواصله لسنوات عديدة بالموازاة مع مشروع صحي في مصر تحت إشرافه، ليتجه بعد ذلك نحو المناصب السياسية الرسمية منذ العام 1992، كأمين للجنة الشعبية العامة للصحة والضمان الاجتماعي، التي توازي تقريبا وزارة الصحة في النظم الوزارية، أين قضّى فيها حوالي خمس سنوات، قبل أن يلتحق في العام 1997 بالبرلمان (مؤتمر الشعب العام) ويبقى أمينا مساعدا إلى العام 2000 الذي تقلّد فيه أيضا منصب وزير للخدمات لفترة قصيرة لم تتجاوز 6 أشهر.
بين العام 2000 و2003، بقي المحمودي مراوحا لمواقع إدارية وسياسية بعيدة عن الأضواء، إلى حين اختياره في العام 2003 ليكون نائبا لرئيس الوزراء الليبي الأسبق شكري غانم لمدة تقارب الثلاث سنوات، ثم ليكون خلفا له على رأس أمانة اللجنة الشعبيّة العامة في البلاد منذ مارس 2006، إلى لحظة إسقاط الناتو للنظام العام 2011.
خلال السنوات الخمس التي قضاها المحمودي في رئاسة الوزراء في ليبيا، رياح كثيرة تحرّكت، وملفات كثيرة تحرّكت، ونفوذ قوي اكتسبه، ربما لثقة القذافي فيه، وربّما أيضا لكفاءة الرجل التي جعلته يبقى كل تلك الفترة في ذلك المنصب الحسّاس. المهم أنه اعتبر لدى كثيرين الرجل القوي في النظام أو الحافظ لكل أسراره، ما جعله محط أنظار "الثوار" الذي فهموا أن القبض على المحمودي يعني آليا القبض على أرشيف كامل من الملفات الأمنيّة، لكن كانت خيارات الرجل أسرع نحو وجهة أمنته في مرحلة أولى قبل أن تبيعه في مرحلة ثانية فتحت معها صفحة جدبدة نحو السجن والإهانات والتعذيب.
في شهر أغسطس 2011، ومع انقلاب الصورة في المشهد السياسي الليبي، لم تكن أمام البغدادي المحمودي خيارات كثيرة. ففي ظل مشهد الفوضى الذي عاشته البلاد وانتهى بقطع رقاب وممارسات مهينة، اختار هو أن يتجه نحو تونس. تونس بالنسبة إليه ليست دولة جارة فقط؛ هي عنده الامتداد الاجتماعي والعائلي وما يربطه بها أقوى من مجرّد حدود مرسومة، وعبوره إليها يعني وصوله إلى الموقع الآمن الذي يحفظ له حياته وكرامته، لكن الواقع كان مختلفا.
البغدادي المحمودي في الواقع لم يكن ينوي الإقامة في تونس، الوضع الذي تمرّ به أيضا في تلك الفترة معقّد وصعب، فقرر بعد دخوله إليها بعد أقل من شهر، التوجه نحو الجزائر رفعا للحرج السياسي عن المسؤولين التونسيين، لكن الأخيرين كان لهم رأي مختلف. ففي ولاية توزر المحاذية للجزائر غرب تونس، أوقفته السلطات الأمنية في 23 سبتمبر 2011، بتهم دخول التراب التونسي بطريقة غير شرعيّة، ولتبدأ قصّة أخرى ستجتمع فيها تصفية الحساب مع المال والسياسة.
بعد عمليّة الإيقاف والتأكد من هوية المحمودي، قرر قاضي التحقيق في توزر إيداع المحمودي السجن، للتهم المذكورة سلفا. القرار القضائي لم يأخذ في الاعتبار الظرف الذي تمر به ليبيا ولا رمزية الرجل السياسية ولا حتى سنّه التي كانت تفرض خيارات بديلة تجعله تحت الرقابة دون الوضع في السجن.
قضى المسؤول الليبي السابق حوالي شهر في أحد السجون التونسية قبل أن تصدر محكمة الاستئناف بتوزر، قرارا بالإفراج الفوري عنه، لانتفاء شروط بقائه، الأمر الذي استبشرته بعض القوى المدنيّة والسياسية في تونس على اعتبار الخطوة تخفيف على الرجل من الضغط الذي لم يفارقه منذ مغادرة بلاده حربا من الاقتتال، لكن ذلك لم يدم طويلا مع تنامي نفوذ حركة النهضة الإسلامية ثم إلى وصولها إلى مركز القرار في البلاد بعد انتخابات 2011، حيث وجدت الجماعة الإسلامية في المحمودي فرصة للمساومة مع أطراف مقرّبة لها في ليبيا بهدف تسليم الرجل بناء على طلب ليبي.
لم يتعامل إسلاميو تونس مع ملف البغدادي المحمودي بشكل إنساني. فرغم إدراكهم التام للوضع العام داخل ليبيا وللتهديد الذي قد يطال الرجل في المعتقلات الليبية، إلا أنهم قرروا تسليمه في يونيو 2012، أين جوبه القرار بردّة فعل قوية من الحقوقيين داخل تونس وخارجها، حيث "قالت منظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الانسان إن على تونس ايقاف اجراءات تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي لطرابلس، وذلك لاحتمال تعرضه للتعذيب على ايديها". لكن رئيس الحكومة التونسي آنذاك حمادي الجبالي (المنتمي لحركة النهضة)، كان له رأي آخر وسلّمه إلى المجلس الانتقالي وسط أنباء عن تسلم حكومة الجبالي من المجلس مبلغ 100 مليون دولار، بحسب تقارير إعلامية.
أرسل المحمودي مباشرة إلى سجن الهضبة في طرابلس مخلفا تسليمه جدلا كبيرا في تونس، لتبدأ الأخبار عن عمليات تعذيب يتعرّض لها الرجل من طرف المليشيات التي تراقبه. كان الرجل على بياض شيبه فرصة للناقمين ليمارسوا في حقه الإهانات. ورغم أنه خرج في تصريحات إعلاميّة مفندا الخبر، إلا أن الوضع الذي وجد نفسه فيه ربّما منعه من قول الحقيقة خوفا على حياته.
أياما قليلة بعد الاعتقال، بدأت محاكمات المحمودي التي امتدت لسنوات، وسط تحذيرات من تصفية الحساب من طرف مجموعات خارجة عن القانون تسيطر على عدة مواقع في طرابلس. كان قضاة المحكمة يكررون سلامة الإجراءات القضائية، لكن الانتقادات بقيت تلحقهم في مناسبات كثيرة.
المحاكمات التي كانت تصدر أحكامها أحيانا، وتؤجل جلساتها أحيانا ختمت جلسة الـ28 من يوليو 2015، بإصدار حكم الإعدام على المحمودي وعددا من الرموز الأخرى في نظام العقيد الليبي الراحل وهو حكم قوبل بانتقادات كبيرة بسبب التشكيك في إجراءات المحاكمة.
خلال تلك الفترة كانت أخبار تتحدث عن تدهور الوضع الصحي للرجل، لكن مسؤولي السجن بقوا ينفون ذلك مشيرين إلى توفير كل الظروف الملائمة لعلاجه، إلى حين نشر أخبار في مارس الماضي عن إصدار الحكومة المؤقتة شرق البلاد قرارا بشأن الإفراج عنه لأسباب صحيّة، أيدته بعد ذلك وزارة العدل في حكومة الوفاق التي أمرت بإخلاء سبيله لتعذر علاجه في سجن الهضبة، وقد أثار قرار الإفراج حفيظة إسلاميي ليبيا الذين طالبوا بتطبيق الأحكام الصادرة في حقه، وكأن 7 سنوات سجن لرجل قارب السبعين سنة غير كافية بالنسبة إليهم.